مذبح الكنيسة الأثرية
مذبح الكنيسة الأثرية


185 يومًا فى أحضان دير المحرق بأسيوط

المسيح فى الصعيد.. «الأخبار» تتتبع خط سير العائلة المقدسة بجنوب مصر

سارة أحمد

السبت، 05 أغسطس 2023 - 07:29 م

بين أحضان المنزل الذى مكثت فيه العائلة المقدسة 6 أشهر و5 أيام هربًا من بطش الملك الروماني «هيرودس» وقفت أتأمل هذا البيت المهجور الذى تحول فيما بعد إلى كنيسة أثرية وفيها دشن أول مذبح فى العالم وهو الحجر الذى كان يجلس عليه السيد المسيح عليه السلام، كنت قد وصلت إلى دير السيدة العذراء المحرق فى مركز القوصية بأسيوط، فى وجهتى الثالثة لتتبع خط سير العائلة المقدسة بجنوب مصر، عرف هذا الدير منذ القدم بالعديد من الأسماء منها: دير السيدة العذراء، دير المحرق، دير جبل قسقام، أورشليم الثانية، ويعد هذا الدير كعبة الحجاج المسيحيين الأحباش، حيث يحكى التراث القبطى أن هناك ملكة تدعى «منتواب» إمبراطورة إثيوبيا زارت المكان فى القرن ١٨ وبصحبتها ١٢ جملًا حملت عليها ترابا من هذا الدير ومزجته مع مواد أخرى لبناء كنيسة كبيرة فى الحبشة وسمتها كنيسة قسقام.

راهب.. حاول هدم المذبح فأصيبت ذراعاه بالشلل

العذراء.. تمنع البابا من تجديد الكنيسة الأثرية

على بعد 12 كيلومترا غرب مركز القوصية، وصلنا إلى دير المحرق، الذى يقع فى سفح جبل قسقام، الساعة الواحدة ظهرا عبرنا طريقا ممهدا طويلا يمتد وسط الصحراء خلا من أى مارة، وصلنا إلى بوابة خارجية للدير تم إنشاؤها مؤخرا، وقفت أتطلع الى الأسوار العالية، المكان مزدحم للغاية يقبل عليه الكبار والصغار، الكل هنا يجتمع بين جدران هذا الدير العتيق ربما جاء أحدهم لطلب أمنية، أو تحقيق حلم أو لوفاء نذر.

مررنا بطريق داخلى يقطع الساحة الخارجية للدير الذى تصل مساحته 20 فدانا، يحيط به سور أثرى يرجع إلى القرن الـ18 ويشبه سور مدينة القدس ولذلك أطلق على الدير أورشيلم الثانية، ويعد من أكبر الأديرة، هنا وصلنا إلى البوابة الداخلية للدير، وعلى أبوابها استقبلنا الأب الراهب أباكير ذا الملامح الهادئة والابتسامة الجذابة ليشاركنا زيارتنا، بمجرد أن وطأت أقدامنا الخطوات الأولى داخل الدير، سادت الأجواء حالة من السكون، تم استقبالنا ببعض المياه والمشروبات الغازية كنوع من الترحيب، جلسنا فى دار الضيافة للاستراحة قليلا حتى قطع الأب الراهب حالة السكون بالحديث عن رحلة العائلة المقدسة إلى الدير، وما أهمية هذه الزيارة والمدة التى قضتها العائلة هنا فضلا عن المعالم الأثرية التى يحتويها الدير، ومتى نشأت فيه حياة الرهبنة.

تحركنا من مكان الضيافة عدة خطوات لنصل إلى الحصن الأثري، وبدأ الأب الراهب أكسيوس سرد حكاية هذا الحصن الذى يرجع تاريخه إلى القرنين السادس والسابع الميلاديين، وهو من أصغر الحصون الموجودة فى الأديرة العامرة حاليا، وقد بنيت هذه الحصون فى عهد الملك زينون فى الدولة الرومانية لحماية الرهبان من غارات البربر الوحشية، ويقول الأب إن لهذا الحصن حكاية يرويها التراث المسيحى تحكى أن «إيلارية» ابنة الملك زينون أحبت الحياة البتولية فهربت من القصر الإمبراطورى متخفية فى زى رجل لعدم وجود أديرة للفتيات وقتها، وذهبت إلى برية شهيت بوادى النطرون وقدمت نفسها باسم «ايلارى» وصارت من القديسين المتوحدين فى ذلك الوقت، وبعد أن مرضت ابنة الملك زينون الثانية وشقيقة ايلارية وعجز الأطباء عن مداواتها، فى هذا الوقت كان صيت «ايلارية» قد ذاع وطلب أحد أتباع الملك اللجوء إلى هذا القديس لشفاء ابنته وبالفعل هرع الملك وجاء بالقديس، ولم يعرف أنها ابنته حتى شاهدها وهى تقترب بشدة من شقيقتها الأميرة الصغيرة فتعجب وتساءل عن سبب ذلك، لأنها لم تكن من عادات الرهبان الاقتراب لهذا الحد من الفتيات.

قررت إيلارية أن تخبره بالسبب لكن بعد الحصول على وعد منه بأن تعود إلى الدير مرة أخرى وبعد أن وعدها دون أن يدرى سبب طلبها كشفت لها عن حقيقتها. حاول الملك زينون أن يقنع ابنته بالبقاء معهم على أن يبنى لها قصرًا تنعزل فيه عن العالم، فرفضت وأصرت على العودة إلى الصحراء، بعدها بدأ الملك زينون يغدق ماديا على دير أبى مقار وميزه عن بقية الأديرة، وعندما علم بالغارات المتكررة من قبائل البدو الليبيين «البربر» على برية شهيت، بنى عددًا من الحصون أولها فى دير أبى مقار لحماية ابنته.

وأضاف الأب أكسيوس: يتكون الحصن من 3 طوابق يعلوها كنيسة الملاك ميخائيل نسبة إلى رئيس الملائكة ميخائيل، كما يضم كنيسة أخرى، وتم تعزيز الوظيفة الدفاعية للحصن، حيث يتوسطه جسر متحرك يتم رفعه بعد دخول الرهبان إليه للاحتماء فيه ومنع دخول أى شخص غير مرغوب فيه، أما النوافذ فتم تصميم مقاطعها الأفقية مخروطية الشكل «فالناظر من الخارج لا يرى ما بالداخل بينما يرى من بالداخل ما بالخارج»، ولأن الحصن يجب أن يكون مجهزًا لإيواء الرهبان إذا طال عليهم الحصار، ومهيأ لخدمتهم روحيًا ومعيشيًا على قدر متطلبات الجسد الأساسية التى تكفل استمرارية الحياة لهذا كان الدير يحتوى على كمية كافية من القمح لاستخدامه فى تجهيز «القربان» و الترمس لأنه يمكن تخزينه لفترات طويلة دون أن يتلف، وهو يعتبر غذاء كافيًا للرهبان، ويوجد وسيلة للحصول على ماء للشرب من خلال وصلة بين بئر الماء التي كانت تقع خارج الكنيسة الأثرية وبين حوض الترمس الموجود حاليًا فى أرضية إحدى غرف الدور الأرضى للحصن.

ويوجد ايضا قلالى للرهبان ومكان لدفنها أثناء فترة الحصار، وهذا الحصن لم يستخدم.خرجنا من الحصن وسألت الأب أباكير: كيف يمكن لأى إنسان أن يتخلى عن حياته ليعيش كما لو كان ميتا، يبتعد عن عالمه ويتفرغ للعبادة، ليس هذا فقط بل سيخضع للعديد من القوانين الخاصة بالحياة الرهبانية بين أسوار هذا الدير العتيق، فقال إن قرار الرهبنة ليس اختياريا بل هى دعوة يختار الله فيها من يكمل الطريق فلا عودة منه إلا بالموت، وهى النقطة التى ينطلق منها الراهب ليبدأ مشواره فى طريق اكتشاف الله، مختارا الحياة البتولية، متخليا عن أطماع الدنيا، وللدير الحق فى قبول طالب الرهبنة أو رفضه.

وصلنا إلى كنيسة السيدة العذراء الجديدة الشهيرة باسم «مارجرجس»، التى أنشأها القمص عبد الملاك الأسيوطى رئيس الدير فى أواخر القرن 18 الميلادى بإمكانيات بسيطة، وفى سنة 1878م، بدأ القمص ميخائيل الأبوتيجى رئيس الدير فى إنشاء كنيسة جديدة باسم السيدة العذراء، على أنقاض كنيسة مارجرجس، وانتهى منها فى سنة 1880م.
وقال الأب أباكير إن هناك لحامل أيقونات هذه الكنيسة قصة عجيبة، كانت معروفة عند رهبان الدير، تحكى أن بعض الحكام الأتراك جاءوا إلى الدير فأكرمهم الرهبان إكراما أذهلهم، وكتعبير عن امتنانهم وعدوا الرهبان بإصدار فرمان يمنح الدير ملكية 285 فدانًا من الأرض المجاورة.

انصرف الحُكام، وخشى الرهبان أن يهمل أمر الفرمان، فتحركت الحماسة فى قلب أحدهم ويدعى الراهب الأب صليب بيوحا الهورى، ذهب إلى اسطنبول ماشياً للحصول على الفرمان، ونجح فى مهمته بالفعل، وفى طريقه مرّ ببلاد الشام. وكان يجمع تبرعات لبناء الكنيسة فقابله هناك رجل، لما سأله الراهب أن يتبرع له بشىء للكنيسة أشاح بيده فى وجهه فتيبست ذراعاه، هنا صرخ مستغيثًا بالراهب أن يصلى من أجله، وبعد الانتهاء من الصلاة شفى الرجل وذهل وتبرع بحجاب للكنيسة.

بالتزامن مع خروجنا من الكنيسة سمعنا صوت دق الأجراس معلنة عن وقت إقامة صلاة العشية، كان الراهب بموا يتسابق مع الزمن وهو يقرع الجرس حتى يجتمع الرهبان للصلاة، أخذ يحرك الحبل فى مشهد بهيج ليصدر أصوات ترنيمته، قد لا يعرف الكثيرون أن للجرس نغمتين إحداها ترنيمة للفرح تطلق فى المناسبات السعيدة واستقبال رئيس الدير وأخرى حزينة تطلق فى الجنائز، وأثناء ذلك الحديث كنا فى طريقنا إلى الكنيسة الأثرية،وهى البيت المهجور الذى استقر فيه الطفل عيسى مع والدته مريم ويوسف النجار أطول فترة خلال رحلتهم فى مصر.

خلعنا الأحذية ودخلنا إلى البيت الذى أصبح أول كنيسة فى العالم دشنها السيد المسيح بنفسه عندما عاد مرة أخرى الى أرض مصر، كما ذكر الأب بموا وبدأ فى سرد حكاية الكنيسة التى بنيت من الطوب اللبن وترجع إلى القرن الأول وحوائطها ليست منتظمة أو متساوية، وقفنا أمام المذبح وهو يشير إليه ويردد آية من العهد القديم تقول «فِي ذلِكَ الْيَوْمِ يَكُونُ مَذْبَحٌ لِلرَّبِّ فِي وَسَطِ أَرْضِ مِصْرَ»، وحسب تقليد الكنيسة القبطية أن مذبح كنيسة العذراء مريم يقع حقا فى وسط أرض مصر.

وأضاف أن أهم ما فى الهيكل المذبح الحجرى، حيث يقال إنه الحجر الذى جلس عليه السيد المسيح وهو طفل، ولهذا المذبح قصة عجيبة ذكرها بعض الشيوخ من رهبان الدير فى الستينيات من القرن العشرين أن أحد رؤساء الدير رأى أن المذبح صغير ولا يتسع للذبيحة المقدسة وأوانيها، فرغب فى إزالة المذبح ليقيم مذبحًا آخر أكبر حجمًا، والراهب الذى تناول الفأس إطاعة لأمر الرئيس، شلت يده عندما ضرب أول ضربة، فصرخ وامتنع عن مواصلة العمل ولم تعد يداه إلى الحركة، فكانت هذه المعجزة عبرة وعظة، ولهذا اهتم الراحل الأنبا ساويرس أسقف ورئيس دير المحرق بالحفاظ على الوضع الأصيل والأثرى لهذا المذبح.

دارت عيناى فى المكان فوجدت أن الكنيسة الأثرية تتسم ببساطة البناء، وأمام الهيكل يوجد حجاب خشبى يرجع إلى القرن الـ16 وهو مكون من قطع صغيرة خشبية هندسية الشكل يشبه السمكة وعرفت أنها ترمز إلى الحياة، أما عن الصالة الخارجية فيتوسطها عمودان ومغطاة بسقف خشبى، وكانت الكنيسة تتزين بالقناديل المعلقة بينها بيض النعام ويرمز إلى القيامة، وتم ترميمها ببناء القباب الثلاث أعلى الهيكل، وفى القرن 19م تم توسيع الصحن قليلًا وبناء سبع قباب أعلاه.

هنا بدأ الرهبان التوافد على الكنيسة الأثرية لبدء صلاة العشية، أخذنا وقتا للاستراحة حتى انتهاء الصلاة، تجولت بين جدران هذا الدير العتيق تداعبنى نسمات الهواء الرطبة إلى أن رافقنا الأب الراهب عزرا وأثناء التجول مررنا بقصر الضيافة وهو مكان إقامة رئيس الدير وفيه يستقبل كبار الزوار من البطاركة والمطارنة والأساقفة، وقال الأب عزرا إن القصر يحتوى على مكتبة عريقة للمخطوطات الثمينة، وقد أنشئ عام 1910 فى رئاسة الأنبا باخوميوس الأول أسقف الدير، كما يوجد بالدير أربعة أماكن أخرى للضيافة مخصصة لإستقبال الزوار من محبى الدير أو لاستقبال أهالى الرهبان.

انتهت صلاة العشية ٦ مساء وعاد الآباء كل إلى قلايته يتعبد فى زهد. أغلقت الأبواب مع دقات ١١ مساء، وعم الهدوء أرجاء الدير، جلسنا فى شرفة مسكن الضيافة للاستمتاع بهذا الليل الهادئ بعيدا عن ضجيج شوارع المدينة وصخب المواطنين.

خلال ساعات الليل أخذت أستعيد أحداث اليوم المثير الذى جعلنى أخوض تجربة غير معتادة فى حياتى لتتبع خط سير رحلة العائلة المقدسة، وبدأت أسجل ملاحظاتى كى لا أنسى أى تفاصيل، ومع دقات ٢.٣٠ صباحا، بدأت الحركة تعود للدير مع استيقاظ الرهبان لبدء صلاة تسبحة نصف الليل، ثم صلاة باكر فى ٤ صباحا، ثم صلاة القداس وبعدها يعود الراهب الى القلاية قبل بدء عمله اليومي ومن هنا يبدأ الدير والرهبان يوم جديد مليء بالعبادة والعمل.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة