مارتن ڤالزر
مارتن ڤالزر


أحمد الزناتى يكتب :مارتن ڤالزر.. صورة الفنان شيخًا

أخبار الأدب

الأحد، 03 سبتمبر 2023 - 01:51 م

فى منتصف العمر ينشد الكاتب والقارئ – فيما أظن- التجريب والمغامرة، ينشد جوّ الحكايات والحواديت، أما الشيخوخة فتنشد شيئًا مختلفًا، تنشد التسكّع، تـدعـو شقيقة الروح كى تأتى لنأكل ونضحك ونثرثر وكأن زمن طفولتنا القديمة قد عاد بتعبير نجيب محفوظ، تنشد الطواف هنا وهناك، التأمل، إمعان النظر إلى الأشياء العزيزة الباقية، أن تنغمس فى جولات أفكار وذكريات،مات مارتن ڤالزر قبل أسابيع، لم تحظَ أعماله فى العالم العربى بالاستقبال المناسب. أعماله المترجمة قليلة، رواية بعنوان "جواد نافر" بترجمة على أحمد محمود، ورواية "رجل عاشق"، نقلها إلى العربية المترجم المصرى القدير سمير جريس، فى السنوات الأخيرة السابقة لوفاته صار ڤالزر يكتب عملًا كل سنة تقريبًا، وأقول كلمة عمل، لأنه منذ روايته الأخيرة «حياة فتاة أو القديسة»، صار الرجل بعيدًا عن كتابة الأدب القصصي/الروائى فى شكله المعروف. وكأن كل عمل جديد هو تلويحة فى الهواء بعكّـاز الكتابة لـدفع أشباح الموت والملل والشيخوخة. 


مثلًا لڤالزر رواية قصيرة بعنوان «وردية متأخرة» صدرت فى يناير سنة 2018، وهى رواية أقرب إلى قصيدة نثر مُطوّلة تطغى عليها رغبة حادة فى السرد الموجز، مزيج من الشعر والنثر والذكريات الشخصية التى لا تخلو من هذيانات الشيوخ ونفحات إيروتيكية طيّارة لكهلٍ طاعن فى السنّ يرقد فى أحد المستشفيات ويُفضى باعترافات الماضى البعيد إلى ممرضة (امرأة أيضًا)، قبلها بعام أصدر رواية بعنوان «كل شيء أو رسائل إلى حبيبة مجهولة»، وهى رواية لا تتجاوز مائة صفحة، مسكونة بالهواجس نفسها: دنوّ الموت، كشف حساب مع الذات، الأنثى المجهولة التى تحمل خطابات/رسائل مشفّرة.

اقرأ ايضاً| سجلات الحضارة

سأحاول فى السطور القادمة تسليط الضوء على عملين من أعمال ڤالزر؛ الأول هو عمله السردي القصصى الأخير «حياة فتاة أو القديسة»، والثانى يحمل عنوان «كتاب الأحلام- بطاقات بريدية من عالم النوم». 


أحداث الرواية عن فتاة فى الرابعة عشرة، اسمها زيرته تسورن تختفى فجأة، يشعر السارد أنهم، دون أن يذكر مَـن تحديدًا، يشتبهون بضلوعه فى اختفائها. وهى البداية التى نلمس فيها بوضوح رائحة: «لا بد أن أحدهم قد افـترى على يوزيف كا»، أقصد رواية القضية لفرانتس كافكا، ورغبة بطلها فى إعداد مذكرة الدفاع عن نفسه، وتزعق هذه الرائحة فى أنوفنا إذا علمنا أنّ فالز أنجز رسالة الدكتوراة سنة 1951 فى جامعة توبنجين حول الشكل الأدبى فى أعمال كافكا. إذن، هناك شبهة تحوم حول السارد، مدرس اللغة الألمانية أنطون شفايجر بضلوعه فى اختفاء الفتاة زيرته تسورن، وهناك أيضًا تقرير  ينبغى كتابته. يستهل ڤالزر روايته بالعبارة التالية: «اختفت فتاة. أشعر أننى محل اتهام، لذلك اختفيتُ أيضاً، وها أنا ذا الآن أدوّن ما أعرفه لإثبات أنى غير ضالع فى اختفائها. على الأقل لستُ مذنبًا مثلى مثل الآخرين، لا معنى لحياتى إن لم أرها من جديد، وإن لم أعثر عليها. إن لم يكن لها مكان فى هذه الدنيا، فلا مكان لوجودى فى الدنيا أيضًا».


يختفى الراوى أنطون شفايجر (تعنى شفايجر فى الألمانية الصامت) ليكتب عن الفتاة تقريرًا بغية إبراء ساحته. ولكن أمام مَن؟ لن يقول بالطبع. هل يذكر القارىء الجُملة الموحية الدالّة المضلة المدفوسة فى ثنايا القضية: «ثم سأله عمّه والآن أخبرنا يا يوزيف ما حكاية هذا التقرير بالضبط، فقال كا كلامًا لا يحمل أى معنى، ثم شرد وضحك قليلًا». طَلبَ صوتٌ أيضًا من مولوى بيكيت كتابة التقرير، لكن ذلك لا يعنى بالضرورة أنه صار أكثر خِفة عن ذى قبل. 


 يـَجمع السارد أخبارًا كثيرة حول الفتاة المختفية، مما يعزّز الشكوك حوله، ويُلقَى القبض عليه ليودع فى الحبس الاحتياطي. يكلّفون محاميًا للدفاع عنه. يحضر  المحامى ومعه «شيكولاتة» للسارد المحبوس، لكن المحامى يلتهم الشيكولاتة التى جلبها لموكّله (كما التهم المحقّقان فطور يوزيف كا فى أول القضية)، معنى قريب يُراد به بعيد. سرعان ما تظهر الفتاة زيرته مرة أخرى لتزور السارد. نعرف فى الفصول التالية أن شفايجر يستأجر حجرة لدى أسرة الفتاة، ويسمع ويرى كل شيء (كافكا يرسل مجددًا تحياته من حجرة يوزيف كا المستأجرة لدى السيدة جروباخ)، وتعطيه من وقت إلى آخر قصاصات من دفتر  يومياتها، ولا يعرف البطل لِمَ تعطيه هو تحديدًا مثلما سنرى مع حُلم نجيب محفوظ لاحقًا. هى عودة الكِبار إلى الأسلاف وهم فى خواتيم الحياة، من باب العرفان أو الامتنان أو إكمال فكرة. لا فرق. 


ج.م.كوتزى (83 سنة) فى روايته الأخيرة البولندى فَرَد أوراق الكوميديا الإلهية أمامه ثم مزج أوراق اللعبة، فعكس الآية وجعل البطل البولندى فيتولد (ليس جومبروفيتش) يموت أولًا، بينما تبقى حبيبته بياتريس على قيد الحياة تتأمل الأشعار التى كتَبها لأجلها. فتُنهى بياتريس الرواية وتخاطبه بـ «أميري»، وتتمنى له ليلة سعيدة وأحلامًا وردية، مُرددةً صدى وداع هوراشيو لهاملت: «ليلة سعيدة، أيها الأمير الوسيم، ورحلات الملائكة تغنى لك». 


فانظرْ كيف يُكتب الأدب!
أيًا ما كان الأمر. تختفى بطلة رواية مرتين ثم تعود، والتالتة ثابتة كما تقول الحكايات. فى المرة الثالثة يتحقّق الاختفاء (الصعود؟) قوة الرواية فى يوميات الفتاة زيرته، وكأن السارد يرفع شعار فلوبير مدام بوفارى هى أنا، بمعنى أنه يحاول إسقاط رؤاه حول الله والموت والحياة والقَدر على لسان الفتاة، القديسة. بالطبع ثمّة إسقاط، ولا يُخفى المؤلف ذلك، فالمؤلف يتماهى مع نظرة الفتاة المراهقة إلى العالم، لأنها تتوق  إلى مطلب سام نبيل يرفضه ذلك العالم، أن تفهم سبب وجودها وغاية حياتها، صحيح أن زيرته فتاة مثقفة تنكب على قراءة الأخوة كارامازوف لدوستويفسكى وفقًا لتقرير السارد عنها، لكن هل فى وُسع فتاة فى الرابعة عشرة أن تدرك مرامى كارامازوف وتُخرِج من جعبتها هذه الأفكار؟ ثمة حروب خفية يخوضها ڤالزر – فى اعتقادي-  مفتشًا عن شيء ما، عن معنى ما، عن قضية يحاول إثبات برائته فيها، قضية لا يُمكن التحقق منها وإثباتها إلا عبر هذه الشذرات الغامضة.

على مستوى البنية الروائية يتسم العمل بهيكل يتناغم فيه الشكل مع المضمون. قوام العمل فصول قصيرة، لا يتجاوز الواحد صفحتين على الأكثر. وبتقدّم الفصول يهجر ڤالزر أصول السرد الروائى برمته (هذا لعب صبيان لرجل فى الخامسة والتسعين)، مُبحرًا نحو ميناء الشِـعــر، أو الشِعر المنثور، إذ تتحول أغلب فصول الرواية، وتحديدًا اعتباراً من الفصل السابع عشر  إلى شذرات شعرية ونثرية وعبارات على غرار مخاطبات النفّرى أو ابن عطاء الله (زيرته تخاطب السماء أو تتضرع إليها). لنقرأ الجزء التالى من خطابات/يوميات زيرته التى أعطتها للراوي، المبيّنة لوجهة النظر السابقة: 
عدو الله هـو من يعيش بدونـه ولا يتوق إليه
يتحتم على الإنسان أن يجد مَنْ يتحدّث إليه، إلى من يصلّى إليه. الحديث إلى الله أفضل من الحديث إلى البشر.
ليست ثمّة حياة قبل الموت
أصرخُ طالبةً الرحمة، ولا أحد يصغى إليَّ
أكتبُ كى لا يعلو صوتى بالصراخ
الألم هو خزانة أنا محبوسة بداخلها  
أودّ ألا أضطر إلى الكلام. لأن ما أفكّر به لا أستطيع قوله، بينما لا أستطيع قول ما لا أفكر به. 
أسوء الأشياء قاطبة هو الخوف من الخوف
عباراتى هى حبال منصوبة فوق الهاوية [ألا نلمح صدى زارادشت نيتشه؟]
للشوقّ غاية واحدة: هى الله. لم أعد أريد معرفة شيء لا يقودنى إلى الله
هلم نـرنّم للرب، نهتف لصخرة خلاصنا  
أنا دون كيخوته بعد أن قرأ ما كتبه عنه سيربانتيس.
أنا مجرد بقعة ماء،  تُركــتْ لتجفّ.. سأصير  إلى ذلك.
فى الفصل الأخير نقرأ: «لا تنشد زيرته معجزة، بل تنشد العثور على معنى لوجودها. قلت لها:  عليكِ البحث عن مغزى حياتك بنفسك والعثور عليه بنفسك». قالت: هذا ما أريده، ثم ذهبَتْ». 
لست متأكدًا إن كان ڤالزر قد قرأ نجيب محفوظ مُترجَمًا، لكنى سأورد الحُلم رقم 38 من أحلام فترة النقاهة، حُلمى الأثير، وهو دليل على صدق مبادىء Archetypes  اليونجية. من المؤكد أنّ محفوظ كان يعرف هوية الفتاة وفحوى الخطاب، ولِمَ اختصّته بالخطاب. 


 يقول الحُلم:
«فى ‏حجرتى ‏جالس‏ ‏أستمع‏ ‏إلى ‏أغنية‏ ‏يذيعها‏ ‏الفونوغراف‏، ‏دخلتْ‏ ‏من‏ ‏الباب‏ ‏المفتوح‏ ‏فتاة‏ ‏فى ‏العشرين‏ ‏جميلة‏ ‏ ورشيقة‏ ‏ومثيرة‏. ‏اكتسحتنى ‏دهشة‏ ‏ورغبة‏ ‏فقمت‏ ‏من‏ ‏مجلسى ‏واتجهت‏ ‏نحوها‏ ‏حتى ‏وقفتُ ‏قبالتها‏. ‏وبهدوء‏ ‏مَدَّت‏ ‏  يدها‏ ‏بخطاب‏ ‏فتناولته‏ ‏ونظرت‏ ‏فيه‏ ‏ثم‏ ‏رددته‏ ‏إليها‏ ‏وأنا‏ ‏أقول‏ ‏لها‏ ‏إننى ‏لا‏ ‏أستطيع‏ ‏القراءة‏ ‏لضعف‏ ‏بصرى ‏وطلبت‏ ‏منها‏ ‏أن‏ ‏تقرأه‏ ‏هى ‏ولكنها‏ ‏اعتذرت‏ ‏بأنها‏ ‏لا‏ ‏تقرأ‏ ‏ولا‏ ‏تكتب‏ ‏وأن‏ ‏والدها‏ ‏كتبه‏ ‏للأمير‏ ‏المسطر‏ ‏اسمه‏ ‏على ‏الظرف‏ ‏ووصاها‏ ‏والدها‏ ‏قبل‏ ‏وفاته‏ ‏بأن‏ ‏تجيئنى ‏بالخطاب‏ ‏لأحمله‏ ‏إلى ‏الأمير‏، ‏وقلت‏ ‏لها‏ ‏ودهشتى ‏تتزايد‏  ‏إننى ‏لا‏ ‏أعرف‏ ‏الأمير‏ ‏ولا‏ ‏أى ‏أمير‏ ‏غيره‏ ‏وساورنى ‏الارتياب‏ ‏ناحيتها‏ ‏وحاولت‏ ‏تغيير‏ ‏الموضوع‏ ‏ولكنها‏ ‏ذهبت. وعندما‏ ‏كنت‏ ‏أعبر‏ ‏جسر‏ ‏قصر‏ ‏النيل‏ ‏فى ‏طريقى ‏إلى ‏عملى ‏ظهرت‏ ‏لى ‏عند‏ ‏نهايته‏ ‏فتجاهلتها‏ ‏ولكنها‏ ‏تبعتنى ‏ مسافة‏ ‏غير‏ ‏قصيرة‏. ‏وعندما‏ ‏عدت‏ ‏إلى ‏مسكنى ‏وجدتها‏‏. ‏حذرتها‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏تعود‏ ‏إلى ‏موضوع‏ ‏الخطاب‏  والأمير‏. ‏ ‏والظاهر‏ ‏أنها‏ ‏لم‏ ‏تخل‏ ‏كذلك‏ ‏من‏ ‏مخاوف‏. ‏وكان‏ واضحًا‏ ‏أننا‏ ‏نريد‏ ‏الهرب‏ ‏بطريقة‏ ‏أو‏ ‏بأخرى‏».


لننتقل إلى العمل الثانى ويحمل عنوان كتاب الأحلام- بطاقات بريدية من عالم النوم. عهد ڤالزر إلى رسّامة اسمها «كورنيليا شلايمِه»، وكَتَب اسمها إلى جوار اسمه على الكتاب كمؤلف مشارك، وهذا طبيعى فالكُـتاب الكِبار لا يعانون عُقد النقص الذائعة. لكن لهذا دلالة أيضًا أنَّ العمل لم يكن ليخرج إلى الوجود من دون هذه الأنثى المُلهمة La Femme Inspiratrice، حيث أسبغتْ رسومها على العمل قيمة جمالية مضافة، وصبغته بصبغة بصرية تُضاف إلى الطابع السريالى لتخيلات ڤالزر الأدبية. أفكَّر: أية رسامة مصرية كان فى مقدورها رسم أحلام محفوظ الأخيرة؟ لا أظن أن الرجل كان سيمانع. على كلٍ، الصور مرسومة بألوان مائية، ولا جَرَم أن الرسّامة استغرقت فى أحلام المؤلف، فحلُمت حُلم رجل آخـر كما تقول الشذرة الصينية القديمة. بعض الرسوم تحمل نزعة إيروتيكية زاعقة؛ قضيب بارز من مرج أحمر، امرأة عارية الصدر تحوم حول بحيرة، مؤكد بحيرة كونستانس، وهو مكان ڤالزر الأثير.  


أما أحلام الكتاب فعلى قسمين؛ أضغاث أحلام تراود الجميع؛ كوابيس حول ركوب سيارة منطلقة كالصاروخ، أو ركوب الدراجة النارية، بعضها شديد الخطورة أحلام بالطيران والسقوط. ثمة حُلم شائع هو عدم اللحاق بموعد القطار، بحيث لا يستطيع المرء الوصول إلى العمل أو المنزل فى الوقت المحدد (جريجور سامسا كان يخشى ذلك قبل التحوّل)، وهذه الأحلام سهلة التأويل من منظور علم النفس اليونجى أو حتى الفرويدى والأدلري. وثمة أحلام عن الفشل فى ممارسة المهنة.


يُقابل السارد فى أحلامه كُـتابًا راحلين، مثلما رأى محفوظ الكاتبَ رايدر هاجارد عند هضبة الأهرام والشيخ مصطفى عبد الرازق. هى ثيمة مكررة عند الكُتاب شرقًا وغربًا. فى أحد كتبى تكلمت مطولًا عن يوميات أحلام الروائى البريطانى الكبير جراهام جرين (طَلَب عدم نشرها إلا بعد وفاته)، بعضها متصل بخدمته كضابط سابق فى الاستخبارات ثم انغماسه فى عالم الأدب، هروبًا من أحلام ماضٍ غامض بقى يطارده حتى موته، وبعضها قابل فيها هنرى جيمس وجان كوكتو وأودن وغيرهم. يقابلُ ڤالزر توماس مان وابنه (فى الأرجح كلاوس مان لأنه كان كاتبًا جيدًا)، ويقابل بريشت وجونتر جراس وماكس فريش وأرنو شميدت ويورجين هابيرماس، الذى يعناقه عناقًا حارًا وكأن كل واحد ينقذ صاحبَه. ثمة أحلام كثيرة تعود إلى بلدة فاسيربورج، مسقط رأس ڤالزر، وهو أمر طبيعى كما فعل محفوظ بكثرة فى أصداء السيرة وأحلام النقاهة، وكما فعل هسّه فى كل نصوصه تقريبًا. 


فى كتاب الأحلام حضور ملحوظ للمعارك الأدبية، ولاسيما معركته مع الناقد الألمانى اليهودى مارسيل رايش رانيتسكى بعد أن كتب فالرز رواية «موت ناقد»، الرواية الطافحة بالسخرية والنقد. فى حُلم يظهر ڤالزر وأمامه رانيتسكى وميشيل فريدمان «سياسى ألمانى يهودى رأس المجلس المركزى لليهود فى ألمانيا»، والثلاثة مسلحون بأسلحة خفيفة فقط.

أسلحة خفيفة! يبدو أن ڤالزر أكثر تسامحًا ووداعة من بيتر هاندكه، الذى لو كان مكانه للبس لأعدائه/منتقديه فى الأدب والسياسة جِلْد النمر وأشهَرَ «السيف الثاني». بمناسبة المعارك الأدبية، فى حوار مع هاندكه قبل سنوات من نوبل تطرّق الحديث لكُتاب/كاتبات يرمونه بأقسى سهام النقد لأسباب أغلبها متصلة بمواقفه السياسية ولا علاقة لها بالفني. وهو فى الأغلب لم يكن يراهم كُتابًا ولا يقيم لهم وزنًا. قال المحاور: فلانة الفلانية كتبت عن روايتكَ وقالت إنها معقدة ومملة، فسأله هاندكه: مين دي؟ المحاور: كاتبة وناقدة أدبية، فردّ هاندكه: مش دى الست العجوزة؟ كان فى زمان ناقدة حلوة كده بتكتب عني، سأله المحاور: آه تقصد الكاتبة فلانة؟ ردّ هاندكه: يا رجل بقولك واحدة حلوة. 


كما يظهر زيجموند فرويد فى أحد أحلام ڤالزر ظهورًا لا يخلو من حضور محفوف بكشف المستور، لأن فرويد كما يقول ڤالزر:» لا يمكنك قول شيء أمامَه، لأنه يعرف مسبقًا ما ستقوله». لا يعوّل فالز على تأويل الأحلام كثيرًا، فيقول: «لا ينبغى تأويل أحلامي، ولا ينبغى الولوج من أبوابها باستخدام أرخص المفاتيح [الوسائل] فهى واضحة بما يكفي». سأختم بالشذرة التالية من كتاب الأحلام:


أرانى رجلًا آخـر. أريد ركوب سيارتي، لكنى أراني جالسًا فيها. وذلك الجالس هو أنا.  لكنى لا أبدو على الهيئة التى أعرفها. أبدو على هيئة مختلفة. ولهذا صداه فى نفسي. لأننى أعلم علم اليقين أن ذلك الجالس فى سيارتي، هو أنا، كما أننى قريب الشبه منه. ثمة اختلاف طفيف. لكنى لا أستطيع الشعور به تمامًا. على أى حال لا جدال أنّ ذلك الجالس فى السيارة هو أنا. 


لكن ڤالزر مات. سأستخدم مفتاحًا آخر. الماستر كي. تعلم يقينًا أن راكب السيارة المتهيئة للانطلاق هو أنتَ، بالطبع ثمة اختلاف طفيف يداعب ذهنك مثلما يداعب قط «مونتيني» صاحبَه، فيضرب عقلك أخماسًا فى أسداس. يتحتم عليك أن تستشعر الخيط الرفيع، لأنك لو لم تتنبّه إلى وجود اختلاف ولو بسيط، ولو لم يخامرك شك ولو ضئيل حول الفرق بين صورتك وأنتَ على عتبة الباب، وصورتك وأنت فى السيارة المتأهبة للمغادرة نحو المحطة الترانزيت، فلترمِ بكل ما كتبتَه وقرأته إلى البحر. 

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة