صورة أرشيفية
صورة أرشيفية


كريم على القاهرى يكتب :الرجل الخارق

أخبار الأدب

الخميس، 24 أغسطس 2023 - 03:20 م

فى وسط العاصمة الفضّاحة، جلست فى المقهى العتيق الذى شهد العاديات والأعاجيب، بدا على ربكة العذارى الأولى وما أنا بعذراء، تلفنى نفحة الأمل وصهد الفرصة، ثم لفت انتباهى طابور طويل متعرج من الرجال أمام باب خشبى بال أقدم من عواصم، يستر خلفه مبولتين قديمتين، وينتظر كل رجل منهم دوره حتى يفرغ مثانته من قربان القدماء المصريين للإله حتحور فى رأس السنة، البيرة! 


قطع النادل بحلقتى فى اللاشىء بطرقة إنزال الزجاجة فوق الطاولة، نظرت إليه متفاجئة، لم أطلبها، لكن هنا الزجاجة تحضر دون طلب، عنوة، حتى لا تصير كالضيف الثقيل، الذى ينظر إليه النادل المتجهم بضجر ينتظر رحيلك لأنك تجلب له الخسارة بشغرك طاولة بكرسيين على الأقل ثم تطلب شايًا وقهوة وأعشاباً حسنة السمعة.

اقرأ ايضاً| نجوى العتيبى تكتب : قصص قصيرة


على مرمى بصرى تماماً جلس رجل متكوم فى سكون ملكوته يلبس قميصاً أبيض من الكتان متثنى القسمات لم تعتله المكوى وبنطالاً رمادياً تفتحت صبغة فتلته من استدامة الارتداء، فضلاً عن حذائه الأسود المكسو بكثيف التراب.


رحت أتفحصه بغرابة ودهشة وانبهار، الليل لم ينتصف بعد والرجل يرص أمامه ما يفوق الخمسة عشر زجاجة خضراء فارغة ولم يذهب إلى المبولة البتة، كدت أعتبره من الخارقين الذين يأكلون الزجاج أو تدهس العربات الثقيلة ضلوعهم دون أن يمسهم السوء، وها هو نوع جديد، يختزن السوائل دون إخراج أو ألم!


أين يُفرغ هذا الرجل الخارق مثانته من خزين البيرة؟! أكل السؤال رأسى،تناسيت تأخر صديقى فى رحاب الخارق، وبيد أن أنفى الصحفية قوية الشم حتى لو لم أجد فرصة، ربما كنت أخدع نفسى بهذه الكلمات الحانيات لأجل جبر خاطرى المكسور ليس إلا.


عببت ورقة تبغى البيضاء اللينة ثم لوكتها وعيناى لا تنزلان عن الشارد الخارق تلاحقه. جاءه النادل بزجاجه جديدة طرقها على الطاولة كالحاوى، فانكب الخارق بنصفه العلوى يكتب شيئًا ما فى ورقة أمامه تم ثناها بالطول على طريقة ورقة حساب العواجيز لأدوار ألعاب النرد والكوتشينة، وتبين من ظهر الورقة أنها كانت يوماً عبوة معسل محلى.


تكرر الأمر مع كل زجاجة حتى ظننت أنه يسجل عدد الزجاجات كى لا يسرقه النادل فى الحساب لكن ظنى لم يعف فضولى من الحركة، فقررت التقصى!
باليد المعانقة للسيجارة أشرت للنادل بالمجىء، فأتى يرج أجزاءه الضخمة ضاغطاً على رأس زجاجة جديدة يتهيأ لفتحها لكنى منعته، الأولى لم تفرغ بعد، لوى شفتيه متذمراً بينما نصف بصره يلتهم بادرة ممر نهدى فاعتدلت ليعتدل وبادرته بالإشارة والسؤال:
الرجل اللى هناك ده بيكتب إيه كل ما تنزل له إزازة؟!
بيمضى!
 يعنى إيه؟!
بيمضى يا آنسه مش عارفة يعنى إيه يمضى.. بيوقع لامؤاخذة!
 أيوه ليه يعنى يا فذلكة؟!
آهو نصيبه يا ستى!
سببت هذا الخنزير اللزج فى سرى وزدت فى إغاظته بالانتقال إلى طاولة أكبر بجوار الخارق ثم طلبت فنجانًا مظبوطًا من القهوة أعلم مسبقًا أنه سيكون الأسوأ فى حياتى وإن استطاع التبول فيه فلن يتأخر!


ساعة أخرى من الانتظار الخالى والتبغ الثقيل والبن الردىء والبحلقة فى الخارق.
فهمت من انتظارى الطويل أن فرصة جديدة قد ضاعت من يدى فقطعت حبل السراب بيدى وأرسلت لصديقى الذى تركنى كل هذا الوقت رسالة صوتية طويلة فاحشة، تفيد أنه لم يكن رجلاً كما يجب ليأتى ويواجهنى أياً كانت النتائج. لو أراد مزيدًا من الإهانة عليه فقط الاتصال بى!


مللت من اليوم كله ولعنته، واهتزت قدمى بسرعة متتالية تعلن عن توترى الذى يزاحمه فضولى تجاه الرجل الجالس كالمومياء.
بغضب دفست الرمق الأخير من السيجارة فى فنجان القهوة المنتهى ونهضت لا أخجل من رفع بنطالى، ثم اتجهت ناحية الرجل الخارق ووقفت أمامه أسد عليه شعاع شروده، وقلت بنبرة حذرة:


ممكن أسألك عن حاجة؟!
قام الرجل مفزوعًا يتلفت كخارج من القمقم لتوه إلى سفح التجربة ثم قال:
 لأ لأ.. انتى جاية متأخر وأنا وقتى خلص ولازم أمشى!
ثم مال بجزعه على الطاولة ووقع فى الورقة المتخمة بالتوقيعات وصاح فى النادل شاهرًا يده بنفس الحماسة والغرابة:
يا جبر يا جبر أنا مضيت انصراف وماشى!
ظل الرجل الخارق يثور فى وجهى بكلمات غير مفهومة حتى خرج من باب المقهى فى خطوات مهرولات مرتبكات وقد تلون بنطاله الرمادى أخيراً بتدفق قربانه من البيرة! 

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة