زكريا محمد
زكريا محمد


فخرى صالح يكتب : وداعًا المثقف الصلب الشجاع

أخبار الأدب

الجمعة، 18 أغسطس 2023 - 12:56 م

لم نلتق خلال عقدين من الزمن، وربما أكثر. فآخر عهدى به كان فى نهاية تسعينيات القرن الماضى فى مهرجان جرش، على ما أذكر. أظننى دعوته فى ذلك الحين، للمشاركة فى الندوات الشعرية، عندما كنتُ رئيسًا للجنة الشعر والنقد فى المهرجان. كان قد غادر عمان، التى أقام فيها عدة سنوات، وعملنا معًا فى مجلة «راية الاستقلال» الفلسطينية، التى صدرت فى عمان خلال النصف الأول من التسعينيات، ثم أغلقت لأن الجهة الفلسطينية التى أصدرتها، انتقلت إلى رام الله بعد توقيع اتفاق اوسلو عام 1993، وانتقل هو معها إلى رام الله عام 1994. كنتُ مسئولًا عن الصفحات الثقافية فى المجلة، ثم مديرًا لتحريرها، وكان هو كاتبًا فيها. كان زاهدًا، مشغولًا بما يكتبه من شعر، وباهتماماته اللغوية، وانهماكه فى معرفة ديانات العرب قبل الإسلام. لكن يبدو أن هذه الانشغالات قد آتت أكلها عندما استقر فى رام الله، ووجد بعض الوقت لمواصلة هذه المشاغل والاهتمامات، التى لم أعلم أنها كانت أساسية بالنسبة له. وقد أصدر العديد من الكتب حولها، متكئًا على البحث اللغوى فى اللغات القديمة، والمقارنة، التى لا بد أنها قريبة من طبيعة كتاباته الشعرية، ونحته للمجازات، والاستعارات، والعلاقات اللغوية التى تقوم بين الألفاظ فى عملية الإبداع الشعرى. 


على الرغم من هذا الغياب، وعدم التواصل (ولعل أسبابه تعود إلى انشغالات كل منّا، وكون إسرائيل منعتنى من دخول فلسطين طوال ما يزيد على أربعين عامًا)، إلا أن الودَّ بينى وبينه لم ينقطع. كان زكريا محمد، بالنسبة لى، مثال الشاعر الزاهد فى العلاقات، والظهور الإعلامى، وأن يخطب ود الآخرين، لكى يكتبوا عنه، ويدعوه إلى المهرجانات، ليلقى شعره الصعب بالنسبة لجمهور تربى على ذائقة تقليدية فى تلقى الشعر، أو أنه يفضل الواضح، السهل، على الشعر الذى يحفر فى الأعماق، ويرتقى مرتقى صعبًا، ويبحث فى دهاليز المعنى المخاتل.

اقرأ ايضاً|مؤسسة محمود درويش عن زكريا محمد:صوت قادم من عصر النبوات والمزامير

أول مرة سمعتُ فيها عن زكريا كانت حين حدثنى عنه الصديق الراحل القاص والروائى الأردنى إلياس فركوح، وكانا صديقين منذ سبعينيات القرن الماضى، وقد كتب إلياس من وحى تلك الصداقة قصته «إحدى وعشرون طلقة للنبى» التى نشرها فى مجموعة بالعنوان نفسه. حدثنى إلياس عن مشاغل زكريا الشعرية، واختلافه عن التيار السائد فى الشعر الفلسطينى، حتى عن مجايليه من الشعراء فى سبعينيات القرن الماضى.

وعلمت منه أن زكريا، رغم أنه لم يكن قد أصدر مجموعته الشعرية الأولى بعد، أنه مؤثر فى الرؤية الشعرية لأصدقائه من الشعراء، ومنهم أمجد ناصر، وغسان زقطان. ولا أدرى كيف حصلت على مجموعته الشعرية الصغيرة الأولى، التى اتخذت لها عنوانًا مخاتلًا، وساخرًا، ربما، «قصائد أخيرة». لعله أهداها لى فى أثناء رحلة إلى بيروت فى بدايات عام 1982، أو أننى حصلت عليها بطريقة ما، رغم أنها نشرت قبل حصار الإسرائيليين لبيروت عام 1982. لكن ما أذكره هو أن تلك المجموعة الشعرية القليلة الصفحات لفتت انتباهى، وشدتنى.

فهذا شعر مختلف عما قرأته من شعر فلسطينى،حتى ذلك الحين. إنه شعر مشغول بالابتعاد عن المطروق من سبل الكتابة الشعرية، وموضوعاتها، وقاموسها، ورؤيتها. كان زكريا محمد مشغولًا بكتابة قصيدة مختلفة تهتم بالأشياء الصغيرة، والهوامش، وعناصر الطبيعة، والموت، والعدم، واليأس، وعنف الكائن، والحيرة التى تتلبس الإنسان فى عالم ملىء بالقسوة والعنف. لعل ذلك يعود إلى ما شاهده أثناء معايشته للحرب الأهلية اللبنانية، والمشاركة الفلسطينية فى تلك الحرب.

وقد دفعته تلك المعايشة إلى كتابة شعر ينأى عن البطولى، والصارخ، والتبشيرى، مائلًا إلى كتابة خفيضة الصوت، تتأمل العالم، من على مبعدة، وتشهد عليه.  وقد ظل زكريا وفيًا لهذا الخط، الذى اختاره، فى الكتابة الشعرية. فمجموعاته التالية لـ «قصائد أخيرة» (1981)، «أشغال يدوية» (1990)، و«الجواز يجتاز أسكدار» (1994)، و «ضربة شمس» (2002)، و «حجر البهت» (2008)، و «كشتبان» (2014)، و «علندى» (2015)، و «زرواند» (2021)، تطور هذا المسعى الذى بدأه فى قصائده الأولى، بل إنها توغل فى الغموض، وتبحث عن السرى، والمعتم من علاقات الكائن والطبيعة، والوجود الموحش، فى شعر تنعدم فيه الحدود بين الشعر الموقَّع وقصيدة النثر، والكلام العادى المسترسل، والوصف الخارجى، الذى تقطعه ضربة نهائية، تذكرنا بشعر اليونانى يانيسريتسوس، الذى يجدل الواقعى، واليومى، بالأسطورى، والعدمى، والطقسى، والسحرى، كما يفعل زكريا محمد، فى شعره الأخير، على الأقل. 


لدىّ كلمة أخيرة فيما يخصُّ مواقف زكريا السياسية. فهو اتخذ موقفًا مناهضًا لما سمى بـ «ثورات الربيع العربى»، وخصوصًا فيما يتعلق بسوريا. لا أظن أنه اصطف تمامًا إلى جانب النظام الحاكم فى سوريا، لكنه مال إلى اتهام المعارضة السورية، ونظر إلى ما يحدث بوصفه مؤامرة أمريكية – خليجية. ولعل هذا ما وتَّر علاقاته ببعض أصدقائه، من فلسطينيين وعرب. لكن زكريا ظل وفيًّا لأفكاره وقناعاته، ولم يسفَّ فى مواقفه.

وهو كان معارضًا للسلطة الفلسطينية فى رام الله، وشارك فى مظاهرات ضدها، وسجن لساعات بسبب مشاركته فى مظاهرة تستنكر قتل الشرطة الفلسطينية للمعارض السياسى الفلسطينى نزار بنات.

وقد حافظ على موقفه المعارض لاتفاقات أوسلو، وما جرته على الفلسطينيين من ويلات ومصائب، وكذلك للسلطة الفلسطينية التى تتمسك بهذه الاتفاقات التى تتنكر لها إسرائيل، بكافة أطيافها السياسية. إن معارضته السياسية، وانخراطه العضوى فى الشأن السياسى الفلسطينى، من خلال المشاركة العامة، والكتابة على صفحته فى «فيسبوك»، بصورة يوميَّة تقريبًا، قد جعلت منه مثقفًا صلبًا، شجاعًا، محترمًا، لا يهاب، يدعو موقفه للاحترام، والتفاف الكثيرين حوله. 


سيفتقده أصدقاؤه، وكذلك مناوئوه، ومعارضو آرائه، لأنه نموذج للمثقف، الفلسطينى، والعربى، الذى أصبح فى هذه الأيام، مثل الكبريت النادر،وداعًا زكريا محمد، الصديق العتيق، والشاعر المتميز، والكاتب الذى حفر فى تراث ما قبل الإسلام، وفى النقوش الأثرية الفلسطينية، وجعل عناصر الطبيعة الفلسطينية، مكونًا أساسيًّا من مكونات إبداعه الشعرى. 

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة