الكاتب محمود حمدون
الكاتب محمود حمدون


«سيد الناس» قصة قصيرة للكاتب محمود حمدون

صفوت ناصف

الجمعة، 14 يوليه 2023 - 07:43 م

"سيدُ الناس" أكثر من عرفت صلاحًا وتقوى، هو واحد من دائرة صغيرة تضيق وتلتف حول الشيخ "عبد المولى" ذلك القطب الصوفي الكبير، رقيق الحال في مظهره، لكنه يسمو ويعلو بمرتبه فوق باقي الخلق حولنا.

ما يميّز "سيد الناس" عن غيره من المريدين إخلاصه الشديد وحبه الجارف للشيخ، فكنت أراه يدور في فلك حول " شيخه" ليل نهار، يحج إليه كلما أعوزته الحاجة أو ضاق به الحال، فإن هلّ "عبد المولى" على رأس الشارع من بعيد، كنت أجد "سيد الناس " في كرب لكن ليس من فزع ورعب بل وجل المحب العاشق، إذ تغيم الرؤية بنظره فيختفي العالم بحواضره وبواديه ولا يبقى إلاّ  كبيره .

 

حال استمر سنوات طويلة، وقد اعتاد الناس رؤية الإثنين معًا. نجم يدور حوله كوكب وحيد, حتى أيقن الجميع أن التابع خاتم بيد متبوعه، ميت بين يدي مُغسّله يفعل به ما يشاء، ثقة لا نهائية وطاعة عمياء .

بينما كان " ديسمبر " الماضي يقضي أيامه الأخيرة دق  هاتف " سيد الناس ", مكالمة مقتضبة أتته من قطبه الكبير, أمره قائلًا : يا "سيد" , عليك بالذهاب إلى تلك الحارة الضيقة المغلقة من نهايتها بسور حجري كبير لمحلج القطن المهجور بميدان " الحواتم " من جهة الطريق السريع, عندما تصل إليها ستجد فقيرًا أسمر البشرة يقترب من السواد, نحيف من جوع يرافقه دومًا , يعلو وجهه صفار من مرض عضال توطّن جسده منذ مولده. فإن رأيت طيفه, اخلع نعليك في حضرته , عليك بالركض نحوه والركوع تحت قدميه, كن خادمًا له .

 

تلعثم " التابع " هنيهة ثم ندّت عن فمه جملة مقتضبة: أعرف "جبران" حق المعرفة كما أعرف الباقيين من أشباهه وفصيله, لكن.. هل أخدم فقيرًا بائًسا ؟ مثله وغيره وعشيرته تعج بهم الحواري والأزقة في " جنينة الحصري, الصاغة القديمة, الشطّ القبلي والبحري, سيدي علي الروبي, الصوفي, غيرها من الأحياء القديمة بالمدينة", علا صوته بحذر, أكمل: أنا أدهسهم بقدمي هذه وخبط بعنف على قصبة ساقه اليمنى, ثم أردف في عصبية ظاهرة: أتلك نهاية لطاعتي لك ؟

- وهل ..

لكن وقبل أن يطرح " سيد" سؤاله, عاجله الكبير بعبارة أشد إيجازًا لكنها حملت بين طيّاتها الكثير من النٌذر, ينهي المكالمة الهاتفية, بلهجة وعيد ممزوجة بأمر بات:  إذهب إلى هذا البائس من فورك, أطعه فيما يأمرك, سر وراءه كظله, لا ترجع إليّ إلاّ حينما يطردك من رحمته أو يٌعفيك من خدمته .

 

 ثم كأنما يتذّكر أمرًا ضروريًا, عقّب الشيخ قائلًا: لا أجر لك لقاء ما تقدمه إلى "جبران", من خدمات, يكفي أن تنال رضاه.

أصاب التابع كدر وغم أحاطا به,  بعدما أغلق الخط ,همس لنفسه: أي ألم هذا, يعصر قلبي كسيخ حديد ! .

ثم دور حول نفسه كأنما يبحث عن ملجأ أو معين, أو يهرب من خطرًا يقترب منه, سأل بصوت مسموع: لمَ يفعل  شيخي "عبد المولى " ذلك بيّ ؟! أأقبل ؟ أأرضى بعد هذا العمر الطويل في خدمة سيدي أن أكون عبدًا لآخر ؟! لعمري تلك طامة حلّت على رأسي , كارثة لم أتحسب لها من قبل .

 

 

 ثم شبك أصابعه في بعضهما, ضغط بقوة كأنما يعصر الكون بين راحتيه, صاح: لكن,  قلبي يأبى ذلك, عقلي يرفض هذا المنطق..

 اعتراه غيظ وبصوت عال زعق في الفراغ من حوله: قرار لا رجعة فيه لن أطيع سواك, ثم أودع رفضه رسالة بعث بها إلى سيّده, وضعها بمغلّف سميك مٌحكم الغلق, ثم صدّر المكتوب من طرفه من أعلى من جهة اليسار بخط ديواني شديد الجمال: من مولاك المطيع  إلى " عبد المولى " شمس الكون, ضياء السماء ..

عندما وصلت الرسالة للكبير, قرأها وتصاعد غضب شمل قسمات وجهه, قبض على الوريقة بيده القوية, عصرها بأصابعه الغليظة ثم كوّرها وألقى بها في سلة قمامة تجاور مكتبه العتيق, قال للوسيط: لعنة السماء تنزل على من يرفض أمري, راجع هذا المأفون فيما قال, حذّره مغبّة تصرفه الأهوج, أعلِنه بغضبي الشديد منه, بَصِّره بعاقبة ما يفعل..

 

كانت أوصال " الوسيط "وهو شيخ كبير يقارب التسعين, ترتجف وهو يقف أمام العملاق  وندم يلفّه, محدّثًا نفسه: مالي بهذا الموقف الذي وضعت نفسي فيه ؟

 زادت رجفته وهو يتذكر ثِقَل المهمة, كيف ينقل الوعيد إلى " سيد". كممسوس همس لنفسه وهو يتلفّت حوله: أي مصيبة ستنزل على رأس " سيد الناس " ! كيف أنقل له الرسالة ؟ ثم كيف لم يسامحه الشيخ على هفوة كهذه على فرض أنه أخطأ فعلًا ؟!

-أخرجه صوت الشيخ كسوط ألهب عقله: انصرف,أخبره ولا تنتظر ردًا.

ساعة أو تقل قليلًا, و قد تشرّب فؤاد " سيد الناس " بإنذار الكبير" عبد المولى " أدرك بفطرته أن الفخ قد سيق إليه بحكمة الداهية, وحنكة من يمزج الدهاء بالزمن فيخلطهما معها, حيث لا فكاك أو مهرب لأحد من أتباعه,  لكن أدرك " سيد" هذا بعد أن سبق السيف العزل .

فأمعن في غيّه, زاد من تمرّده  بأن ألقى عبارة قاطعة في وجه الوسيط, كانت رسالة أشد إيجازًا بعث بها المولى لمولاه,صرخ بقوة: لا, لن يركب "جبران", على كتفي .. بعدها  انحنى قوس الزمن تحت وطأة الإخلاص.

اقرأ أيضا |  «زمان الخير» قصيدة للشاعر عبد الباسط الغرابلي

 

 

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 

مشاركة