نجيب محفوظ
نجيب محفوظ


د. حسين حموده يكتب : مكانة المرأة فى عالم محفوظ

أخبار الأدب

الجمعة، 25 أغسطس 2023 - 04:04 م

شاعت أوهام عدَّة حول كتابات نجيب محفوظ، كان من بينها أنه لم ينصف المرأة، أو أنه قدَّم فى أعماله صورة سلبية لها، أو أنه توقَّف عند نماذج سيئة لها على المستوى الأخلاقي. والحقيقة أن هذا الوهم الذى يقارب أحيانًا حدود الاتهام، بكل «التنويعات».
عليه. انطلق من 
«إساءة قراءة»
، وأحيانًا من
 «عدم قراءة» 
لأعمال 
نجيب 
محفوظ.
 حكم على هذه الأعمال بعض من حكم مكتفيًا بمشاهدة الأفلام المأخوذة عنها، وحكم عليها بعض من حكم خلال قراءة سطحية لها، دون قراءتها القراءة التى تستحقها، والتى يستحقها كل عمل أدبى بوجه عام، وهى القراءة التى يجب، كما نعرف جميعًا، ألا تتعامل مع العمل الأدبى معزولًا عن سياقه، وألا تغفل الملابسات التى ترتبط بـ «الزمن المرجعي» الذى يجسِّده هذا العمل، وأن تضع فى الاعتبار أن العمل الأدبي، وخصوصًا العمل الروائي، لا يقدِّم بطرائق توجيهية «نماذج» إيجابية أو مثالية من أجل الاقتداء بها، بما يشبه وضع «لافتات» تشير إلى طريق ما ينبغى المضى فيه، وهذه الوجهة الأخيرة كانت وراء تصوُّرات مضلِّلة، سادت فى بعض الفترات، حول طبيعة أو وظيفة الدور الذى «يجب» للأدب الروائى أن يقوم به فى خدمة بعض الأفكار أو العقائد أو الإيديولوجيات.


بعيدًا عن القراءات السطحية أو الأخلاقية، وعلى سبيل التمثيل فحسب، يمكن ملاحظة أن شخصية «المرأة السلبية» الأوضح والأشهر فى كتابات محفوظ، التى تمثِّلها «أمينة» فى رواية «الثلاثية»، لا يمكن الحكم عليها مع إغفال الملابسات التاريخية والاجتماعية التى أحاطت بها. صياغة شخصية «أمينة»، خلال ربطها بسياق الزمن المرجعى التاريخى الذى تحتفى به «الثلاثية»، كانت تشخيصًا روائيًّا لتقاليد وأعراف ظلَّت تسلب المرأة أغلب حقوقها فى العقود الأولى من القرن الماضي، وفى ذلك القطاع من المجتمع المصري. ومن وجهة أخرى، إذا نظرنا إلى صياغة هذه الشخصية نفسها داخل المسار الذى قطعته الرواية، وهى «رواية زمن» بقدر ما هى «رواية مكان وشخصيات»، فسوف نصل بين هذه الصياغة وأبعاد «التحول» و»التغير» التى احتفت بها هذه الرواية فيما احتفت به. «الثلاثية» فى القراءة المنصفة لها، اهتمَّت برصد حركة الزمن وتحوُّلاته التى تطرأ على البيت وعلى أهله، وفى هذا المنحى يمكن أن نلحظ، بسهولة، اختلافات واضحة مشهودة تتحقَّق على مستوى علاقات الشخصيات فيما بين بدايات الرواية ونهاياتها.

وإذا كانت أمينة فى مواضع مبكِّرة زمنيًّا بالرواية قد عوقبت من زوجها السيد أحمد عبدالجواد لأنها خرجت من البيت دون إذنه، فإنها فى مواضع متأخِّرة بالرواية تحصل على قدر من التحرُّر النسبي، حيث لم تعد بحاجة إلى مثل هذا الإذن، بل إننا نشهد فى تلك المواضع المتأخِّرة زمنيًّا نوعًا من «تبادل» الأدوار بين أمينة وزوجها: هو يصبح، بسبب المرض، قعيد البيت لا يغادره، بينما تمضى هي، بحريَّة، لتزور المزارات القاهرية المتعدِّدة.

وفضلًا عن هذا، يمكن أن نجد أيضًا فى «الثلاثية» نفسها، وفى زمنها المرجعى المتأخِّر، شخصية مثل «سوسن حماد»، الفتاة العصرية المثقَّفة الثائرة التى تعمل بالصحافة وتنتمى إلى عالم جديد ذاهب فى طريق التحرُّر من ربقة المواضعات المكبِّلة للحرية، وهى تقريبًا تقع موقع المفارقة الواضحة مع شخصية «أمينة».


أيضًا، فى اتجاه إساءة قراءة أعمال محفوظ، وأحيانًا الحكم على هذه الأعمال بشكل «أخلاقي» سطحي، وربما مغرض، تم توجيه اتهام إليه بأنه يهتم بتقديم شخصيات عاهرات فى بعض أعماله؛ وكأنه بذلك «يدعو إلى الرذيلة»، دون ملاحظة أن هذه الشخصيات من العاهرات مصوغة بنبرة إشفاق، تدين الملابسات الاجتماعية وغير الاجتماعية التى قادتهن إلى هذا المصير التعس، وتهتم باستكشاف الأبعاد الإنسانية فى هذه الشخصيات، وترنو إلى سعى بعضهن إلى «حياة نظيفة»، بأكثر مما يسعى بعض الرجال ولنستعِد شخصية «ريري» مثلًا فى رواية (السمان والخريف). 


هناك حضور متعدِّد للمرأة فى عالم محفوظ، منه حضور واضح للمرأة الباحثة عن تحقُّقها، والمرأة الفاعلة، ونلحظ أيضًا تنويعات على هذا الحضور مع شخصيات مثل «إلهام» فى رواية (الطريق)، و»زهرة» فى رواية (ميرامار)، و «حليمة» فى رواية (الحرافيش) التى تقود «عاشور الأخير» إلى الوعى الحقيقى الذى يتبلور لديه فيجعله يخطو أولى خطواته على سبيل إعادة تشييد علاقات العالم الذى تشوّهت ملامحه بالجور والعدوان، وفضلًا عن هذا يمكن أن نلحظ أمثلة أخرى لشخصيات نسائية تكاد تمثِّل «عمود العالم» كما هو الحال مع شخصية «الست عين» فى رواية (عصر الحب).


كذلك هناك حضور مميز للمرأة فى بعض نصوص محفوظ التى اقتربت من حدود التصوف. وفهم محفوظ للتصوُّف فهم خاص، يصل بين الزهد وعدم الانفصال عن وقائع العيش من ناحية، وحب المرأة باعتبارها عمادًا أساسيًّا للحياة، وربما صائغتها الأولى، من ناحية ثانية. ونجد هذا المعنى واضحًا تمامًا فى نصوص كثيرة تضمَّنها عمله (أصداء السيرة الذاتية). لم تكن أبعاد التصوف، فى تصوُّر محفوظ، معزولة عن العالم، بل ربط دائمًا فى هذا التصوُّر بين التصوُّف وحب الحياة.. والمرأة، فى عالم محفوظ كله، هى أكثر من يستحق الحب.


بوجه عام، وباختصار: لم ينطلق محفوظ فى صياغة شخصيات النساء بأعماله من نظرة تقلِّل من شأنهن، ولم يقدِّم محفوظ فى أعماله أية نماذج جاهرة لشخصيات متعالية على سياقاتها داخل هذه الأعمال، ولا على السياقات الخارجية المتنوِّعة التى تحيط بعوالم هذه الأعمال، أو تنطلق منها هذه الأعمال، وينطبق هذا على شخصيات أعماله جميعًا، نساء ورجالًا.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة