يسرى الفخرانى
يسرى الفخرانى


فنجان قهوة

أيام مدام كريستينا!

أخبار اليوم

الجمعة، 21 يوليه 2023 - 08:41 م

كُنا نخرج من سينما مترو شامخة بمبناها العتيق وأفيشاتها الملونة المبهرة على أحد نواصى شارع صفية زغلول فى الاسكندرية ونمشى كم خُطوة فنكون فى مقهى (ايليت) الذى تزين جدرانه الخشبية لوحات سيف وأدهم وانلى، وهناك التقيت بمدام كريستينا.

كريستينا فيليب كوستانتينو المتألقة دوما بسنواتها السبعينية وشعرها الأبيض الذى يفسر لكنتها التى خلطت بإتقان بين يونانيتها الأصيلة وسكندريتها المتوهجة، سيجارتها التى لا تغادر يدها المعروقتين بالسنين الطويلة التى امتلكت فيها هذا المقهى الخشبى الذى يشبه الكوخ وأدارته بعشق أبدى جعلته مُلتقى العظماء من الخمسينيات حتى نهاية الثمانينيات.

مدام كريستينا التى تجلس على كرسيها الخشبى وتشبه بطلات القصص التى تدور فى أروقة القصور الملكية كانت تعشق الإسكندرية حتى أنها رفضت أن تغادرها مع من غادروها فى الحرب العالمية الثانية وومضات الغارات التى كانت تضرب بقسوة شوارع وسط البلد، احتمت بجدران المقهى واحتمى بها معلنة أن قصتهما معا أبدية، ولما مشت عائلات كثيرة فى الخمسينيات والستينيات إلى اليونان مودعين المدينة الجميلة هى قالت إنها ستموت فى مدينتها الإسكندرية وتدفن بالقرب من مرفأها الأجمل مقهى إيليت.

كانت حكايات مدام كريستينا بتلك الحروف المصرية التى تتكئ على لسانها اليونانى هى الحكايات التى تأخذك من يديك لترى الإسكندرية التى لم تعشها كاملة، حيث قصص الحب والحرب والثراء والموسيقى والفنون والأحلام العظيمة، حيث سكن البحر فى قصور تشبه ألف ليلة فى صحراء الرمل، حكايات تحمل أسماء جناكليس وشيكوريل وطوسون ولوران. 

كانت تعشق أم كلثوم وترى أن صوتها يأتى من مغارة سحرية بعيدة، وعندما وجدت أم كلثوم تدخل مقهاها فى منتصف الستينيات لتناول الغذاء، ضايفتها بنفسها، وصارحتها بأنها تحبها بنفس القدر الذى تحب به هذا المكان، وغنت معها وكانت تملك صوتا جميلا يحبه سيف وانلى الذى أهداها لوحاته مقابل فناجين قهوتها!

تذكرت كريستينا أمس وأنا أتذكر أيامى الجميلة فى إسكندرية الحلوة، الشوارع الضيقة التى تذهب دوما إلى البحر، أينما سارت قدماك وجدت مبانى عتيقة تحمى آخر ما تبقى من ذكرياتها وبحرا يتسع للجميع.

تلك أيام لم تعد معنا.. ولا حكايات مدام كريستينا معنا، كانت الحياة بسيطة، نقف على مقربة من كل الأشياء الجميلة دون مجهود يُذكر، يكفيك أن تحب، يكفيك أن تتمنى وقتا جميلا فتجده فى تذكرة سينما تقطعها من الشباك الزجاجى فى مترو أو ستراند أو أمير أو راديو، تجدها فى تمشية إلى إيليت أو تريانون أو البن البرازيلى.

القلوب التى تحب الحياة هى التى تستطيع أن تصنع أماكن جميلة، يسكبون من أرواحهم الرائعة على الجدران والمقاعد والطاولات والعتبات فتتحول إلى سحر طاغى، وقد كانت مدام كريستينا، فإذا غابوا تحول السحر إلى وحشة موجعة بطريقة لا يمكن الفرار منها.
 

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة