خروج المحمل للفنان ليوناردو دى مانجو
خروج المحمل للفنان ليوناردو دى مانجو


الرحلة من مصر| «المحمل».. ذاكرة للفن والتدوين

آخر ساعة

الجمعة، 30 يونيو 2023 - 08:52 م

كتب: رشيد غمري

على مدى قرون ظل خروج المحمل من القاهرة إلى مكة حدثا استثنائيا فى وجدان المصريين. الموكب الذى حظى باهتمام رسمى وشعبي فى كلا البلدين طوال مئات السنين، أثر أيضا فى العديد من الفنانين والرحالة الذين شاهدوه، فسجلوه كتابة ورسما، وتصويرا فوتوغرافيا.

ومن المدهش أنه ورغم توقفه منذ الستينيات إلا أن ذكراه ما زالت قادرة على إلهام الفنانين للتعبير عنه إلى اليوم.

قبل سنوات شهدت إحدى قاعات الفن بالقاهرة معرضا بعنوان «المحفل.. نظرة ثانية»، للفنانة البريطانية «هنا ستيفنسون». واعتمد عملها على أقدم صور فوتوغرافية له، وهى لثلاثة من المصريين هم محمد صادق بك، و«إبراهيم رفعت باشا»، و«محمد على أفندى سعودى». وقد نفذت اللوحات من خلال إعادة الرسم على آثار الصور. وذكرت الفنانة وقتها أن مشروعها مستمر، وربما يمتد العمر كله، لأن الطاقة التى تكمن فى صور المحفل أكبر من أن يستوعبها معرض.

◄ محمد صادق أول من صور المحمل والكعبة والمسجد النبوى

◄ بين التصوير والتدوين

كان المصرى محمد صادق أول من صور المحمل، والأراضي المقدسة على الإطلاق. وإليه تنسب الصورة الأولى للمدينة المنورة بتاريخ 11 فبراير عام 1861. وقد سبق المستشرق الهولندى «سنوك هورخونيه» صاحب أقدم صور أوروبية للأماكن المقدسة بأربع وعشرين سنة.

وكان «صادق» قد تدرب على التصوير الفوتوغرافى ورسم الخرائط فى فرنسا، وعاد ليعمل برتبة عقيد فى المساحة العسكرية. ورافق المحمل طوال العشرين سنة التالية كمسئول عن التأمين. ولكن رحلته عام 1881 بوصفه «أمين صرة المحمل» هى ما سجل تفاصيلها فى كتابه «رحلة مشعل المحمل».

ودون فيه يوميات الحدث من مرحلة التجهيزات والاحتفال والسفر، وحتى العودة إلى القاهرة. واهتم بذكر مواعيد التحرك والوصول ودرجة الحرارة فى كل محطة، وحتى البنود المالية المتعلقة برواتب العربان والقبائل على طول الطريق، والكسوة التى كانت ترسل كهدية إلى أعيان القبائل، والتى كانوا يعتبرونها تشريفا من الحكومة المصرية، حتى أن أحد كبار الشيوخ، تصادف أن فقدت كسوته، فعرضوا عليه مبلغا ماليا عوضا عنها فرفض، وقبل بدلا من ذلك كسوة من رتبة أقل.

◄ محطات
يذكر محمد صادق أن صرة المحمل كانت تضم 1363417 «غرشا»، وأنهم كانوا يحملون معهم ثلاثين قنطارا من الحلوى، وثلاثة قناطير من الشمع السكندرى، وملابس وأقمشة وشيلان. ويشير إلى تسليم الخديو «توفيق» بنفسه زمام جمل المحمل لأمير الحج، والذى كان يحمل الكسوة الشريفة المكونة من إحدى عشرة قطعة. ويذكر أنه لم يكن بالموكب من الحجاج الأغنياء أحد، نظرا لانتقالهم بحرا. ويصف دخولهم السويس بعد ثلاثة أيام، فى موكب احتفالى استقبلهم به المحافظ والأعيان والمشايخ. وحصلوا على المئونة التى تكفى البشر والدواب حتى قلعة «نخل» فى وسط سيناء، والتى وصلوها بعد أربعة أيام، ليتابعوا المسير إلى العقبة. وبنزول الموكب جنوبا يصف تفاصيل صرف رواتب العربان مع الملابس والشيلان الكشميرية وحاويات الأطعمة والحلوى والشاش. 

◄ إبراهيم رفعت باشا وثق أبرز تغيرات المحمل بداية القرن العشرين

◄ مرآة الحرمين

اشتمل الكتاب المصوَّر «مرآة الحرمين» لإبراهيم رفعت باشا، على يوميات المحمل عام 1901، أى بعد عشرين سنة من رحلة «صادق». وتظهر اختلافات عديدة، أهمها أنه بعد الاحتفال التقليدى، تحرك المحمل من العباسية بالقطار حاملا البشر والدواب والأمتعة. وتستكمل الرحلة من السويس بحرا، وصولا إلى ميناء جدة. ويصف قبل ذلك الاحتفال الذى بدأ يوم 16 فبراير، ونقل جزء من الكسوة بأحزمتها الحريرية المزخرفة بالذهب من مصنعها بالخرنفش إلى ميدان صلاح الدين محمولة على الأكتاف، يتقدمهم مأمور الكسوة، حاملا كيس مفتاح الكعبة.

وعرضت الكسوة على مصطبة مخصصة بالميدان، فى احتفال حضره الخديو، قبل تحرك المحمل إلى العباسية. كما يذكر زيارته لشريف مكة، ولقاءه بأشراف المدينة الذين طلبوا منه أن تكون رواتب الأشراف بالريال المصرى.

وتقدموا له بشكوى تتعلق بما فعله نظار التكية المصرية فى مكة بتحويل نوافذها إلى أبواب حوانيت اقتطعت من مساحتها. وذكر أن تكلفة الاحتفال بموكب المحمل فى القاهرة 100 جنيه، وأن مخصصات التكيتين المصريتين فى مكة والمدينة 3550 جنيها.

وبلغ إجمالى تكاليف رحلة الحج 18893 جنيها مصريا. وهو ما يعادل اليوم أكثر من 338 مليون جنيه، استنادا إلى قيمة الجنيه الذهبى. وأشار إلى وباء نقله الحجاج العائدون فى العام السابق، وبسببه تقرر لأول مرة فى التاريخ إلغاء الحج الفردى، واشتراط أن يتم من خلال رحلة جماعية تشرف عليها الدولة، وتتولى مهام الحجر والرعاية الصحية بها، نظير مبالغ مالية، تسببت فى تقليل عدد الحجاج ذلك العام. 

◄ مذكرات سعودي
رافق محمد على أفندي سعودي المحمل خلال العقد الأول من القرن العشرين. وكان موظفا ومصورا مصريا، دونّ مذكرات الرحلة، كما قام بتصوير مراحلها. وأشار إلى التغيرات التى طرأت عليها بسبب استحداث الانتقال بحرا، والجهود المبذولة لاحتواء وباء الكوليرا الذى كان ينتقل من الحجاج القادمين من الهند، وتنتقل عدواه إلى الحجاج المصريين. وذكر تعرض قوافل الحج للهجوم من البدو مرتين، بسبب غضبهم من إنشاء خط للسكك الحديدية بين دمشق والحجاز. وقد صدرت تلك المذكرات - بعد العثور عليها - فى كتاب مصور للمؤلفين «فريد قيومجى» و«روبرت جراهام»، حمل عنوان «مصور فى الحج.. رحلات محمد على أفندى سعودى 1904-1908».

■ تشريفة المحمل 

◄ هودج شجرة الدر تحول إلى جمل المحمل

◄ كتابات الرحالة
ذكر ابن بطوطة المحمل قائلا: «هو يوم دوران الجمل، وهو يوم مشهود، وكيفية ترتيبهم فيه أنه يركب فيه القضاة الأربعة، ووكيل بيت المال، والمحتسب، وأعلام الفقهاء، وأرباب الدولة، ويقصدون جميعا باب القلعة، دار الملك الناصر، فيخرج لهم المحمل على جمل، وأمامه الأمير المعين لسفر الحجاز، ومعه عسكره والسقاءون على جمالهم، ويجتمع لذلك أصناف الناس من الرجال والنساء، ثم يطوفون بالمحمل بمدينة القاهرة ومصر، والحداة يحدون أمامهم». 

وعلاقة مصر بكسوة الكعبة هى من عمر الإسلام تقريبا؛ فقد كساها كل من عمر، وعثمان بالقباطى المصرية، وهى نسيج أبيض مميز، ينسب اسمه إلى صانعيه من قبط مصر. واستمر الأمر طوال الحقبة الأموية، حيث كانت تكسى بكسوتين إحداهما من الديباج يوم عاشوراء، والأخرى بالقباطى يوم التاسع والعشرين من رمضان. وكانت الكسوة الجديدة توضع فوق الكسوات القديمة، حتى عام 160 هجريا، حيث قرر الخليفة المهدى العباسى نزع القديمة خشية أن يهدم ثقلها البناء، وأن توضع الجديدة فقط. وفى عهد المأمون، صارت تكسى بثلاث كسوات فى السنة: القباطى أول رجب، والديباج الأبيض فى السابع والعشرين من رمضان، والديباج الأحمر يوم التروية. وذكر «المقريزى» أن مدينة «تينيس» قرب دمياط هى من المدن الجليلة حيث تصنع بها كسوة الكعبة. وفى كتاب «أخبار مكة» ذكر «الفكاهي» أنه رأى فى كسوة الكعبة قطعة من القباطى مكتوبا عليها بخط أسود دقيق: «مما أمر به أمير المؤمنين المأمون سنة ست ومائتين». كما رأى قطعة من كسا «المهدى» مكتوبا عليها: «مما أمر أن يصنع على طراز «تينيس» على يد الحكم بن عبيدة سنة اثنتين وستين ومائة.» وذكرت قرية «تونة» من أعمال «تينيس» فى كسوة ترجع إلى عهد هارون الرشيد سنة تسعين ومائة. ويذكر أن الظاهر بيبرس قد كساها منذ سنة 658 هجريا بالتناوب مع الملك المظفر حاكم اليمن إلى أن انفرد بها المماليك.

وقد أوقف الملك الصالح عماد الدين ابن الناصر محمد بن قلاوون عليها قريتين بالقليوبية هما «باسوس» و«سندبيس» لكسوة الكعبة سنويا وكسوتين حمراء وخضراء للحجرة النبوية كل خمس سنوات. ومنذ عهد «محمد على» اختصت مصر بالكسوة الخارجية للكعبة، وآل عثمان فى تركيا بالكسوة الداخلية والحجرة النبوية، وخصص مقر للكسوة بحى الخرنفش بالقاهرة.

وذكر الجبرتى أن المحمل كان يخترق القلعة فى موكب عظيم يتجه إلى جامع الإمام الحسين، ويبقى هناك حتى موعد خروجه مع قافلة الحج. كما ذكر على مبارك فى خططه أن الكسوة كانت تصل إلى جامع الحسين، وتخاط فيه قبل أن تحمل إلى مكة.

ويرى محمد لبيب البتانونى الذى صحب «عباس حلمى الثانى» فى رحلة حجه عام 1909 أن أصل المحمل يرجع إلى هودج «شجرة الدر»، الذى استقلته خلال رحلة حجها، ثم صار يسير أمام قافلة الحج حاملا الكسوة. كما ذكر أن المحمل كان يدخل المدينة المنورة أولا بموكب عظيم من الباب المصرى، ويبقى فيها حتى يخرج إلى مكة فى احتفال آخر. 

■ حمل الكسوة أواخر القرن التاسع عشر

◄ كسوة الكعبة من القباطي إلى الحرير المذهب

◄ انطباعات عالمية
تحدث المستشرق «إدوارد لين» عن المحمل كما عاينه عام 1834 واصفا خروج الكسوة من القلعة إلى جامع الحسين لتخاط فيه. كما وصف الأديب والرحالة الفرنسى «جيرار دى نيرفال» احتفال العودة عام 1843عند باب الفتوح، حيث رفعت الرايات وقرعت الطبول ونفخت الأبواق، وردد الدراويش الأذكار، وركب الأعيان وكبار المسئولين الأحصنة، بملابسهم الرسمية، وفى الخلفية شاهد فوق تلة عالية آلاف الخيام الملونة التى نصبها الحجاج العائدون للاستراحة قبل دخول القاهرة.

كما وصف القنصل الأمريكى فى مصر فى سبعينيات القرن التاسع عشر موكب المحمل بأنه أجمل ما يمكن رؤيته فى القاهرة. وذكر أن مصر تنفق على المحمل ورحلة الحج ثلاثة أضعاف ما تنفقه على المدارس. 

كذلك ظهر المحمل فى عديد من اللوحات لفنانى العالم الذين انبهروا به كطقس احتفالى ومنهم «كونستانتين ماكوفسكى» و«جورج إيمانويل أوبيز» و«ريتشارد دالتون» و«ليوناردو دى مانجو» وحتى القس الفنان «كوبر وليامز».

وفى مصر ما زال بعض الفنانين الشعبيين يعيدون رسمه على الجدران كل عام، ومنهم الفنان عيد السلواوى.


الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة