جمال الغيطانى
جمال الغيطانى


د. خالد سالم يكتب : وَلَه جمال الغيطانى بإسبانيا

أخبار الأدب

الخميس، 17 أغسطس 2023 - 02:23 م

لئن شغلت الأندلس مساحةً عريضةً من مخيالنا، نحن العرب، فإن امتدادها الطبيعى، إسبانيا، تشغل فضاءً فى اللاوعى لدينا يخللنا كنسغ الأزهار والنباتات، دون أن نجد لذلك تفسيرًا جليًا سوى تشابك الحاضر والماضى خفيةً، فرحيق الأندلس والحنين إليها ينسحب على من عاش فى إسبانيا ومن تردد على فضاءاتها الثقافية. هذا رغم تجاوز الكثيرين منا مرحلة الفردوس المفقود، فهو حلقة من الماضى وعودتها تنتمى إلى أضغاث الأحلام، والفراديس لا تُفقد بل يمكن أن تظل حية باستنباتها واستزراع أزهارها بغية بناء مستقبل مشترك مع الآخر والانفتاح عليه.

هذه الكلمات كانت قراءتى لوله جمال الغيطانى بإسبانيا المعاصرة دون الخوض فى الأندلس، إذ كان يسعى معى لبناء جسور مع هذه المنطقة الساحرة فى أقصى غرب أوروبا. ويعود حضوره الأدبى فى إسبانيا إلى مطلع الثمانينات، فبعد أن استقرت أمور التسجيل لبدء الدراسة فى جامعة مدريد، فى مطلع الثمانينيات، عرجت على مكتبة قسم اللغة العربية القريب من قسم اللغة الإسبانية، فامتدت يدى إلى كتاب «حراس البوابة الشرقية» لجمال الغيطانى، فسعدت به وأخذت أتصفحه. ثم اكتشفت أن أرفف المكتبة عامرة بكتب الغيطانى إلى جانب مجايليه من مصر ومن دول عربية أخرى. وبعد ِأشهر قليلة جاء إلى الجامعة الكاتب النجم خوان غويتصولو ليقدم روايته «مقبرة» التى رسم عنوانها هكذا لكن بأحرف لاتينية. وفى لقائى معه فى المساء أخبرنى أن له صديقًا مصريًا هو الكاتب جمال الغيطانى. 


قرأت مؤخرًا عدة مقالات عن الغيطانى نُشرت معًا، فقلت لأحد زملائه إن علاقته بإسبانيا وفرنسا تستحق أكثر من مقال، إذ أنهما أكثر الدول التى تردد عليها خارج الوطن العربى. 
تعود علاقة جمال الغيطانى بإسبانيا إلى ما قبل ترجمة بعض أعماله وتواتر زياراته لبلاد الأندلس، إذ بدأت، ربما دون أن يعلم، فى مطلع ثمانيات القرن الماضى باحتفاء المركز الثقافى العراقى فى مدريد به موزعًا كتابه «حُراس البوابة الشرقية: الجيش العراقى من حرب أكتوبر إلى حرب الشمال»، الكتاب الذى نشر فى منتصف السبعينات ورُوج له لاحقًا بينما كان يستعر أوار الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988)، بداية انهيار العراق العربى وجيشه القوى، ومعه المنطقة العربية جراء مسلسل الوهم والخداع الذى نُصب لقادة العراق سنتئذ على يد الأصدقاء والأعداء، ومن يومها والدم العربى يسيل عابرًا حدودنا دون جواز سفر. 


وكان وصول كتاب الغيطانى هذا، مع كتب أخرى، إلى مدريد بداية اهتمام حقل الاستعراب الإسبانى بنتاجه. لا أدرى إن كان قد حدث هذا على دراية منه أم تطوعًا من بغداد التى كانت تصبو إلى لعب دور رائد فى الوطن العربى، وكانت تهدى من أراد ما يريد من كتب من خلال منافذها الثقافية فى الخارج. 


الإحالات إلى أدب وشخصية جمال الغيطانى كانت كثيرة فور وصولى، من بينها حديث رئيس الجامعة سنتئذ المستعرب العظيم بدرو مارتينيث مونتابيث عنه فى أول لقاء جمعنى به عندما ذهبت إليه شاكيًا كثرة مواد المعادلة التى كلفونى بها فى قسمى. حينها فكرت فى ترجمة «حراس البوابة الشرقية» لكن الظروف لم تسنح لى بإتمام المشروع، وكان عليّ أن أنتظر عدة سنوات لأترجم روايته «متون الأهرام» ضمن مشروع ترجمة كبير لم يكتب له الاستمرار رغم جنى ثمراته الطيبة فى سنى عمره القصير، فكان مفاجأة سارة له ولم يبخل على فى مد العون لتفسير بعض الجمل المستغلقة والألفاظ الصعبة. بعد فترة اقترحت على دار نشر مراجعة روايته «الزينى بركات» التى ترجمتها زميلة إسبانية عاشت فى مصر سنوات طويلة فى بداية مشوارها فى عالم الاستعراب.


ومن خلال قسم الدراسات العربية والإسبانية نُسجت جسور ووشائج قوية للغيطانى بعالم الاستعراب الإسبانى والجامعات الإسبانية. وكان عمد هذه العلاقة اثنين من أبرز مستعربى هذا البلد القريب من عالمنا العربى بحكم وشائج التاريخ والثقافة المشتركين، وهنا أعنى العلامة الراحل بدرو مارتينيث مونتابيث، الذى ظل مهمومًا بقضايانا ومشكلاتنا القومية منذ أن عاش فى قاهرة الخمسينات ثلاثة أعوام، والمستعربة والناشرة الدؤوب كارمن رويث برابو. هذا بالاضافة إلى علاقته العميقة مع مستعرب آخر من نوع خاص، الأديب خوان غويتصولو.


ظل بدرو وكارمن حتى آخر لحظة من حياة الغيطانى يتابعان أخباره، وكانا قد أبديا قلقهما عليه منذ أن هزمته الأزمة القلبية التى أودت بحياته، إذ هاتفانى ليسألا عنه ثم لجآ إلى زوجه لاستجلاء الأمر. كان قلقهما بالغًا، إذ كانا يكنان له ولنتاجه الأدبى احترامًا كبيرًا ويثمنانه منذ بداياته الثقافية. 


كانت إسبانيا آخر بلد يسافر إليه جمال الغيطانى، إذ دُعى من البيت العربى لتقديم ترجمة كتابه «هاتف المغيب» فى معرض كتاب مدريد فى يونيو 2015، وبعدها بأقل من شهرين انهار قلبه فدخل فى غيبوبة الرحيل الأخير. وفى البيت العربى، التابع لوزارة الخارجية الإسبانية، اشترك فى تقديم الترجمة الدكتور بدرو مارتينيث مونتابيث وحضره محبو الغيطانى من العرب والإسبان. واستعرض الغيطانى مساره الإسبانى بدءًا من ترجمة أعمال له مثل «متون الأهرام» و«الزينى بركات» و«هاتف المغيب». 


بعد سنوات قليلة، فى النصف الثانى من الثمانينيات، طرح الناشر الشاب أنطونيو ويرغا ترجمة ونشر أعمال لكتاب عرب من خلال داره المسماة سنتئذ ليبرتارياس Libertarias، ساعدته على المستويات كافة واقترحت عليه عناوين كتب للترجمة، وسمانى مستشارًا أدبيًا للدار، واتفقنا على اصدار مجموعة للكتب العربية. ثم جاء بالكاتب المعروف خوان غويتصولو الذى كان يعرف الغيطانى من قراءته له بالفرنسية وزياراته للقاهرة لإعداد برنامج «القِبلة» للقناة الثانية فى التليفزيون الإسبانى. التقيا فى اهتمامهما بالتراث المصرى وأحياء القاهرة الإسلامية، فتوطدت العلاقة بينهما. كان أنطونيو ويرغا نموذجًا مثيرًا فى عالم النشر، استطاع أن يقنعنى ومعى الغيطانى بضرورة الحصول على حقوق الملكية الفكرية بأقل كلفة ممكنة وفى أغلب الأحيان مجانًا! 


 وبدأ دولاب العمل نشاطه وكانت ترجمتى لرواية «متون الأهرام»، باكورة تلك المجموعة المخصصة للترجمات العربية. قدم لهذه الترجمة خوان غويتصولو ولحقتها بدراسة عن أدب جمال الغيطانى، ترجمتها بعد سنوات الكاتبة العراقية باهرة الجبورى ونشرها الغيطانى فى «أخبار الأدب» ثم توليت نشرها فى «الحوار المتمدن». 


وبعد نشر ترجمة «متون الأهرام » جاءت المستعربة ميلاغروس نوين بترجمتها لرواية  «الزينى بركات»، ثمرة قضائها سنوات فى القاهرة. وتوليت أنا مراجعة الترجمة، ونشرت مع مقدمة أخرى لخوان غويتصولو. نُشرت أعمال كثيرة أخرى لكتاب عرب وآخرين يكتبون بالعربية، ثم جاءت نوبل نجيب محفوظ فرفعت من سعر حقوق المؤلف العربى فى إسبانيا وانضم إلى ملكية الدار شريك، كارميلو، فانشقا والمشروع الذى كان متضمنًا كتبًا أخرى لجمال الغيطانى. 


ورغم تعطل مشروع دار ليبرتارياس إلا أن ما نشرته هذه الدار من ترجمات لأعمال عربية، تزامن بدؤه مع فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل عام 1988، ما أدى إلى فتح شهية القارئ الإسبانى ودور النشر على الأعمال العربية المترجمة، فخرجت الترجمة من عباءة الاستعراب إلى حقل تجارى أوسع، فقبلها كانت الترجمة تقتصر على المستعربين الذين تجولوا فى العالم العربى وبعض الرحالة والهواة. واكتشفت إسبانيا أن هناك أدبًا بالعربية يستحق القراءة! 


كنت قد تعرفت إلى الغيطانى فى منتصف الثمانينيات من خلال الشاعر عبد الوهاب البياتى ثم توطدت علاقتى به من خلال الكاتب الصحفى وزميله فى الأخبار مصطفى عبد الله الذى يشبه شغالة النحل فى أدائه المتوصل بلا ملل والذى ظل يلعب هذا الدور بين مصر وإسبانيا لسنوات طويلة بزياراته المتكررة لإسبانيا للمشاركة فى فعاليات ثقافية، بدءًا بمئوية طه حسين التى نظمها الدكتور أحمد مرسى، أستاذ الأدب الشعبى الشهير، بينما كان يعمل مستشارًا ثقافيًا فى مدريد، فى نهاية الثمانينيات وأوائل التسعينيات. 


عُززت هذه العلاقة من خلال مشروع جريدة «أخبار الأدب» إذ استكتبنى فيها لسنوات دون النظر إلى المقابل سوى حب أرض الكنانة، وهذا أكبر من أى مقابل مادى. وكان الغيطانى أحد اثنين جعلانى أعمل وأكدَ حبًا فى بر مصر، ومد جسور التواصل بين الثقافتين. أما الثانى فكان الدكتور فوزى فهمى بينما كان يرأس مهرجان المسرح التجريبى، الذى ظل بمثابة طاقة تنوير لمصر ونور لها فى الخارج لأكثر من عقدين. 


تكررت زيارات الغيطانى لإسبانيا وتعرف إلى أهم مستعربيها، وارتبط ببعضهم ارتباطًا وثيقًا، وأُعدت عنه رسائل جامعية ودراسات أكاديمية قيمة. وشارك فى ندوات ومؤتمرات فى مدريد ودورات بلدة الإسكوريال الصيفية وطليطلة وغرناطة وإشبيلية. شارك فى حلقة دراسية صيفية فى الإسكوريال وكان معنا الدكتور سعد الدين إبراهيم وهناك شهدت لقاء ديكين متخاصمين فى القاعة وفى المقهى. لم أكن أعرف أستاذ الاجتماع الشهير شخصيًا حينها وأصر الغيطانى على عدم الاكتراث به، وهذا كان مخالفًا لطبيعتى إذ كنت أرحب بأى قادم من بر مصر والفيافى العربية. 


ذات مرة دعوته لالقاء محاضرتين فى مدرسة اللغات الرسمية وجامعة مدريد كومبلوتنسى حيث كنت أعمل. فى اللقاءين تعرف إلى زملاء وطلاب كثيرين، واقترب أكثر من إسبانيا وعوالمها المعاصرة بعيدًا عن الماضى المشترك والمستنفدة ذخائره، الأندلس. لفت انتباهى أن الغيطانى لم يبدِ اهتمامًا بالأندلس، وكان تركيزه على الحقبة المعاصرة ابتداءً من الحرب الأهلية وكتابها العظام مثل غارثيا لوركا ورفائيل ألبرتى. وربما كان هذا يعود إلى عدم إيمانه بالفراديس المفقودة. 


فى أثناء تلك الزيارة اهتمت به وسائل الإعلام الإسبانية وكتبت عنه وأجرت الإذاعة الوطنية لقاء جديدًا معه. وفى اليوم الأخير من الزيارة، التى كانت فى ربيع 1995، بدا قلقًا وأحيانًا شاردًا وبينما كنا فى المصرف أسر إليَ بأن سبب شروده هو تقدمه فى العمر، 50 عامًا سنتها، دون أن يقترب من استكمال مشروعه الأدبى. كانت جائزة نوبل للآداب بدأت تأخذ حيزًا من مخيلته بعد أن حازها معلمه نجيب محفوظ


وفى زيارة أخرى تمكنت صدفةً من استقباله داخل مطار مدريد، على خطوات من مدرج هبوط الطائرات، وفى القاعة التالية لمحت الكاتب المكسيكى كارلوس فوينتيس الذى كان ينهى إجراءات الوصول كالطاووس متخفيًا وراء نظارة سوداء. دُهش لتعرفى عليه، وحاولت أن أعرفه إلى الغيطانى فرفض متعللاً بضيق وقته، ما أثار حفيظة الغيطانى والحق أن فوينتس وكثيرين من كتاب أمريكا اللاتينية فيهم اعتداد بالذات مفرط لا يتماشى مع الكثير من مرتادى ثقافتنا المتوسطية، فقلة منهم التواضع من شيمهم، وكان مكسيكى آخر، أوكتابيو باث، من هؤلاء القلائل. 


فى هذا الإطار حرى أن أشير إلى أن الغيطانى كان يستمع إلى رأيى فى ضرورة توسيع الاهتمام بأدب وثقافات الإسبانية، وهو ما كان. وبالإضافة إلى نشره ترجمات من هذه اللغة اقترحت عليه إعداد ملف عن عميد الاستعراب الإسبانى بدرو مارتينيث مونتابيث. كان عرف قيمته جيدًا ودوره الرائد فى هذا الحقل، فهو حامل مشعل التعريف بآداب لغة الضاد وثقافات شعوبها والمناصر الدؤوب لقضايانا فى وسائل الإعلام الإسبانية. إعددت الملف بالاتفاق مع كوكبة من أساتذة الجامعة والشعراء والصحفيين ليكتبوا عنه، وترجمتها وقدمت لها وضمنته مقابلةً مستفيضة أجريتها معه. وبعد أيام نشره الغيطانى فى «أخبار الأدب»، سنة 1997 على مساحة تليق بالمُكرّم والكتاب. 


اللافت للنظر أن الغيطانى عندما دُعى للمشاركة فى تكريم المستعرب بدرو مارتينيث مونتابيث قبل رحيله بشهور قليلة، تحدث بإسهاب عن الملحق سالف الذكر الذى نشرته عن المستعرب فى «أخبار الأدب».


وبعد عودتى إلى أرض الكنانة اقترحت على الغيطانى إعداد ملف لنشره فى «أخبار الأدب» عن الشاعر رفائيل ألبرتى، آخر شعراء جيل الـ 27 الشعرى، بمناسبة مئوية ميلاده فى عام 2002. فتحمس وأعددت الملف بمشاركة زملاء من أقسام اللغة الإسبانية فى جامعات مصر. 


كان الغيطانى من أكثر الكتاب الذين أحسنت تقديمهم فى الدوائر الثقافية والأكاديمية الإسبانية. وكثيرًا ما شارك فى ندوات ومؤتمرات حول الثقافة العربية. ومعها توطدت علاقتنا، ومن خلال مقالاتى فى «أخبار الأدب» أسهمت فى فتح أبواب الاطلاع على إسبانيا ومستعربيها وكتابها، فكانت هذه الجريدة نافذة عربية على الضفة الأخرى. كان كثير الاستفسار عن إسبانيا ودقيقا فى ملاحظاته عن الإسبان والعرب المقيمين فى إسبانيا. أذكر أنه ذات مرة نبهنى إلى وجود تماهٍ بيننا نحن العرب هناك وبين الإسبان، وعلل هذا بتمثلنا التام لكل ما هو إسبانى!! 


آثر الغيطانى الرحيل عن هذا العالم مستجيبًا لهاتف المغيب دون أن يستكمل دورة علاقته الحميمة بإسبانيا وثقافتها بحصوله على جائزة أمير أستورياس إذ يقال إنه كان سيرشح لها حسب بعض الجهات المطلعة. وهى أهم جائزة إسبانية تُعطى كل عام لشخصيات من كافة أنحاء العالم فى اختصاصات متنوعة. واختتم تجواله فى الخارج بزيارة مدريد وإشبيلية فى نهاية تكريم بدرو، أى قبل أن يخلد إلى الراحة الأبدية. وقبل أن يرحل اختتم العلاقة بلقاء أصدقائه الثلاثة، المستعربين بدرو مارتينيث وكارمن رويث والكاتب خوان غويتصولو، وكأنه كان لقاء الوداع مع بعض ممن بادلوه الحب وأحب بلدهم وثقافتهم. 

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة