ياسر عبد الحافظ يكتب :مدونة الحياة الثقافية المصرية
ياسر عبد الحافظ يكتب :مدونة الحياة الثقافية المصرية


ياسر عبد الحافظ يكتب :مدونة الحياة الثقافية المصرية

أخبار الأدب

الأحد، 23 يوليه 2023 - 12:06 م

صدرت أخبار الأدب فى زمن فارق، تسعينيات القرن الفائت حيث ظرف عام كان يتشكل بصورة متسارعة فى مصر يقوده، بلا أى قدر من التخطيط، جيل أصابه الملل من جمود الحالة الثقافية عمومًا وبشكل خاص على الصعيد الفني، الأغانى والأفلام والدراما تستنسخ نفسها مرارًا وتكرارًا فى حراسة رؤية ستينية بدا أنها سجينة لحظة زمنية عاجزة عن الخروج منها، فمع إيمان ذلك الجيل الراسخ بالفن والثقافة باعتبارهما من أعمدة الحضارة المصرية الأساسية إلا أن الربط الدعائى بين الثقافة والسياسة أضعف البوصلة المعيارية الفنية لجيل الستينيات ما أفقدها اتزانها عندما تهاوت الأحلام القومية الرومانتيكية.

أتذكر ذلك اليوم غير أنه لا يمكننى القطع بتاريخه، كأنه عيد ما أعلنت من خلاله البلد، بأكملها تقريبًا، تبنيها نوعًا مغايرًا من الفن، غناء جماعى يخلخل ثوابت البنيان القديم، نظرة إلى الفن متحررة من القوالب سرعان ما تنتقل من الغناء إلى السينما، فى إعلان لا ينقصه الوضوح عن نهاية عصر كامل بمطربيه وممثليه ورؤيته للفن والدراما.


ومع أن التغير فى محتواه كله لم يخرج عن الفن إلا أن ردود الفعل الرسمية فى مواجهته اتسمت بالمبالغة وبقدر غريب من التشكك والعدائية لا يتناسب مع ما تفترضه الثقافة والفن من رحابة وتسامح، بدلًا منهما تم اللجوء لأساليب التوجيه فى محاولة لوأد الموجة التسعينية المتمردة فى مهدها، وفى سبيل هذا قامت حملة شعارها الحسرة على زمن الفن الجيمل وقيمه وأخلاقه، ونداءات إلى المتلقى بغرض استعادته إلى مساحة الفن الآمنة، إثارة انتباهه إلى تفاهة المضمون الفنى التسعيني، وإلى ما يوشك أن يفقده.. ليس مجرد تغير فى ذوق فنى بل استلاب وضياع. ولفترة من الزمن عاش المتلقى مرتبكًا بين الرقص على الإيقاع التسعينى الجديد وبين سماع تحذيرات الإعلام الرسمى من خطورة التعرض لهذا الذى لا يمكن تسميته فنًا.


الصراع نفسه، لكن على صورة أكثر عمقًا ونقدًا وتحليلًا، دار على الصعيد الأدبى غير أنه لم تكن من وسيلة لرصده ومتابعته فى ظل سيطرة أكثر إحكامًا من الأجيال الأقدم على مجالى الأدب والنقد متجاهلة نظريات ورؤى نقدية مغايرة تتشكل وسط مجموعات مصغرة لا تملك تأثيرًا أبعد من الجلسات المنعقدة على المقاهي!


صدرت «أخبار الأدب» فى قلب ذلك الصراع وكان لجهة إصدارها عامل كبير فى أن يكون للجريدة دور بالغ التأثير فى جدل ثقافى محتدم، فى قلب النقاش ما بين الماضى والحاضر.


 أى كتابة عن «أخبار الأدب» لن يكون فى استطاعتها تبين دلالة التجربة، وعلاقتها ب الثقافة المصرية، والعربية كذلك، ولن تتمكن من رصد إيجابيات وسلبيات التجربة على نحو شامل إن لم تضع فى حسبانها طبيعة جهة إصدارها (مؤسسة أخبار اليوم) فذلك أحد النقاط الجوهرية التى تميزها عن مطبوعات ثقافية أخرى، ذلك أن أساس ما انبنى فوقه تاريخ الجريدة وحاضرها ومستقبلها ارتبط إلى حد بعيد بالفلسفة الصحفية لمدرسة الأخبار صاحبة التاريخ الحافل والمثير.


أحد الأسس التى تقوم عليها فلسفة عمل مدرسة الأخبار الصحفية، وضمنت لها طوال تاريخها مكانة مرموقة وسط تنوع الصحافة المصرية، انحيازها بجرأة لما يريد الشارع أن يقرأه، ووفق هذه الرؤية فإن التعامل مع المتغيرات الساخنة على الساحة الثقافية المصرية كان عنصراً أساسيًا ورؤية مهيمنة على عمل «أخبار الأدب» معظم أوقات الثلاثين عامًا الماضية، وعلى هذا يمكن قراءة الانحياز الذكى من الأستاذ الراحل جمال الغيطانى لمجموعة من الشباب ليكونوا المحررين الأساسين، بلا إغفال لدور أساتذة من أجيال أخرى، وكأن فى ذلك ما يقدم تمثيلًا لما يجرى على أرض الثقافة المصرية، وكما الصراع هناك فالصراع أيضًا فى الجريدة، عبر المناقشات والجدل وتبادل الخبرة والحكايات بلا تعمد لشئ أكثر من ممارسة فعل الحياة والثقافة فى لحظة فارقة لم يكن أحد يتخيل أنها تمهد لحدث ضخم يشمل البلد والمنطقة بأسرها.


أسفرت الخلطة والتى قادها باحتراف جمال الغيطاني، والذى كان هو نفسه مزيجًا من روائى وصحفى ومراسل حربى ورجل مفتون بالتراث، عن ثراء لم يكن متاحًا بهذا الشكل فى أى مطبوعة ثقافية أخرى، متابعة أسبوعية ساهمت فى تغيير نظرة المتلقى إلى الثقافة، بدلًا من أن تكون فعلًا جامدًا هى نشاط إنسانى يتمتع بالديناميكية والحيوية وعلى هذا تتراوح المادة الصحفية للجريدة بين الخفة والثقل، من دراسة ثقيلة عن التصوف إلى حوار وتحقيقات أساسها المشاغل التى يتشاركها المحررون مع رفاقهم فى الوسط الثقافي، من نقد متخصص لعمل أدبى إلى عرض كتاب بأسلوب صحفي، مع الطموح الدائم فى اكتشاف خبايا الواقع الثقافى الحاضر للثقافات العربية، وتقديم أهم ما يحدث فى الغرب ثقافيًا.


أصبح من الواضح أن ثورة المقاهى الثقافية انتقلت إلى صفحات الجريدة من دون إغفال لأسس مدونة الثقافة المصرية المتوافق لها على عنوان مقدس لا يتغير «التنوير». استفادت الجريدة من النقاش الثقافى أو الصراع (اختر المفردة التى تناسب طريقة تفكيرك) لتقديم محتوى هدفه المبدئى تفكيك العملية الثقافية، اقتراح مفاهيم مغايرة لها، مساءلتها بقوة الرغبة فى قياس مرونتها وقابليتها للتطور فلا معيار آخر يمكنه إثبات أصالة ثقافة ما أو ادعاءها. 


ما الذى نتحدث عنه هنا؟ لأنه يبدو الأمر هكذا كما لو أنه صراع سياسي! قد تكون هذه فرصة مناسبة للقول بأن الساحة الثقافية المصرية يغيب عنها من الآليات ما يكفل قيام حوار حقيقى بين التيارات والأجيال المختلفة، لهذا لدينا دومًا تلك الفجوات وأزمنة الصمت الحضارية التى قد تطول أو تقصر حسب الظروف، ولهذا السبب تحديدًا فأنى أعتمد هنا مصطلح «الصراع» الثقافى لتسمية ما دار منذ التسعينيات وجاءت «أخبار الأدب» لتكون شاهدًا رئيسيًا عليه.


 جوهر الصراع بشكل أساسى تلخص فى تخليص الفن من السياسة، واعتماد الذات كمرجعية، وفرض سلطة الواقع على المجاز. والمؤكد أنه كان حوارًا خلاقًا أفادت منه الثقافة المصرية، وانتقل إلى الساحة الثقافية العربية (حتى تلك الفترة كانت القاهرة ما تزال المركز الثقافى للمنطقة) وعبر أبوابها المختلفة لم تكتف الجريدة بإلقاء الضوء على الأحداث بل سعت للتأثير فيها عبر تحليل سياق الحوار الإيجابى الدائر والذى اكتسب قيمة استثنائية بتجاور أفراد من بين أجيال مختلفة فى لحظة زمنية واحدة. 


لم تتردد الجريدة فى التعبير عن انحيازها أحيانا لهذا الذوق الفنى أو ذاك، أو منح الهامش سواء فى العاصمة أو الأقاليم الفرصة والثقة فى الإصرار على مشروعه، كما كان للجريدة دور واسع فى وضع السياسات الثقافية من خلال التأكيد على استقلالية الجماعة الثقافية فى مواجهة هيمنة وزارة الثقافة فى عهد وزيرها الأسبق فاروق حسنى.


إضافة إلى ذلك كان لـ«أخبار الأدب» رؤية أوسع فيما يخص التعريف العام للصحافة والثقافة وذلك من خلال معالجات غير تقليدية لموضوعات قد تبدو بعيدة عن التصورات الصحفية، على سبيل المثال: الرصيف، القطار، الأهرامات، الحمام، وسط البلد.   


هذا العدد يمثل نقطة تغلق ملف ثلاثين عامًا، وهو بالنسبة لنا، مجموعة العمل فى «أخبار الأدب» ليس إلا مناسبة لإعادة التفكير مجددًا فى عملنا، والذى يرتبط إلى حد بعيد بطريقة سير الأمور على الساحة الثقافية، نحن مرآة ترى فيها هذه الثقافة نفسها. 


وليس فيما سبق كلامًا من باب الاحتفال بالماضى لكنه سعى إلى تبين تفاصيل أرض الصراع بعد أن بدأ ينقشع غباره، ماذا بعد أن دانت الساحة لصوت وحيد بعد غياب الأطراف الأخرى لأسباب تعود لسلطة الزمن وحده؟ مع غياب التوازن السابق كيف تبدو الثقافة المصرية والعربية فى اللحظة الحاضرة؟ هل لدينا ما نقدمه أم أن لآليات السوق وحدها لها الكلمة العليا؟ هل ثمة حدود ما ينبغى وضعها لهذا التداخل بين القارئ والنص؟ ما وجه استفادة الثقافة المصرية والعربية من الصراع الإقليمى على لقب المركز؟ وهل من المشروع أن يكون المال أحد أدوات حسم تلك الأحقية؟ هل يكون علينا انتظار جيل جديد، يمل من الجمود الحالى ويتدخل بجرأة، لنحظى بنقاش آخر أساسه الفن!

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة