كنوز
كنوز


كنوز| الدنيا لما تلطش مع «الولد الشقى» فى سنة أولى صحافة!

عاطف النمر

الأربعاء، 23 أغسطس 2023 - 06:38 م

يبدأ الكاتب الساخر الكبير محمود السعدنى كتاب «الولد الشقى» بأنه سعى عام 1946 وراء الرسام طوغان الذى سبقَه وجرَّب حظَّه فى صحف ومجلات أغلقَت كلُّها أبوابها ! وكل عُدَّته قلم حبر رخيص وكشكول به بعض الأزجال ، وكان قد تكون فى ذهنه صورة عن صاحبة الجلالة الصحافة بفضل مقالات التابعى والصاوى، لكنه اكتشف من خلال الواقع عكس هذه الصورة الذهنية ، بعد أن داخ وراء طوغان دوخة الأرملة الوحدانية ، ويروى فداحة تجربته الصحفية الأولى فى مجلة «الضباب» التى كان مقرها إسطبلًا لحمير أحد المماليك البحرية!

ويقول السعدنى إنه خرج من تجربته الأولى فى الصحافة بحسرة ، وتجربته الثانية بصحيفة «نداء الوطن» التى خرج منها ليسعى خلف طوغان من جديد ، ويستطرد قائلا : 

كان المشوار هذه المرَّة إلى مجلة «الكشكول» ، التى الْتَقيتُ فيها برجل من طراز عظيم ، اسمه محمد حمدى، كان سمينًا وطيِّبًا وفى رأسه أحلام كثيرة ، كان دائم الحديث عن مشروعاتٍ ضخمة ودُور صحف تُقام ، ومُرتَّبات بمئات الجنيهات ، ونُسَخ بالملايين والبلايين، وكان ساحر الحديث يستطيع أن يقنع حتى الصخور وحتى الحمير! ولكن عند التجربة ، وكان حمدى يسقط دائمًا ، واكتفى خلال رحلة حياته بإصدار الأعداد الأولى من الصحف الجديدة ، ثم الاستقالة لإصدار مشاريعٍ جديدة ! ورغم استقالته بقيتُ أنا فى الكشكول ، فقد كان على رأس الجريدة رجل طيِّب يُدعى سعيد إسماعيل ، وكان على علاقة بالإخوان المسلمين لكنه كان صاحب مزاج ! أرادوه درويشًا من دراويش الإخوان فأصبح درويشًا من دراويش الحياة ، وبقيتُ فى الكشكول ثلاثة شهور نشرتُ فيها أزجالًا ومقالاتٍ ثم أُغلِقَت أبوابها ، وشعرت بالحزن الرهيب فقد كان وقتًا قصيرًا كالحلم ، ولكن فقدتُ فيه أعظمَ منبرٍ وقفتُ عليه تلك الأيام ! 

وعُدتُ من جديد أسعى وراء طوغان إلى مجلة «الوادي» ، وكان صديقنا القديم زكريا الحجاوى قد سبقَنا إليها ، وفى اللحظة التى وقعَ فيها بصرى على زكريا ، أدركتُ وأنا شديد الحسرة أن الحجاوى لا يصلح لهذه المهنة ، ولا يصلح لمنصب المدير! فلقد تخلَّى عن رداء الفنَّان الذى يصلح له ودخلَ فى ثوب المدير، وراح يتكلَّم بحسابٍ ويُومئ بحسابٍ ، ويكبس الطربوش بعناية وهو داخل إلى مكتب رئيس التحرير! وفى الوادى الْتَقيتُ بكثيرين: خليل الرحيمي، وأحمد عباس صالح، وعمر رشدى، وعبد الفتاح غبن، وآخَرين، وكانت الكتابة هى العُملة السهلة فى مجلة الوادي، ولكن الأَجْر كان أصعب من الإسترلينى والدولار! ولم ألبث أنْ أصابنى يأسٌ قاتل ، هذه هى الصحافة ؟!

وذلك هو بلاط صاحبة الجلالة ؟! خير منه الأسفلت والرصيف ، وتركتُ كلَّ شيء فجأةً وعُدتُ من جديد إلى حوارى الجيزة وشوارعها ، إلى قهوة مَرْعى أحيانًا وقهوة أمين أحيانًا ، وها أنا ذا أقف وحدى الآن فى الحياة وكل شيء يمضى من حولى ، فلا تلميذ أنا أصبحت ، ولا موظف أنا أكون ، ولا صحفيًّا أنا استطعت ، ولا رغبة عندى فى التلمذة ، ولا رغبة فى الوظيفة ولا مشاريع جديدة فى بلاط صاحبة الجلالة ! 

وأصدقاء الطفولة الذين كنتُ قد تركتُهم خلفى فى الجيزة تبدَّدوا جميعًا وراح كلٌّ منهم بأسلوبه يصارع الحياة ، بعضهم استطاع أن يتلاءم مع ظروفه ، وبعضهم استطاع أن يتلاءم عليها ! ولكن أنا وحدى الذى لم أستطع أن أتلاءم معها ، ولم أستطع أن أتلاءم عليها ، فوقفتُ وحيدًا كما خيال مآتة مرشوق فى بطن الأرض وسط حقلٍ من الضياع والفشل والهوان! 

واعترتنى تلك الأيام لحظات يأس عنيفة ، وفكَّرتُ أحيانًا فى الانتحار، وشرعتُ ذات مرَّة فى تنفيذ ما عزمتُ عليه ، وذهبتُ إلى شاطئ النيل ووقفتُ أتفرَّج على التيار، كنت أحمل فى يدى كرَّاسة قديمة جلدتها صفراء وبالحبر الشينى كتبتُ على الجلدة: « مسافر بلا وداع . مجموعة قصص مصرية تأليف الكاتب المشهور محمود السعدنى . حقوق الطبع محفوظة للمؤلف».

وكنت قد كتبتُ خلال بداية فترة الصياعة مجموعة من القصص القصيرة وكانت أول قصة فيها قصة جندى سافر إلى الحرب ولم يعُد ، وجُنَّت أمه ووقفَتْ تنتظر عودته كلَّ مساء ، ولكن القطار كان دائمًا يدخل إلى المحطة فى المساء دون ابنها ، ومع ذلك ظلَّت تذهب إلى المحطة وتنتظر، وذات مساءٍ حضر القطار وفيه ابنها ، ولكنها تعثَّرَت وسقطت تحت عجلات القطار فى نَفْس اللحظة التى كان الابن الغائب يقفز من القطار إلى رصيف المحطة ، وماتت الأم دون أن يراها ودون أن تراه !

قصة كنت معجبًا بها غاية الإعجاب ، لأن أصدقائى كانوا يستمعون إليها بإعجابٍ وحماس، ولعلَّ السر فى ذلك هى أنها كانت على طريقة «يوسف وهبة» فى تأليف الروايات! وفكَّرتُ فى أن أخلع ملابسى وأتركها عند الشاطئ ليعرف الناس أن شخصًا ما قد غرق فى هذا المكان ، وفكَّرتُ أيضًا فى أن أضع الكرَّاسة فوق الملابس لكى يعثروا عليها فتنشرها الجرائد والمجلات ، وإذا كنتُ أنا المؤلف لم أستطع الحياة ، فلا أقل من أن تُوهَب الحياة لهذه القصص التى هى من صميم الحياة ! أو هكذا كنت أعتقد تلك الأيام! 

وأذكر أننى بكيت وأنا واقف عند الشاطئ أتأمَّل الأمواج والتيار، وقلت فى نفسى وأنا أنظر إلى الحياة تموج من حولى : يا للعار! هذه المدينة المُترَفة الجبَّارة التى يبعثر أهلها ألوف الجنيهات كلَّ ليلة على موائد القمار لا تستطيع أن توفِّر لى عشرة جنيهات كلَّ شهر هى كل ما كنتُ أتمنَّاه من الحياة ؟! ولكن فى اللحظة الأخيرة خانتنى شجاعتي، وكان الظلام قد حلَّ على الكون ، وأصبح الشاطئ أكثر وَحْشة وأكثر كآبة ! فأطبقت بشدة على الكرَّاسة وعُدتُ من جديد إلى قهوة السروجى لألعب الكومى كما اعتدتُ كلَّ مساء. 

وتستمر رحلة الحياة بتقلباتها صعوداً وهبوطاً بالساخر الكبير محمود السعدنى فى حكاياتٍ شيقةٍ ومثيرة وساخرة !

 محمود السعدنى من كتاب «الولد الشقى»


الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة