اللوحات للفنان: عمر النجدى
اللوحات للفنان: عمر النجدى


محمود الرحبى يكتب : لقاء

أخبار الأدب

الخميس، 24 أغسطس 2023 - 02:52 م

كان يكرر كلمة « السمىّ» وهو يحادثنى. وأنا أطلق عليه «عمى راشد».
 يعمل حارسًا فى قلعة سمائل وأصله من الرستاق، سبب لقائى به استطلاع صحفى برفقة زميلى بدر المصور الصامت، مع العديد من المعمرين فى عمان، لصالح مجلة القافلة الأسبوعية. لدىَّ فيها أربع صفحات على أن أملأها أسبوعيا بالحديث والصور المُلتقطة من مختلف الزوايا، لذلك أثناء اللقاء، بدا وكأن بدر ينفصل صامتا عنا ليدخل إلى عالمه، وهو يرشقنا بأضواء كاميرته واقفا وجالسا وقافزا فى أكثر من اتجاه. 


منحتنى المجلة سيارة «فورويل» مستأجرة وصالحة لخوض الأودية وصعود التلال، ومؤمَّنة ضد الحوادث بأنواعها تأمينا كاملا يشملنى وزميلى المصور. إلى جانب مبلغ لملء خزان البنزين مرتين فى الأسبوع، وإذا بعُد مكان اللقاء فإنه يمكننى أن أملأه مرة ثالثة ورابعة، وأحيانا كنا نضطر إلى النوم فى الشارع بسبب بُعد المسافة، وفى هذه الحالة سنختار مساحة مضاءة من الأرض بالقرب من محطة بنزين، وذلك حتى نشعر بالأمان أثناء النوم، لم نكن نعرف شيئا عن العم راشد سوى ما استقيناه من معلومات محددة من دائرة القلاع بوزارة التراث، وهذه المعلومات لا تتجاوز الاسم والولاية الأصل التى جاء منها.

اقرأ ايضاً|بسمة ناجى تكتب..أصوات جديدة تهيمن على القائمة الطويلة لجائزة البوكر


حين وصلنا ناشدنا مستطلعا «جديد الأخبار والعلوم» ودائما الرد معروف: «لا توجد أخبار أو علوم». بدورنا سألناه عن الأخبار والعلوم ليأتينا بالرد نفسه «ما شى أخبار، ماشى علوم» لعلمنا وعلمه، أننا لم نأت إلى هنا إلا من أجل سماع الأخبار والعلوم، وقد استعد العم راشد مثلنا لذلك اللقاء، بعد أن جاءه اتصال من وزارة التراث بضرورة التعاون معنا، ثم سألنا عن اسمينا فعرفته أولا بزميلى بدر، وحين لفظت اسمى راشد نطق بـ «السمى»، ثم تركناه يتدفق فى الحديث بصوت عال وكأنما ليسمع سيرة حياته حتى العابرين بصمت خارج سور القلعة. أشعلت آلة التسجيل قبل ذلك، واحتضنت دفترى السميك وبدأت أحرك فى جوفه القلم الجاف الأزرق.
بعدنى ما بديت وانت تكتب!
هذه بس تمارين عمى راشد.
زنجبار أنا رحتها وكان توخاط شاربى. ولكنى شليت معى سكين سمكها أظنى يجى كما كربة ذيك العوانة.
تحولت أنظارنا وكاميرة بدر حيث أشار بعصاه، إلى كربة بارزة كسن الناب من خصر نخلة معمرة طويلة تنحنى إلى خارج سور القلعة القصير، وهو يصف سكينته التى أخفاها داخل ملابسه، والتى ستثبت له الأيام مدى فائدتها. جاء بجمل من الرستاق إلى ميناء مطرح، وهناك كما خطط، وكما فعل كثيرون قبله، سيبيعه وبأجرته يسافر إلى زنجبار للعمل. ولكن لغرابة حظه، لن يمكث فى زنجبار أكثر من أسبوع، وفوق ذلك سيعود ومعه زوجة إفريقية.
قبل أن يسترسل فى حديثه دخل إلى مطبخ القلعة وجاء وفى يده صحن تمر، ثم دخل مرة أخرى وإحدى يديه ترفع دلة قهوة والأخرى وعاء ماء تعوم فوق صفحته خمسة فناجين.

فى السفينة كنا نأكل وجبتين، أولاهما التمر والقهوة وما تيسر من عشاء قبل النوم. لا نتغدى إلا إذا وقفنا فى محطة بحرية أو سوق كبيرة، كما حدث فى البصرة وعدن وساحل الصومال. هناك كنا نأكل السمك، ولا بد من أكل البصل بعد الوصول إلى كل مكان جديد. البصل يحمى من الأمراض والعدوى. وكادت الريح أن تعصف بسفينتنا ولكن القدير قدر لنا السلامة. كان الصمت والغناء هو الغالب على رحلتنا. لم يكن الغناء من أجل التسرية فقط، بل كان مبثوثاً فيه الدعاء لله وطلب السلامة. لا أحد يتحدث مع الشباب لذلك تركت وشأنى. وحين هبطت إلى ساحل زنجبار وحيدا وجدت رجلا يقف أمامى، كريه الوجه أحمر العينين بخدين أجربين كأنهما جداران يتنزه فيهما النمل. عرف أنى وحيد وأبحث عن عمل. تحسست سكينى المخفية بطرف إصبعى. كان يتحدث بعربية مكسرة وهو يلين صوته ليبث الاطمئنان إلى قلبى الذى يرتجف فى صدرى.

دخلت خلفه إلى مزرعة تحتلها عيدان موز طويلة وأشجار جوز هند مهملة. يتوسطها بيت قديم جدرانه طينية. طلب منى أن أتقدمه إلى غرفة على طرف الباحة حتى يقوم بواجب الضيافة، ولكنه قفل علىَّ الباب وهو يخرج. ثم فتحه وفسح المجال لدخول صبية سمراء جسدها يتلألأ وهى تمشى بخطوات حذرة. عيناها الخائفتان واسعتان وشفتاها مكتنزتان وخداها تبرق منهما حمرة طبيعية. كان كل شىء فيها يتمايل وينطق بدون لسان، تركت أمامى طبق المهنجو الممزوج بمرق الدجاج وملعقة صدئة. أرسلت إلىَّ نظرة مذعورة كأنما لتبلغنى أمراً على أن أتبينه بطريقتى. ثم انسحبت خارجة، وبعد قرابة الساعة، ظهر الرجل القبيح الذى أدخلنى ودون أن ينظر إلى وجهى، حمل صحن الطعام الفارغ وخرج وأقفل الباب وراءه، حينها شعرت بأنى واقع فى ورطة.


فى المرة التالية حين جاءتنى الفتاة بصحن طعام والوجه القبيح الذى فتح لها الباب كان وراءها، رفعت حدقتى عينيها الخائفتين ثلاث مرات إلى الأعلى. ثم خرجا وأُغلق الباب. نظرتُ إلى المكان الذى اتجهت إليه عيناها فوجدت ثقبا يدخل منه الضوء والهواء. لحظات بعد ذلك كنت أستخدم سكينى السميكة مسندا لإحدى رجلى، حين أدخلت نصف السكين فى بطن الجدار الطينى ورفعت هامتى من فوقها. بصعوبة استطعت أن أرفع يدى لتتسلقا إلى ثقب الجدار، وحين أرسلت عينى من هناك فهمت سر النظرة المذعورة للفتاة. عندما رمقت رجُلا فى حالة تقطير! مكمما ومربوط الجسد، ومعلقا فوق نار هادئة والعرق يتصبب منه ويسقط فى جوف وعاء وضع بينه وبين ثلاث أثاف ضخمة. سأفهم لاحقا من الفتاة التى صارت زوجتى، بأن ذلك العرق سيستخدم فى أغراض السحر. كما أخبرتنى بأن دورى كان سيأتى بعده.

فى الصباح لحظة دخولهما غرزت سكينى فى بطن الرجل القبيح والفتاة كتمت أولى صرخاته حين صبت إناءها بك ما فيه على وجهه. ظل الطعام محبوسا بين وجهه والإناء. ضغطت على سلاحها المفاجئ بكامل قوتها، حتى أنهى مهمة القتل. كان مصيرنا يتوقف على نتائج تلك اللحظة. ثم أشرقت عيناها ما إن غاب الوجه القبيح عن الحياة. نزعت سكينى من أحشائه منتصرا، ومسحتها بالحصيرة والجدار الطينى ثم أرجعتها مكانها تحت ملابسى. 

الفتاة تسبقنى ونحن نركض هرعين بين الأشجار باتجاه الميناء حيث أتيت، وهناك صادفنا قاربا أقلنا بعيدا إلى دار السلام، وبما تبقى لدى من مال انتظرنا سفينة حملتنا إلى عمان، وهكذا ذهبت إلى زنجبار ولم أدخلها، وفوق ذلك رجعت ومعى زوجة. هل رأيت من قبل أحدا غيرى يمكنه أن يفعل ذلك؟
لم تكن تلك القصة الوحيدة التى حكاها لى العم راشد عن حياته. كانت صفحة من دفتر عريض، تحفه ظلال رؤوس النخلات الطويلة.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة