بريجوجين طباخ الرئيس
بريجوجين طباخ الرئيس


«فاجنر».. والصعود للهاوية| التمرد ضد موسكو يكشف خطورة التنظيمات المسلحة وشركات الأمن

آخر ساعة

الجمعة، 30 يونيو 2023 - 07:29 م

مثلما كانت نشأة فاجنر وتطورها لغزا محيرا، فإن الأحداث التي ارتبطت بها مؤخرا تمثل ليس لغزا بل الكثير من الألغاز التى ربما يتمكن البعض من حل بعضها، ولكن المؤكد هو أن هذا الفصيل ومن يقفون وراءه لن يرغبوا فى حل غالبية الألغاز التي ترتبط بهذا الفصيل، وهنا وجب الإشارة إلى ما حذرنا منه فى «آخرساعة» بأعداد سابقة عن خطورة هذه الميليشيات المسلحة، ودورها فى إشعال الأزمة الروسية الأوكرانية.

وشهد يوم الجمعة 23 يونيو، نشر بريجوجين قائد فاجنر مقطع فيديو عن خلافه مع كبار الضباط فى روسيا، وقال فى تسجيلات صوتية إن فاجنر ستقود مسيرة ضد الجيش الروسي، فيما رد جهاز الأمن الروسى بفتح قضية جنائية ضد بريجوجين، وقال بريجوجين إن رجاله عبروا الحدود من أوكرانيا إلى روسيا.

وفي يوم السبت 24 يونيو، دخل مقاتلو فاجنر مدينة روستوف بجنوب روسيا، وناشدت الدفاع الروسية مقاتلى فاجنر التخلى عن زعيمهم، وألقى بوتين خطابا عبر التلفزيون وتعهد بسحق التمرد المسلح، واتهم بوتين بريجوجين «بالخيانة» وبتوجيه «طعنة فى الظهر» لروسيا، وأعلنت المخابرات الروسية فشل تمرد فاجنر، بعد أن كانت قواتها على بعد ٢٠٠ كم من العاصمة موسكو بعد أن قدم رئيس بيلاروسيا لفاجنر مقترحا لإنهاء الأزمة بدعم من بوتين، وأعلن قائد فاجنر إعادة قوافله إلى قواعدها لتجنب إراقة الدماء.

◄ طبيعة خاصة
وقبل كل شيء دعونا نتذكر مرة أخرى كيف نشأ هذا الفصيل أو المجموعة شبه العسكرية، حيث تشير كافة المعلومات العلنية إلى أن فاجنر هذه بدأت تظهر على سطح بعض الأحداث فى 2014 أثناء الأحداث فى دونباص فى أوكرانيا حيث شاركت فى بعض العمليات ذات الطبيعة الخاصة، وتحدثت وسائل الإعلام الأوكرانية ومن بعدها الغربية عن هذه المجموعة التى كانوا يرون أنها مجموعة إجرامية أشبه ما تكون باللهو الخفى، حيث تظهر لتنفيذ عمليات خاطفة وتخفتى دون أى أثر، وبعد ذلك بدأت تظهر معلومات توحى بأن فاجنر هى فصيل شبه عسكرى أشرفت المخابرات العسكرية الروسية على تشكيله بقيادة شخص يعرف باسم ديمترى أوتكين، وهو شخص كان يخدم فى السابق فى القوات الخاصة فى المخابرات العسكرية الروسية، وظل الأمر على هذا الشكل حتى 2016 عندما دُعى أوتكين لحفل تكريم الأبطال العسكريين فى الجيش الروسي فى الكرملين، وهناك تعرف على يفجينى بريجوجين وبعدها بدأ أوتكين يظهر بصفته رئيسا لأحد مطاعم بريجوجين الذى لم يكن أحد يدرى أية علاقة له بهذا الفصيل حتى 2022 عندما فجر أحد صحفيى إذاعة صدى موسكو، واسعة الانتشار فى روسيا، فضيحة علاقة بريجوجين بفاجنر وأنه هو القائد الفعلي لهذه المجموعة التى ظلت الدولة الروسية تنفى حقيقة وجودها، ويؤكد كافة المسئولين فى روسيا وعلى رأسهم رئيس الدولة أن القانون الروسى يحظر ويجرِّم إنشاء أية تشكيلات ذات طبيعة عسكرية.

ومع تطور الأحداث فى سوريا اضطرت الدولة الروسية للسماح بظهور معلومات حول مشاركة فاجنر فى الحرب فى سوريا وبصفة خاصة فى تحرير تدمر وغيرها من العمليات ذات الطبيعة الخاصة.

عند الحديث عن مشاركة فاجنر فى سوريا ينبغى أن نشير إلى حقيقة هامة جدا وهى أن هناك قوتين كان لهما تأثير كبير فى تطور الأحداث فى سوريا، وهاتان القوتان هما فاجنر وفصائل أحمد الشيشانية، ومن وجهة نظرى الشخصية كشخص متابع ليس أكثر أستطيع أن أستشف ظهور نوع من التنافس بين هذين الفصيلين وطبيعة العمليات التى كان يقوم بها كلٌ منهما، ففاجنر هى فصيل شبه عسكرى يتسم بالقوة والتنظيم والتسليح وفى نفس الوقت التشدد والصرامة الشديدة، والدليل على ذلك طبيعة الأداء فى كل مكان تواجد فيه، أما فصيل أحمد فربما تواجده فى سوريا ارتبط أيضا بأنهم فصيل من قوات مسلمة، ويؤكد قادة هذا الفصيل أن تواجدهم فى سوريا ارتبط بإنقاذ الناس أكثر منه إظهار العنف المفرط فى مواجهة القوى الإرهابية والمعارضة، ومن هنا ربما من يتابع الأحداث في سوريا سيجد أن السكان المحليين كانوا يتعاطفون ويتجاوبون مع قوات «أحمد».

◄ عمليات وحشية
ولم يقتصر تواجد فاجنر، رغم إصرار المسئولين فى روسيا على نفى وجود مثل هذا الفصيل فى الأساس، على سوريا بل امتد نطاق عملهم ليشمل مناطق عديدة أخرى مثل ليبيا ومالى وأفريقيا الوسطى والسودان وغيرها من المناطق، وكانت طبيعة عملهم وفقا لبيانات مسئولى المناطق التى يتواجدون بها هى تدريب القوات المحلية لمواجهة جماعات الإرهاب والعنف والسيطرة على الأوضاع فى هذه المناطق، إلا أنه كانت تظهر من وقت إلى آخر أنباء حول عمليات وحشية تقوم بها هذه المجموعة بشكل خاطف ودون أن تترك أثرا لها على غرار تصفية مجموعة الصحفيين الروس فى يونيو من 2018 أثناء محاولتهم تصوير مادة عن نشاط فاجنر فى أفريقيا الوسطى، وهو الحادث الذى أثار اهتمام الرأى العام ودفع على تتبع أنشطة هذا الفصيل وهو ما قاد إلى ظهور معلومات حول أن فاجنر لها تواجد وعلاقات مع نخب المال والحكم فى 25 دولة أفريقية، وأنه أينما يدور الحديث عن مشروعات فى مجال الثروات الطبيعية فى الدول الأفريقية بالضرورة سوف تجد آثارا لتواجد فاجنر لتسهيل سيطرة هذه أو تلك من النخب أو الشركات على هذه الثروات وتمكين تهريبها وتسويقها فى الخارج.

◄ النقطة الفاصلة
عندما تدخلت روسيا فى أوكرانيا، ومهما كانت مبررات التدخل سواء لإنقاذ سكان دونباص أو لوقف المخططات العدوانية من جانب الغرب ضد روسيا بالتعاون مع أوكرانيا أو لإجبار الغرب على احترام مطالب روسيا فى مجال الأمن والمصالح، احتاجت روسيا بسبب طبيعة التدخل كنوع من العمليات الأمنية وليس الحرب الصريحة إلى الاستعانة بمجموعات قتالية مختلفة لإظهار أن الجيش الروسى لا يتدخل بالشكل الكامل ومن بين هذه المجموعات التى استعانت بها روسيا بطبيعة الحال مجموعة فاجنر ومجموعة أحمد الشيشانية وغيرها من مجموعات المتطوعين.

ينبغى هنا أن نشير إلى أن مشاركة فاجنر فى أوكرانيا تعتبر نقطة فاصلة ومرحلة فى منتهى الخطورة بالنسبة لفاجنر، بحيث كان من شأنها أن ترفع أكثر وأكثر من شأنها وتضفى عليها الطابع الشرعى لتعمل فى النور أو تتلاشى دون رجعة، فقبل مشاركة فاجنر فى أوكرانيا كان من الواضح أنها كانت تخضع بشكل صارم ودقيق لبعض مؤسسات الدولة فى روسيا وعلى الأخص الاستخبارات العسكرية، والبعض يوحى بأنه ربما كانت تخضع بشكل ما للجهاز الفيدرالى للأمن، ولم تكن الدولة تضن عليها بالرعاية حيث تحدث بريجوجين ذاته عن أن تمويل فاجنر ربما يتعدى المائة مليون دولار وأن عدد أعضائها تزايد من 300 فرد فى البداية إلى بضعة آلاف ثم عشرات الآلاف وهو ما يشبه الجيش شبه النظامي، إلا أن الأداء الرفيع الذى أظهره مقاتلو فاجنر فى دونباص بفضل ارتفاع مستوى التدريب والتسليح وقبل كل شيء الطابع القاسى جدا فى الأداء، هذا الأداء وتحقيق الانتصار تلو الآخر أدى إلى نوع من الزهو والتفاخر ليس فقط وسط قيادات الفصيل بل ولدى القيادة العليا له والمتمثلة في بريجوجين الذى بدأ يناطح القيادات العسكرية فى الجيش الروسى ولا يمتثل للأوامر بل ويوجه لها ليس الانتقاد بل والتوبيخ عبر وسائل الإعلام المختلفة، رغم ما ترفضه السلطات الروسية من قواعد محددة لوسائل الإعلام فى مجال تغطية الأحداث فى العملية العسكرية الخاصة وعلى الأخص فى مجال انتقاد الجيش وأدائه.

◄ الصدام
وكان بريجوجين قد وجه انتقادات حادة للغاية ضد وزير الدفاع الروسى سيرجى شايجو ورئيس الأركان فاليرى جيراسيموف فى نهاية العام الماضى عندما اشتكى من تأخر الإمدادات على قواته، وأوحى بأن ذلك سوف يعرض تقدم روسيا وتمسكها بالأرضى التى حصلت عليها للخطر، وتطور الصدام بين هذا الرجل وقيادات الجيش إلى المدى الذى استوجب تدخل الكرملين لحل المشكلة وتأكيد أنه لا توجد أية مشاكل فى إمدادات القوات وأنه لا يوجد فارق فى إمداد القوات الرسمية والقوات غير الرسمية، وظن الجميع أن هذه ليست سوى سحابة صيف ومرت، وأن الكرملين احتوى الموقف، إلا أن فاجنر لم تتخل عن أسلوبها فى مجال إظهار أنها السبب فى التقدم والانتصارات والتهوين من أداء القوات الرسمية، الأمر الذى أثر بشكل واضح على ثقة الرأى العام فى الجيش وربما كاد يؤثر على نفسية الجنود في الجيش الروسي.

ومؤخرا قرر الجيش تشديد قبضته على كافة فصائل المتطوعين وإخضاعهم للنسق القيادى اللازم والمطلوب للدولة ممثلة فى وزارة الدفاع حيث فتحت الباب أمام إبرام عقود بين وزارة الدفاع وبين الفصائل المقاتلة المختلفة مع تقديم امتيازات للأفراد لم يسبق لها مثيل مثل إدراجها فى صفوف القوات الروسية ومنحهم حقوقا مالية وحصانات ضد الملاحقة القضائية بل وإعفاء من المسئولية الجنائية فى حال التورط فى أية قضايا سابقة، بشرط مواصلة القتال حتى النهاية أو الإصابة أو الحصول على تكريم نظير البطولة والأداء المشرف، وسارعت مختلف الفصائل للامتثال لأوامر وزارة الدفاع والتوقيع على العقد معها وعلى رأسهم مجموعة أحمد الشيشانية التى يقودها الرئيس الشيشاني رمضان قاديروف، التى لا يختلف اثنان على ارتفاع أدائها وتدريب ومهارة أفرادها، إلا أن فاجنر رفضت التوقيع، وقبل ذلك رفضت الامتثال لأوامر التنسيق مع قيادات الجيش بل وأصدر قائدها بريجوجين أوامر بالعودة دون تنسيق إلى مواقع الانتشار الدائم فى موسكو، وهو ما أثار الذعر فى أول إقليم تمر به القوات وهو إقليم روستوف نا دانو.

◄ اقرأ أيضًا | ترامب: فاجنر وزعيمها بريجوجين أضعفا بوتين

وظن البعض أن روسيا على وشك مواجهة أمر محرج ومواجهة بين قواتها أثناء الحرب، إلا أن الكرملين والرئيس الروسى فلاديمير بوتين أظهرا من جديد مدى الحنكة والقدرة على التحرك السريع واحتواء الموقف حيث نجحت دون ضجة إعلامية فى التوصل لتفاهم «ما» مع قائد فاجنر، ويعود الفضل أيضا فى هذا الأمر إلى الرئيس البيلاروسي الذى اتفق مع بريجوجين على الانتقال هو وربما بعض قيادات فاجنر الأخرى إلى بيلاروسيا على أن تعود قوات فاجنر إلى ثكناتها وتوقع على الاتفاق مع وزارة الدفاع الروسية شأنها شأن بقية الفصائل المسلحة.
ناقوس الخطر

وهنا ينبغي أن نسلط الضوء على عدة ملاحظات فى تطور هذه الأزمة، فقبل عدة أسابيع بدأت تظهر فى وسائل الإعلام الروسية أنباء عن التفكير فى تطوير فاجنر وإخضاعها بشكل كامل لمؤسسات الدولة من خلال انخراط قياداتها فى العمل السياسى، حيث ظهرت أنباء عن أن بعض الأحزاب الروسية ليس لديها مانع من ضم قيادات فاجنر لها وعلى الأخص بريجوجين الذى ألمح حزب «روسيا عادلة – من أجل الحق» على أنه على استعداد لقبول عضويته بل وترشيحه فى الانتخابات القادمة، وأشار البعض الآخر إلى أنه ربما يتم تشكيل حزب سياسى جديد يضم قيادات فاجنر وترشحهم فى الانتخابات وعلى الأخص انتخابات الحكم المحلى.

وبعد ذلك ظهرت تلميحات بإمكانية عودة فاجنر لأداء مهامها السابقة فى دول أفريقيا مثل السودان، إلا أن قيادات الفصيل ربما لم تستوعب هذه الرسائل وحاولت مناطحة النخبة العسكرية فى روسيا، وهو الأمر غير المقبول بالمرة لا فى زمن الحرب ولا حتى فى زمن السلم، وكاد الطموح المبالغ فيه لدى قيادات فاجنر أن يضعهم فى مواجهة دموية مع الدولة ويعرض روسيا فى هذا الوقت الحرج لمواقف محرجة للغاية، لولا تدخل الرئيس البيلاروسى ألكسندر لوكاشينكو الذى سمح لقائد الفصيل بخروج آمن من روسيا.

وأعتقد أن روسيا ذاتها كانت تفكر بشكل جدى فى وضع نهاية لتشكيل فاجنر بعد أن ارتبط اسمه بالوحشية فى الأداء وبارتكاب الكثير من الجرائم التى تضع الدولة الروسية فى موقف حرج لدرجة اتهامها بجرائم الحرب وتوريط اسمها فى جرائم ارتكبها الفصيل فى مختلف الدول باسم مساعدة أنظمتها فى التدريب أو الأمن أو مواجهة المعارضة تحت ستار مكافحة الإرهاب.

ربما أن قصة فاجنر هذه تظهر مجددا مدى خطورة التنظيمات المسلحة شبه العسكرية وشركات الأمن التي كثرت بشكل واسع فى العالم وما قد يسفر عنه التنافس سواء فيما بينها أو بينها وبين مؤسسات الدولة التى كانت تستغلها للسيطرة على مقدرات الدول والقيام بمهام خارج نطاق القوانين والأنظمة المختلفة للدول والعالم بصفة عامة، خاصة أنه يخطئ من يعتقد أن فصول هذه المسرحية قد انتهت بالفعل، بل إنها بداية فقط لما قد يظهر فى المستقبل من نزاعات ومواجهات، حيث إن فاجنر كان محتما لها التوارى بعد أن افتضح أمرها وانتهت مهمتها بظهور فصائل وتشكيلات أخرى من مختلف الجوانب سواء الروسية أو الأوكرانية أو مختلف الدول التى تساند كل فريق، حيث يجب اليوم قبل الغد طرح التساؤل عن مآل هذه التشكيلات بعد انتهاء النزاع فى أوكرانيا؟!

 

 

الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة