صورة موضوعية
صورة موضوعية


«روايات متضاربة» قصة قصيرة للكاتب محمود حمدون

صفوت ناصف

الأربعاء، 13 سبتمبر 2023 - 08:21 م

 

 

لم يجبني أحد عن سؤالي, لقد دفعني حنقي وتزايد الغموض أن جذبت إبراهيم, منذ يومين من ياقة قميصه, قلت: أنت بالتحديد متى آخر مرة رأيته أو جالسته أو استمعت إليه؟ لا تقل ما تعرفه من قصصك القديمة التي سكبتها مرارًا في أذنيّ.

 

اهتز الفنجان في يده, زاغت عيناه قليلًا هنا وهناك إلاّ النظر ناحيتي, ثم بدأ في سرد ما يعرف عن الشيخ, فشاورت بيدي أن كفّ, فسكت عن الكلام وتشاغل بمتابعة مباراة حامية الوطيس بين فريقين لا أعرفهم, بين لحظة وأخرى تتسلل إليّ نظرة جانبية, أدري أنه يخوض صراعًا مع نفسه, يراجع كافة ما يعرف, لكن شأنه شأن سكان الشارع, سيلوذ بالصمت ويؤثر حياة الدعة العقلية.

 

لم أجد بدًّا, غامرت براحتي, ذهبت إلي الرجل في عرينه,  حين اقتربت منه, قلت ما يقوله الناس عندما يدخلون مكانًا له حُرمة وقيمة: "احم, يا ساتر" كلمتان لا أعرف أهميتهما, غير أنني قلتهما توطئة للإعلان عن وجودي..

فلمّا وقفت أمامه وجدت حالي يتبدّل في الثانية الواحدة آلاف المرات ما بين إقدام على الفعل وإحجام ورغبة في الفرار, فلمّا أدركَ حيرتي, عبثت أنامله بعصبية ملحوظة بحبّات مسبحته, أومأ برأسه كأنما يقول لي: لا تخف.

 

تشجّعت, ملأت رئتي بالهواء, قلت: يا سيدي, خجلان من نفسي وأنا اقف بين يديك وبداخلي سؤال يؤرقني من بعيد, مجرد التفكير فيه قد يُغضبك, غير أنني لم استطع كتمانه, فأرق السهاد ليلًا أشد مضاضة على النفس من وقفة الدائنين على بابي.. فهل تأذن بطرحه عليك؟ هل تتقبل مراجعتك في أمر يخصّك؟

 

بصدر رحب, وإن وشت انقباضات وجهه السريعة والتي لاحظتها بحقيقة شعوره, قال بنبرة جاهد أن تكون ودودة: سل ما شئت, لا تثريب عليك يا ولدي, إن لم تسألني فإلى من تلجأ وتجد ضالتك ؟

 

قلت: يا مولانا, لقد سمعت روايات كثيرًا عن بأسك الشديد, قرأت حكايات لا حصر لها عن قوتك وقبضتك الرهيبة, كلما خلوت بصديق أو جار على مقهى, يتلو عليّ كل ما يعرف عنك, لكن أسأله قبيل مغادرتنا للمكان: هل لمست أو رأيت أو عاصرت بعض قوته هذه؟ فيهز رأسه أسفًا على جحودي ويؤكد أنني أعاني من الشك, يختم حواره بنتيجة التصقت بي: كثرة المعرفة مهلكة للفرد..

 

أصغى الشيخ إليّ ثم ران علينا صمت ثقيل, تعبت من الوقوف, لم يدعني أو يرحّب بي كما يفعل مع ضيوفه, كأنما نسي واجبه أو ربما رأى أنه ثمن ينبغي أن أدفعه  له مقابل المعرفة. 

 

مضى وقت دون ردّ فعل واضح من جانبه, قلت لنفسي: هل أسأله ثانية؟ بل هل سمعني في المرة الأولى أم أن الشيخوخة طالت سمعه كما تفعل مع البشر أجمعين؟ لكن بغباء من تقدّم خطوة للأمام وهو يعي صعوبة التراجع, رفعت رأسي إليه وقلت بلهجة حملت بعض سخرية أفلتت على رغم منّي: أرني بأسك القديم, دلّني على بقايا قوّتك التي يتحدثون بها وتلوكها ألسنتهم ليل نهار.

تجمّعت سحب الغضب بين عينيه, احمرّ وجهه حتى أصبح بلون الدم, قبض على مسبحته حتى غابت كلها بين أصابعه, بصوت كالرعد صاح: يا هذا, للحديث آداب لم تراعها.

- لكنك أذنتَ لي بالسؤال؟

فرك حبات المسبحة, كانت تنسحق بسهولة وسرعة بين أنامله الغليظة حتى استحالت ترابًا ألقاه في الهواء فتناثر في كل اتجاه, أصاب بعض منه عيني وحلقي فسعلتُ, دمعتُ, فلمّا رآني بحالتي البائسة هذه, أشاح بيده وأخرج مسبحة جديدة من جيبه, قال: عُد بعد شهر, ثم سل ما شئت.

 

 

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 

مشاركة