فى الأسبوع الماضي، فاجأ الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين العالم، ودمشق أيضا - بإعلانه عن سحب جزء كبير من قواته من سوريا، برر بوتين الانسحاب بأن القوات الروسية في سوريا أوجدت ظروفًا ملائمة لعملية السلام، وأن العمليات العسكرية الروسية، حققت أهدافها وأنه أعطى توجيهاته بتقليص دور روسيا العسكري، وإبداله بالدور الدبلوماسي.
بالطبع هذا الإعلان لا يعني الانسحاب الكلى للقوات الروسية من سوريا، حيث إن موسكو ستبقي على عدد مهم من الجنود، والعتاد مع إمكانية زيادة عددهم في أي وقت خاصة في القاعدة البحرية، في طرطوس ومطار حميميم في اللاذقية، كما ستبقى على بعض السفن الحربية، وأنظمة الدفاع الجوى لحماية قواعدها من أى هجمات.
كانت روسيا -بعد تدخلها فى الحرب السورية قبل نحو 6 أشهر- قد أعلنت أن هدفها هو محاربة تنظيم داعش، وإذا كان هذا هو الهدف الحقيقي من تدخلها فإن قرار الانسحاب ليس منطقيا، لأن هذا التنظيم رغم تكبده ضربات موجعة في الأشهر الأخيرة فإنه لا يزال صامدا في أغلب مناطق سيطرته، ومعنى ذلك ان تدخل بوتين فى سوريا منذ البداية لم يكن أبدا بهدف محاربة داعش لكن كان له أهداف وحسابات أخرى لا علاقة لها بالمصالح السورية

لماذا الإنسحاب الأن

يجمع الكثير من المحللين على أن الأهداف الحقيقية للتدخل الروسي قد تحققت فى معظمها حيث إن موسكو نجحت فى إنقاذ نظام بشار من الانهيار واستعادت قواته زمام المبادرة بفضل الدعم الجوى الذي قدمته الطائرات الروسية والدور الذي لعبته القوات الإيرانية، ما سمح لبشار باستعادة السيطرة على مناطق مهمة فى محافظات اللاذقية وحلب وإدلب ومحاصرة مدينة حلب.
كما نجح بشار فى ترجمة هذا التقدم العسكرى لمكاسب سياسية دعمت موقفه التفاوضى أمام أمريكا التى غيرت موقفها بناء على هذه التطورات الميدانية وقررت التخلى عن مطلب رحيله كشرط أساسى قبل بدء المحادثات.
كما أن بوتين حقق من خلال تدخله هدفا آخر كان فى حاجة ماسة إليه وهو استعادة النفوذ الجغرافي والسياسى لروسيا فى الشرق الأوسط.
حيث إن تدخله فى سوريا جعله شريكا لا يمكن الاستغناء عنه لإيجاد حل للحرب الدائرة منذ 5 سنوات كما فرض هذا التدخل دورا محوريا لروسيا على مائدة المفاوضات فقد أعلن بوتين متباهيا نهاية شهر فبراير الماضى أنه اتفق مع الرئيس الأمريكى أوباما على وقف لإطلاق النار.
فى الوقت نفسه نجحت روسيا بهذا التدخل فى فرض نفسها كقوة عالمية من جديد تتخذ قرارات السلم والحرب بكل ندية مع امريكا وهو ما أطلق موجة من المشاعر القومية داخل روسيا وضمن الدعم الشعبى اللازم لبوتين..
بالإضافة إلى ذلك هناك أسباب أخرى ربما دفعت روسيا لسحب قواتها من سوريا منها التكاليف المالية والسياسية لعملياتها العسكرية فى سوريا التى انطلقت فى سبتمبر الماضى وعرضتها لانتقادات دولية كبيرة بسبب قيامها بقصف المدنيين بالإضافة إلى تدهور علاقاتها مع دول المنطقة وخاصة السعودية. بجانب التكلفة الباهظة لتواجد قواتها فى سوريا والتى تصل إلى حوالى 2،5 مليون دولار يوميا.
ورغم ان هذا الانسحاب المفاجئ أدى لعدد من التكهنات حول استعداد بوتين للتخلى عن بشار الأسد -كما رأت صحيفة الفايننشيال البريطانية - بعد أن تدخل لإنقاذه فى سبتمبر الماضى الا إنه من المبكر الحديث عن تخلى روسيا عن الأسد فربما هى خطوة للضغط على بشار لقبول الفترة الانتقالية وتقديم تنازلات وتسهيل عملية نقل السلطة فى المباحثات التى تجرى حاليا فى جنيف وتلقى دعما من الروس والأمريكيين فقد جاء الاعلان عن القرار الروسى فى اليوم الأول من انطلاق المحادثات غير المباشرة فى جنيف حيث التقى الموفد الدولى ستيفان دى ميستورا بكبير مفاوضى وفد الحكومة السورية برئاسة بشار الجعفري.

وهناك انقسام بين المحللين انفسهم حول ما يمكن لبوتين ممارسته من ضغط على الأسد لكنهم متفقون بشكل كبير على أنه نفد صبر بوتين مع الأسد لرفضه التغيير واعتماده على الطيران الروسى والقوات الإيرانية على الأرض من أجل تحقيق النصر. فالنظام السورى لم يكن يريد وقف إطلاق النار وكان هدفه هو استعادة الحدود مع تركيا وفرض حصار على حلب وتحقيق انتصار حاسم فى الشمال وشعر الروس بالإحباط من طموح السوريين بالسيطرة على كامل الأراضى السورية.
رائحة صفقة
فى الوقت نفسه يرى أليكس فيشمان الخبير الأمنى إن انسحاب القوات الروسية من سوريا كان مفاجأة استراتيجية مشيرا لوجود «رائحة صفقة» بين الروس وطرف آخر فى الأزمة السورية ربما مع السعوديين وربما مع امريكا. ويحتاج بوتين لاتفاق مع السعودية حول أسعار النفط، فى ضوء انهيار الاسعار فى السوق العالمى فقد اعلن وزير الاقتصاد الروسى مؤخرا أن أسعار النفط ستستقر عند 40- 50 دولارا للبرميل الواحد فى غضون بضعة أشهر وللوصول لهذا السعر يتعين على الروس تقديم تنازل صغير للسعودية. أما رفع العقوبات فيمكن عقد صفقة فيه مع امريكا مقابل تخفيض مستوى الوجود الروسى فى سوريا
وايا كانت الاهداف التى حققها بوتين من هذه الخطوة فهناك نوع من الاجماع على أنها ستعطى دفعة إيجابية لمحادثات السلام التى ترعاها الأمم المتحدة فى جنيف.