زكريا محمد
زكريا محمد


تلَّة صغيرة اسمها الأمل مختارات شعرية لزكريا محمد

أخبار الأدب

الجمعة، 18 أغسطس 2023 - 12:42 م

فجأةً ردّ لى الموت ما أخذه منّي. وقفتْ عربته أمام بيتى، وأنزلتْ كلّ شيء: أحبّتى الذين اختطفهم منّى، أصدقاء طفولتى، والأمل بتنورته القصيرة،لم يعد لديّ ما أبكيه. أستطيع الآن أن أضع نعلى تحت رأسى وآخذ غفوة طويلة،غير أن فاختة ناحت على الدّالية.

.
لمَ النّواح يا فاختة؟ ألا ترين أن أخى القتيل قد عاد؟ ألا تبصرين كيف عاد الأمل يلثغ مثل طفلة فى الثالثة من عمرها؟ 
ردّت الفاختة بصوت لا رحمة فيه: «ما فُقد لن يعود. لن يعود أبدًا».
أيّتها الكذّابة. سوف أكسر الغصن الذى تقفين عليه، والمنبر الذى تعظين من فوقه. الكون دائرة. وكلّ شيء يسافر من نقطة على محيط الدّائرة ثمّ يعود إليها. والموت ذاته حصان يجرى على هذا المحيط. يحمل حمله ثم يفسخه. يأخذ القتيل ثم يردّه.
ردّت الفاختة ثانية: «لا، لا، الموت حرَّاث. يصيح ببغلته: دى، دى، ويشقّ ثلمه الطّويل. ثلمه لا يتوقّف أبدًا، وبغلته لا ترتد».
سحبتْ الفاختة نعلى من تحت رأسي.
خرّبتِ الحفلَ الكبير الذى كنت أنوى أن أبدأه. 
2018

يعلم الله أنّنى شجرة، وأنّك أختى فى الرضاعة.
ويعلم الله أنّك أنتِ الريح التى تذرّى قمح أخيها، والنجمة التى تكفّنه.
عرفت الحجر قبل أن أعرف ذاتي. قبضتُ حفنة طين وقدّست بها مفرقي. ولست على يقين من أن أنين النّاى سيبقى بعد أن يفنى الوجود. الوجود كلمة فى لسان العرب، والعدم أخوها فى الرّضاعة.


كان من الأصلح لى لو أنّنى قُتلتُ فى الثلاثين. كنتِ وقتها بكيتنى كما بكت خندق حبيبها خميسًا بعد خميس. كنتِ زرعتنى نبتة فى الأصيص.


تركت لكِ شالى على كتف المقعد ثم مضيتُ فى هيمانى الطويل. تركت لك عظاءة بعين دوّارة على السياج، وغرابًا يدّق البنّ فى المهباج.


وفى هيمانى مررتُ بقبر مالكٍ بين اللوى فالدكادك. لكنّنى لم أبكه. أنا غير قادر على البكاء. لقد ولدت من دون جينات البكاء. وفوق هذا فقد ضيّعنى تكرار الدال والكاف فى الدكادك. أنا ضائع فيكِ، وضائع فى طريقي، يعلم الله أنكِ مدينة، وأنّنى أخوها فى الرّضاعة. يعلم الله أنّك حفنة طين، وأنّنى أملأ بها محجر عيني.

19-3-2019

أحسدها أريحا على قدمها الحافية، وعلى إبرتها التى تقلع بها الشوكة الغائرة.
أشجار البنسيان تتنفّس ثانى أكسيد الكربون وتطلق الأوكسجين رحمة بها. أمّا البدر فيتوقّف فى سمائها ساعة كاملة كى لا يحطّمها الأسى.
لديّ أخبار سيئة كثيرة، لكننى أكتمها. أحاول أن أعثر على خبر جيد واحد لكم لكننى لا أجده. وهذا هو عاري. عار على الشّاعر ألا يعثر على كلمة آسية. عار عليه ألا يلقط حتى ولو تمرة واحدة من النخلة العالية.


أريحا قميص من نار. لذلك فتحتُ النوافير، وأغرقت الحديقة. وحين حطّ غراب على الشيك وضعت سبّابتى فى فمه وأرضعته. أنا هنا غريب يرتكب الحماقات،مرّة دخل المسيح أريحا فعذّبته أربعين يومًا. اصعدوا معى بالتلفريك كى أريكم زنزانته. اصعدوا معى كى أريكم صليبه،أنا أبكى من أجلها أريحا. فمها يعلك الزقوم، وروحها تبكى بلا أمل على جبل التجربة.

23-9-2015

الألم كتاب ضخم بصفحات لا تُعد. وعلى كل واحد أن يقرأ منه شيئًا. هناك حاجز على الجسر يسألونك فيه إن كنت قد قرأت نصيبك من كتاب الألم. لا يمكن العبور من دون أن تكون قد قرأت على الأقل صفحة واحدة من هذا الكتاب، هناك أناس قرأوا صفحات لا عدّ لها منه. وهناك من غرقت رؤوسهم فيه طوال حياتهم.


أما أنا فقد كان ألمى خفيفًا. غرز شوكته القصيرة فى صدرى، ثم هبّت ريح وصفعتنى على جبيني. كسرت الريح غصنًا واحدًا من أغصانى، ثم مضيتُ فى طريقي. هذا على الأقلّ ما أتذكره الآن، أيها الذين كان عبورهم فى الممرّات الصخرية الصعبة لطريق الآلام. يا من قرأوا فصولًا لا عدّ لها من كتاب العذاب، خُطّوا لنا كلمة كى نحس بألمكم العظيم.
عيب على الألم ألّا يترك وراءه ولو خدشًا صغيرًا يذكّر به.
عيب ألّا يخطّ بيده حتى إشارة استفهام على وجه الصخرة.

6-7-2018

لا تجرّبوني. أنا لا أصلح للتجربة. 
أقعد صامتًا مثل سراج مطفأ فى طاقة، وفى الصمت ألد نفسي. بل إننى ألد حتى أعدائى كى أكون عادلًا. 
لديّ خمس أصابع. وهذا كثير عليّ. أكثر مما ينبغي. يمكنكم أن تقطعوا اثنين منهما بالمنشار. يمكنكم أن تتركوا حقيبتى تسافر وحدها فى المطار. لكن لا تدخلونى فى تجربة، فأنا من رفعتُ بيدى (جبل التجربة) ووضعته فى مكانه كى يكتم صدر أريحا.
الليل يطبع قمره على جبينى، والنهار يدرك أننى جندب وأن حقل الشوفان كميني. 
أنا خارج التجربة. 
الليل فرس، والنهار جرس، والحقيقة خيط أزرق من دخان.

4-4-2018

سآكل كسرة خبز. سأمسك بحجر من جهنم كى يغنّى لي.
عنّت النواعير عنينًا موجعًا طوال الليل.
أما أنا فأمشى فى طريق الموت ثم أعود منه. أفعل هذا والنص غير منقوط.
نقطة واحدة تغير المعنى. تحرف الطريق كله.
عنّت الذئاب طوال الليل. كنت أحاول أن أكتب مطلعًا وكان عنينها يقطعني. الحياة مطالع تقطعُ مطالع.
من أين أبدأ وأين أنتهي؟
النهار نملة بيضاء فى راحتى اليمنى، والليل نملة سوداء فى اليسرى. وهما يلعبان بي.
الوصف وحده لا يكفي. يجب أن أذهب إلى ما هو أبعد من الوصف. يجب أن أجلب من وسط جهنم صخرة تفوق الوصف وأقعد عليها.
النص غير منقوط، والطريق دوّارة.
إن أردتنى فاطلبنى يا حبيبي. إن أردتنى فاطلبني.

10-7-2019

لا شكوى لديّ. اسمى ينتهى بياء نداء طويلة فى آخره: زكريييييا.
ولديّ بقية خمرة فى الإبريق. كما أن عينى بركتان تسبح فيهما الطيور الأوابة أحيانًا. وهكذا، فكلّ شيء فى مكانه الصحيح.
غير أنه مقلق أن تكون الأمور جيّدة هكذا. هذا كمال قابل للكسر. جمال يحمل موته فى داخله.
مقلق أن يكون الحصان فى المرج، وأن تكون الشمس على كفله، والعشب فى فمه.
مقلق أن يكون لك اسم يفتح فمه صارخًا. على من سينادي؟ ومن سيرد النداء؟
لا شكوى لديّ. لا شكوى.
الشكوى تولد من الأشياء ذاتها. تفقس مثل كتكوت دامٍ، يدرج بخطى مترنّحة.

16-8-2017

لى صديق يأتينى فى المنام. أسأله: «أين أنت؟ لم غبت عنّى هكذا؟».
فيبتسم ولا يجيب. الابتسامة جوابه الوحيد. ابتسامة فوق اللغة. وحين أراها يطمئن قلبي. 
لكن حين أصحو أكتشف أنه مات منذ ثلاثين سنة. فى كلّ مرّة يحدث هذا. يحدث أن أكتشف موته من جديد.
ليس ثمّة موتى فى المنام. الكلّ أحياء. ليس ثمة فقدان. ما تفقده فى اليقظة تعثر عليه فى النوم. النوم أعمق من اليقظة، وأكثر صحّة منها. من أجل هذا يظلّ النوم متعتي. هناك أناس يذهبون إلى النوم آسفين. أنا أمضى إلى النوم كأنّنى أعود إلى بيتى، كأننى أذهب إلى الحقل.
لى صديق يجرى مثل النهر. أنا على الضفّة، وهو يتدفّق تحتي. لا أستطيع أن أوقفه. «إلى أين تمضي؟» أسأله. «تعال نستيقظ معًا. حوّل مجراك لكى يتدفّق تحت عتبة يقظتي».
لكن هذا لا يحدث أبدًا.
هناك رافد كبير يتدفّق فى نومي. يد النهار القصيرة تفشل فى أن تغرف لى حتى غرفة واحدة من مائه.

3-6- 2015

أعطانى الليل مشكورًا عود ثقاب. 
سأحفر حفيرة، وأشعل نارًا، وأغنّي. أعطونى أسماءكم كى أتغنّى بها. أنا من ولدتنى أمّهاتكم فى العتمة. رأسى سوق عطّارين. رأسى قصر منيف بغرف لا عدّ لها. وأنا أعرف أغانى لا تعرفونها. أغنّى مثل بغل. آكل الأخضر واليابس. 
أنتم إخوتي. كلّكم إخوتي. تعالوا واشربوا معى عند النار. النار هى الفتنة الوحيدة التى يحسن إشعالها.
مرّة جعلت الحكمة تبكى مثل طفل. ومرّة كسرت رمانة اليأس وأكلت أضراسها الحمراء. 
أنا أخوكم الذى سقط من دفتر العائلة. 
أريد أن أشعل عجلة مطاطية وأدحرجها ملتهبة من هنا، من تحت قدميّ، حتى تصل الفجر.
3-4- 2015

الشّعير يُحصد فى أيار. وأنا، بالنبوءة أُقتل فى أيار، وفى ثانى خميس منه على وجه التحديد.
قتيل أيار أنا، والشّعير يُغطّى جثّتى، ويُقفل شفتي. 
لا تبحثوا عن قاتلى، ولا تَكْتَروا ندّابات يندبننى، فقد قتلت ذاتى بذاتي. قتلتها لأنّ البراكين لا تتجاوز المقاييس، ولأنّ البراهين كلّها على الدرجة ذاتها من القوة. 
ألف برهان لا تجعل حبّة شعير واحدة تغادر صفّها.
تمنّيت لو أنّنى نجحت فى تخريب الشِّعر.. فالمعنى تخريب.

31-5-2015

سأطلعكم على سيرتي.
فى الحقّ ليس لى سيرة ولا سريرة. سرّى فى النّوارة، وسيرتى فى الموت الذى يلعب مثل طفل فى الحارة. لديّ كلمات قليلة فى العلبة. الكلام القليل عبادة. لديّ أيضًا خرقة مبتلّة أمسح بها شفتي. فقد حلفت يومًا أن أجعل شفتى رطبة. 
والباقى تعرفونه. أبى كان حدّارًا. ترك لى حصيرة أضعها تحتى، وحذاء أجعله تحت رأسي.
وتريدون أن أطلعكم على صنعتي؟ 
لقد جهدت ولم أفلح. النثر أفلت من يدى، والشِّعر أدمى قبضتي.

2-8-2015

الموت قبيلة كبيرة. خيلها كثيرة ترعى فى السهب، والمطر يتساقط على أعرافها.
أما الحياة فقبيلة فقيرة: قبضة تمر، وقبضة ريح.

2-9-2015 

أشياء كثيرة خجلنا منها فى حياتنا، ثم اكتشفنا متأخّرين أنها أجمل ما فينا. هذه هى لعنة الحياة: الأشياء الجميلة تتكشّف متأخّرًا. نكتشفها ونحن على وشك الرحيل.
شيء ما لا أذكره يكدّرنى هذا الصباح. ربما لأننى دلقت فنجان القهوة. أو لأن أحدًا تجاهل بسمتى الصغيرة. أو ربما لأننى حلبت الشاة خطأ تحت شجرة الزقوم. المشكلة أن أشياء صغيرة كهذه تتجمّع معًا وتصير نمالًا شرسة تقطّع أجنحتنا. 
جناحى مقطوع. لكننى أحبّ أن أغنّي. أصلّى وأغنّى معًا. ولا أجد حرجًا فى هذا. أنا لا أجد حرجًا فى موتى حتى. أغطّى عورتى بيدى فقط، وأذهب عاريًا إليه حين تحلّ الساعة.
وأحب كذلك أن أصفّ الكلمات قرب بعضها، هكذا بلا هدف، أحيانًا. لا يهمّنى أن يخرج منها معنى. لا يهمنى أن يرمّ الحمار التبن من المخلاة، أو أن يغبّ الطائر الماء من البركة. فلقد رأيت بعينى يومًا طائرًا يتوضّأ فى بركة فضّة. كان هذا فى أغنية قديمة لريم البنا. أنا لا أخجل من الثرثرة فى الشِّعر عند اللزوم. فالباب الذى يفتح نفسه أمامى سأدخله.
البساتين الأشد جمالًا هى التى وقفنا عند سياجها، ولم ندخلها قط.

4-1- 2015

كنت صلصالًا. خبزنى الربّ، ثم أخرجنى من التنّور، وخبطنى على ظهرى، وصاح بي: ارْكض، طريقك أمامك.
وتدحرجت وحيدًا بين الشجرة والحجر. لم يكن لى اسم، فأخذت اسمى من التراب. وكان فمى أخرس، فالتقطت كلمتى من الشجرة. وكان هذا جيّدًا. 
جيّد يا ربّ أن يكون اسمى ترابًا، وأن يكون فمى ثمرة.
لكن ثمة شيء ناقص يا إلهى، لا أجده تحت النخلة، ولا عند رأس النبع. ولست أدرى اسمه حتى. وأنا مريض من دونه مرضًا لا يداوى.
لا تعطنى إياه يا ربّ. لا تضعه مثل حبّة لوز فى كفّي. سَمّه لى فقط. قل لى أنه سمكة كى أقطع البحر وراءها. قل لى أنه نجمة كى أحذف النهار من أجلها. قل لى أنه ظبيّ كى أضع قلبه بين القوس والنشّاب.
شيء ما ينقصنى 
أنا يا ربّ صنم أجوف من صلصال، لا يعى إلا نقصه.

17-9-2013

الحياة كومة حصى 
ولكلّ واحد كيسه الذى يجمع حصاه.
يمدّ يده إلى الكيس، ويأخذ كلّ يوم واحدة. بعضهم يرمى بحصاته الطير، وآخرون يكسرون الشبابيك. أنا فعلت مثلهم. كسرت شبابيك كثيرة، وأخطأت عصافير كثيرة.
بقيت لديَّ الآن حفنة صغيرة من الحصى فى قاع الكيس. لنقل عشر حصيّات. لا أنوى أن أضيّعها على الثورات، ولا أن أرمى بها العصافير على الأشجار.
سأقعد على ضفّة النهر، كى أقضم الدّرّاقات العشر بتلذّذ. وعندما يفرغ الكيس، سوف أخلع قميصى، وأسبح فى النهر. التيار سيأخذنى معه. سيوصلنى إلى الجزيرة الشهيرة التى تعرفونها.
بقيت عشر درّاقات على الشجرة. آخذ حصاة من الكيس وأسقط درّاقة. ثم حصاة أخرى ودرّاقة. وأنا أقضم، والنهر يقضم معى، والنهار يقضم كذلك. 
أما الليل، فأبصق له النّوى كى يزرعه فى وحله الأسود.

27-1-2014

صباحًا، 
أفرط حياتى فى طبق
كما تفرط قرون بازلاء
خذوا واعبروا
يحفن العابرون من طبقي
ثمّ يمضون
كلّ يد قبضة
ثمّ يمضون.
ومساء،
أزحف بين الكراسى على ركبتيّ باحثًا عن حبّة واحدة
كى أذوق طعم حياتي.

2008

لكلّ امرئ كلبه ويوم عماه
وهدف حياته أن يجمع بينهما
وثَمّ أناس تربض كلابهم بسلاسلها بين أرجلهم
لكن عماهم لا يطل أبدًا
وهناك من يأتى عماهم
بعد أن تهجرهم كلابهم
أما السعيد
فمن يكون كلبه ليوم عماه
ويوم عماه لكلبه
وهو بينهما لعبة للعتمة والنّباح.

1999

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة