أرنو شميدت
أرنو شميدت


أحمد الزناتى يكتب : فى فردوس الكتب: عن أرنو شميدت وحياته وأدبه

أخبار الأدب

الخميس، 10 أغسطس 2023 - 01:33 م

عاش شميدت حياة مُنعزلة مع زوجته، رافضًا مخالطة الناس، مُكرسًا نفسه للقراءة والكتابة والترجمة والمشي، ومُتحملًا كل شيء فى سبيل إنجاز عمل حياته الأهم، رواية «حُلم قصاصة الورق»، المعادل الألمانى لرواية جيمس جويس الأخيرة «يقظة فينيجين»، الرواية الأعقد فى تاريخ الأدب المعاصر. 


شميدت غير معروف تقريبًا خارج حدود الأدب الناطق بالألمانية، بل وربما داخل ألمانيا أيضًا. فخارج ألمانيا تمثّل أعماله تحديًا هائلًا أمام المترجمين لوعورة نصوصه وصعوبة ترجمتها، أما داخلها فلا يحظى الرجل بالانتشار الأدبى الواسع الذى حظى به كُتّاب من أمثال بُل أو جراس وغيرهما.

اقرأ ايضاً| منصورة عز الدين.. تكتب : ديستوبيا الواقع


عاش شميدت حياة مُنعزلة مع زوجته، رافضًا مخالطة الناس، مُكرسًا نفسه للقراءة والكتابة والترجمة والمشي، ومُتحملًا كل شيء فى سبيل إنجاز عمل حياته الأهم، رواية «حُلم قصاصة الورق»، المعادل الألمانى لرواية جيمس جويس الأخيرة «يقظة فينيجين»، الرواية الأعقد فى تاريخ الأدب المعاصر. 


عاش فى عزلة حتى وفاته، فقيّـض له القَدر رجل أعمال غريب الأطوار مثله، اسمه جان فيليب ريمستما، ذا ميول اشتراكية، ورث مصنع سجائر، باعه وأوقف حصيلة البيع فى تأسيس وقْــفٍ يضمن استمرارية نشر أعمال شميدت، فهجر عالم المال والأعمال، مكرسًا نفسه – هو الآخر- لقراءة ودراسة ونشر أعمال شميدت حتى اليوم، يقول أستاذ الأدب، والمليونير، ورئيس مؤسسة أرنو شميدت، ريمستما: «مَـن كان يتجاهلهم أرنو شميدت رأوه رجلًا فظًا، غير جدير بالاهتمام، مترفعًا، متعاليًا، بولِغ فى تقديره»، مضيفًا أنه لم يقابل فى حياته رجلًا أكثر إثارة للإعجاب منه. يقول ريمستما: “بينما كان أرنو فى حقيقته رجلًا غاية فى المودة والانفتاح على الآخرين ودماثة الخلق».


قبل التطرق إلى كتابه الجديد موضع حديثنا تجدر الإشارة إلى أن رواية «حُلم قصاصة الورق» هى درة أعمال شميدت، وهى مؤلَّـفـة من ثمانية أجزاء، وتقع فيما يزيد على 1344 صفحة، مُقسَّمة على ثلاثة أعمدة، وهى فى الأصل مطبوعة على الآلة الكاتبة ومكتوبة بخط اليد، اطلّعتُ عليها مرة من باب الفضول وأغلقتها بعد دقيقتين، أيقنت فورًا أنها محتاجة إلى فريق مترجمين رهبان يعكفون عليها فى دير تبتى بضعة أعوام، رحم الله امرئ عرف قدر نفسه. ولكن لا بأس من إعطاء فكرة عنها؛ بدأ  شميدت فى كتابة رواية «حُلم قصاصة الورق» سنة 1963 ونشرها فى ألمانيا الغربية سنة 1970 على ورق مقاس A3، وهى كما أشرتُ رواية معقدة، تستلهم عوالم «يقظة فينيجين» لجيمس جويس، وقد نقلها إلى اللغة الإنجليزية المترجم جون إي. وودز سنة 2016 فيما يناهز 1,496 صفحة تحت عنوان Bottom`s Dream، وعنوان الترجمة الإنجليزية مستلهم من شطر شعرى ورد فى الفصل السادس لمسرحية شكسبير حلم ليلة صيف يقولIt shall be called Bottoms` Dream, because it has no bottom . تعلّمتُ منها درسًا بليغًا فى مقاربة آلية ترجمة عناوين مثل هذه الأعمال.

تدور أحداث الرواية فى يوم صيفى واحد على غرار عوليس جويس مثلًا؟ من أيام سنة 1968 حول زيارة المترجم باول ياكوبى برفقة زوجته وابنته المراهقة إلى الكاتب دانييل باجنشتيشر الذى يعيش وحيدًا فى بيته الواقع فى الريف، فيبدأ حواراً ممتداً حول مشاكل ترجمة إدجار آلان بو إلى الألمانية، وتتشعب الأحداث فى مسارات غامضة. بالطبع كان إدجار آلان بو هو كاتب شميدت الأثير.

قبل أسابيع قليلة صدر كتاب جديد عن دار زوركامب الألمانية لأرنو شميدت يضمُّ مجموعة من المقالات المتنوعة حول علاقة شميدت بالأدب والكتابة والقراءة والكتب؛ عنوان الكتاب بترجمة حرفية:«لا نعيم من دون كتب»، وبترجمتى «فى فردوس الكتب» بسبب إشارة جاءت على لسان شميدت نفسه سأوردها فى السطور التالية. عناوين الفصول لا تقل غرابة عن غرابة صاحبها:» القراءة مسألة مريعة»، «الهروب من العمل»، « عملى الإضافي: كاتب؟»، إلخ. لكن من يتأمل هذه العناوين يجد غرابتها فى أنّها تخبرنا بالحقيقة بلا مواربة؛ فأغلب الناس (على الأقل أنا) يريد الهروب من العمل (الكتابة)، ويرى فى القراءة مسألة شاقة مرهقة، ويرى فى الكتابة /الأدب عملًا إضافيًا مهنة ثانية، وهكذا، الكتاب صادر قبل أسابيع، وله حقوق محفوظة، ولا أودّ جرحها بترجمة فقرات مطولة منه، لكن الأهم من  كل ذلك استحالة ترجمة شميدت من دون هوامش وحواشى بسبب تكرار التلاعب بالألفاظ وتقطيع الكلمات لخلق معانى أخرى والإحالات إلى نصوص من ثقافات مختلفة، وهى الحيل التى تأثّر فيها بشدة – باعترافه الشخصى - بجيمس جويس فى يقظة فينيجين، وهو الأمر الذى يستحيل تقديمه فى مقالة كهاته. باختصار: سأتعرض لبعض الفصول، وأناقش أفكارها، وأترجم سطورًا قليلة منها. فى مقدمة الكتاب نتعرف على لمحة عامة من شخصية شميدت وأدبه، فنقرأ: ثمة كُتاب لا يقرؤون إلا قليلًا، أما أرنو شميدت فكان قارئًا نهمًا، كانت الكتب جزءاً لا يتجزأ من حياته منذ نعومة أظفاره (بحسب كلامه تعلَّم القراءة فى سنّ مبكرة للغاية)، وعندما استُدعى لأداء الخدمة العسكرية اصطحب معه كتابًا واحدًا، وهو كتاب كريستوف مارتين فيلاندر شاعر ألمانى من القرن الثامن عشر، مغامرات دون سيلفيو فون روازلفا (وقد نصَّ على ذلك فى هذا الكتاب). كل من يدخل مكتب أرنو شميدت فى منزله الكائن فى «بارجفيلد»، يكتشف أنه ليس إلا مكتبة يحيطها مكتب أى مكتبة طِلِعْ لها مكتب. 


فى أحد أعماله المبكّرة (المنشورة بعد وفاته)، لم يطلق شميدت على نفسه اسم كاتب ولا شاعر، بل مجرد رجل يدخل إلى الإليزيوم فى الميثولوجيا الإغريقية هى جزيرة الخالدين، والمكان الذى يذهب إليه الصالحون ، التى هى الدار الآخرة للشعراء الذى يجِّلهم، يدخل كقارئ صالح، فأولئك الشعراء هم الذين يمدون يد العون إلى الكُتاب. يتخلل الإنتاجَ الأدبى لأرنو شميدت انشغاله بكتب الآخرين، حيث تُقرأ الكتب ويُنظر فيها وتُناقش مسائل الأدب والشعر. يشكّل الحديث أمام الجمهور جزءاً كبيرًا من أعمال أرنو شميدت. فمنذ سنة 1955 انغمس فى كتابة ما يُسمى «بالبرامج الليلية»، وهى برامج إذاعية أدبية صبغها شميدت بصبغة خاصة؛ محادثة بين شخص عادى (أو اثنين) وأديب أريب، بهذه الطريقة تحوَّل قُـــرّاء شميدت وقارئاته إلى مستمعين وتلامذة. نادرًا ما كان شميدت يقرأ شيئًا من أعماله، إذ كانت أعمال الآخرين على الدوام محور أحاديثه التى يتلو منها على مستمعيه. كان شميدت أيضًا جامع كتب شغوف منذ ريعان شبابه. وفى مرحلة لاحقة احتاج فى عمله إلى تلك الكتب التى لا تستطيع المكتبات العادية توفيرها، فتحتَّم عليه البحث عنها فى متاجر بيع الكتب النادرة والفهارس القديمة. ولأجل هذا كان يحتاج من حين إلى آخر دعم القُرّاء. لكن جامع الكتب الشغوف يريد دائمًا أكثر مما يحتاج إليه لحظة بحثه عن الكتاب، فهو يريد إكمال عمل المؤلف، يريد ذلك الشيء البعيد النائي. لذلك فعملية جمع الكتب القديمة تتجاوز عملية الاقتناء العقلانى  فقط. وكما يقول المثل القديم للكتب تاريخها الخاص، لكن كذلك جزء من تاريخ الشخص الذى كانت فى حوزته يومًا. يقول شميدت فى مقالة عندى ستون عامًا فقط:» لقد اشرينا حياة بمئة وأربعين ماركًا». 


لفتَت نظرى رؤية شميدت فى هواية جمع الكتب النادرة وأنها تتجاوز الغرض الظاهرى المباشر منها. فى زيارة مؤخرًا خارج مصر، وفى قـبو مكتبة عتيقة محشورة فى زقاق بعاصمة إحدى دول أوروبا الشرقية عثرت على نسخة نادرة من كتاب رموز التحولات لكارل جوستاف يونج، سنة ١٩٢٥ طبعة لايبزيج، وعليها توقيع أحد تلامذة يونج شخصياً. الكتاب عندى بالطبع بصيغة إلكترونية، لكنى قبضت عليه كما يقبض شاب حديث التخرّج على أول راتب فى حياته. لقط لمعَة عيناى البائعُ الشاطر وهو يداعب قطًا رماديًا سمينًا راقدًا فى حِجره، كان يحرس المكتبة وصاحبنا فى استراحة الظهيرة يملأ كرشه بالبيرة. ثم ندمتُ بعدها لأنى لم أفاصل، وخرجت وأنا أفكر فى نوعين من هواة الكتب النادرة: نوعية يونج، وبحسب مذكراته كان «بيتضحك» عليه لأنه بطبعه نافد الصبر إزاء الحوارات والثرثرة زى حالاتي، من نوعية: «انجز أنا مش فايق لك»، وهناك نوعية أومبرتو إيكو، وأظن أنه كان طليانيًا ناصحًا يفاصل لأجل 2 يورو. المشكلة أن تاجر الكتب القديمة المخضرم يستشعر «الزبون»، والصبّ تفضحه عيونه.


أدرك الآن مغزى كلام شميدت فى أن للأمر بُعدًا آخر، بُعدًا مجازيًا. إكمال ما بدأه المؤلف. شيء من قبيل عبارة نابوكوف: لم أختر الفراشات، الفراشات هى التى اختارتني. لم يكن نابوكوف يقصد الفراشات بالضرورة. ربما كان يقصد القطط السويسرى آكلة الجرين بيرجير، عاشقة سموزى الليمون. شغلنى شميدت لأنه كان مشغولًا بقراءة أعمال غيره، لا أعماله. وكأن أعماله الأدبية تعنيه وحده وربما دائرة القُراء المهتمين بأدبه، وهى دائرة ضيقة بحُكم طبيعة ما يكتب. أما قراءة أعمال الكِبار والتعليق عليها ومناقشتها فهى النشاط الحقيقى الذى يخلق المتعة، متعة الأدب-فى اعتقادي-ليست فى كتابته وحسب، فما أكثر القادرين فى كل مكان على الكتابة الجيدة، بل الممتازة، متعة الأدب فى استحضار نصوص فقرات بعينها فى لحظات حاسمة من حياتك، أو كما يقول بيتر هاندكه: على الكُتّاب مزج كل شيء بالأدب، أن يضعوه داخل كل شيء، أو جُملة كافكا: أنا مصنوع من الأدب؛ أن تتجسّد فى حياتك فقرات من أحلام محفوظ أو مولوى بيكيت أو قصر كافكا. وجدتُ له أيضًا كتابًا قصيرًا (حررته أرملته أليس شميدت والقائم على المؤسسة) يحمل عنوان «أحاديث الشعراء فى فردوس الإليزيوم»، أهداه المؤلف سنة 1940 إلى زوجته ورفيقة دربه، وهو كتاب حوارى أقرب إلى نص مسرحى جميل فيه يلتقى المبدعون من العصور والشعوب كافّة فى فردوس الإليزيوم ويتكلمون عن الأدب والشعر والحب، كل فصل يضمّ طائفة: شوبنهاور، هوميروس، إدجار آلان بو، لودفيج تيك، إلخ. الفردوس والكتب كلمتان مترادفتان فى أعمال شميدت كما نرى. 

لنبدأ فى التجول قليلًا فى فراديس هِـر شميدت. 
كاتبنا مهموم بإشكالية علاقة المبدع بكسب الرزق، تكلم عنها فى أكثر من موضع. فى فصل يحمل عنوان «عمل إضافي: كاتب؟» يتكلّم فيه عن ممارسة الإبداع والكتابة فيقول:»لم تكن إحدى جرائد ألمانيا الشرقية - حيث يُرسم للكاتب وظيفته فى المجتمع رسمًا دقيقًا وإن كان ذلك يجرى فى إطار محدود -، بل كانت جريدة نمساوية أعرب على صفحاتها ناقد محترم إعرابًا صريحًا أن كلمة الكاتب فقط فقط لم يعد لها حق فى الوجود، إذ ليس فى مقدور البشرية الكادحة بجدٍ تحمّل مثل هذه الفراشات الرقيقة الهائمة. 


ولمّا كان السيد المحترم ناشرًا، أى يكسب رزقه من بيع الكتب-التى يتحتم كتابتها بشكل ما-، فلا بد أنه كان يذهب إلى الرأى القائل بممارسة الكتابة الإبداعية كمهنة جانبية فى أوقات الفراغ. ألا يمكننا إقامة الدليل على ذلك؟ أو لم تكن وظيفة شيللر الأساسية هى أستاذ جامعي؟ أولم يكن إرنست.ت.هوفمان قاضيًا كاتب رومانسى من القرن الثامن عشر، رائد أدب الفانتازيا والغرائبية، وكان بورخيس وكافكا من كبار معجبيه ؟ وليسّينج أمين مكتبة؟ ألم يعمل الشاعر العظيم جوته كوزير دولة طوال عشر سنوات؟ فما الذى أخفق هؤلاء فى إنتاجه كفنّانين؟ بالفعل، كان شيللر محاضرًا جامعيًا، ولم يكن محاضرًا رديئًا، وكان ينْظِم الشعر كلما سنحت الفرصة فقط. وكانت يدا هوفمان غارقتين فى النبش فى الملفات أطراف النهار، وآناء الليل يرسم بيدين مرتعشتين المخلوقات المتوهجة، التى ما تزال تمتع القارئ حتى اليوم، ومات عن عمر يناهز السادسة والأربعين بجسدٍ واهن. هل يعرف دوائر القُرّاء طبيعة «العِدَّة» التى يجب على المُبدع أن يحملها؟»


يطالب شميدت الكاتبَ بإثراء معجمه، بالمحافظة على أصالة أدبه، وهو ما لا يتحقق بقراءة الأدب وحده، بل الاندماج فى أنشطة إنسانية/مهنية أخرى. فى اعتقادى هذه «العِدَّة» اللازمة لصنع الأصالة لا يكتسبها الكاتب عبر لطش أعمال/ثيمات/أفكار ثقافة بعينها، أو النحت من تقاليع سردية لاتينو أميريكية بعينها، لأنها بضاعة رائجة، سهلة التمرير، فتخرج بعد قراءة الرواية وفى ذهنك أن تقترح على مؤلفها تغيير أسماء أبطال روايته إلى دون كاميللو والغادة الحسناء باتـيستايا. 


أدوات الكاتب (العِدَّة بمفهوم الحرفي) هى ذاته وتجاربه أولًا، والعصارة المُصفاة لما قرأه ثانيًا. ويبدو لى أن شميدت كان يحاول صون كرامة الفن والفنان بنُصح الكُتاب بضرورة الاشتغال بمهنة غير الأدب للحفاظ على قدسية الأدب، اللهم إذا أوتى المرء حظ جورج سيمنون أو موراكامى أو وج.ك. رولينج فى صنع المجد الأدبى والثروة بضربة واحدة، بل حتى هؤلاء وغيرهم هناك وفى بلادنا لم يسلموا من غمز ولمز من يمتلكون فائضًا من الوقت. أتذكر وأنا أترجم رسائل هسه جملة: «لا يفوتنى أن أذكرك أنه ينبغى للفنان، إذا نوى أن يكون الفنّ مهنته وطريق حياته، أن يحترف مهنة أخرى إلى جانب فنّه، أن يتعلّم مهنة أخرى كى لا يفقد ذاتيته وأصالته». شميدت نفسه كان مُعدًا بالإذاعة ومترجمًا ومدرسًا فى بدايات حياته. 


 أجاب شميدت فى فصل آخر يحمل عنوان Brotarbeit  أو أكل العيش بخفة ظل عن مسألة علاقة الكاتب بالمال فيقول: «سيكون من الرائع بالطبع لو صحَّت فكرة الجمهور عن المبدعين: عند حاجتهم إلى المال يخربش زملاء المهنة الموهوبون بضع أبيات خالدة على الورق بشكلٍ مخزٍ، ثم يُوضع المخطوط على الفور أمام الناشر- راعى الفنون والخبير فى آن واحد – فيوزَن بميزان من ذهب، وينطلق بعدها «الرفاق» بأسارير متهلّلة، تلك الفراشات الحالمة فى عالمنا الكادح القاسى كما يمكن تسميتهم. 


أهذا صحيح؟ واقع الأمر أن العكس هو الصحيح تمامًا. فكلما بَدت سطور العمل مُتقنة الصنع، لتبيّن أن العمل كان أكثر إرهاقًا لصاحبه، حتى أن جوته، الذى لم يكن يفتقر حتمًا إلى الموهبة الأدبية، اعترف بأنه كان يتلقى يوميًا فى المتوسط ما يملأ كفّة يد واحدة مقابل كتابته. 
كلما كان الكتاب أفضل «وأثقل مادة»، صار أكثر تطلبًا على المستوى المعرفى، وأثقل وطأةً على أذن القارئ وعلى شعوره من ناحية الإحساس بجَرْس الكلمات وإيقاعها، وبالتالى  تقلّصتْ دائرة المشترين القُــراء. ولئن سألنا أى كاتب لأكَّد الحقيقة المؤسفة أنه لا يستطيع كسب قوت يومه من أعماله الإبداعية وحدها، وهى سخافة ربما تكون أكثر إثارة للدهشة لو اختُـزلت فى الصيغة التالية: «كلما ارتفعت جودة العمل، تضاءل المقابل المادى. وبالتالى لا يبرح المرء يقابل فى تاريخ الأدب مرارًا وتكرارًا ذلك المشهد المرير الذى يبيّن لنا أن الروح الطامحة إلى إبداع الأفضل- وغالبًا الطامحة إلى بلوغ القمة- عليها التعامل مع أعمال «أكل العيش» المتدنية. إذ كيف للكاتب أن يكون سعيدًا ممتنًا وهو يعمل فى وظيفة شاقة بأجرٍ زهيد، ولأجل لقمة العيش يضطرُّ لممارسة عمل يومى متواضع على مدار أشهرٍ طويلة».


يبدو أننى نسيت نفسى وأنا أكتب وأخلفت وعدى بعدم نقل الكثير من الفقرات- احترامًا لمجهود الرجل- ولكن حسن النية شفيعي. جُملة عجيبة كتبها شميدت ربما تعرّفنا على رؤيته الكلية للعالم:» القراءة الأولى أسوأ من الحب الأول»، هل كان المقصود بالسوء تبخّر الاثنين (القراءة الأولى والحب الأول) من الذاكرة أم رسوخهما المؤرّق واستحالة نسيان أول ما قُرِئ و أول من عُشِق؟ 

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة