صورة أرشيفية
صورة أرشيفية


نبيل منصر:عيون انبثقت من قلب المأساة

أخبار الأدب

الإثنين، 25 سبتمبر 2023 - 01:00 م

لا أملك فى ذاكرتى الشخصية تاريخاً للزلزال. ولَسْتُ مهيأً، مِثلى مثل غيرى من الناس، لامتلاكِها. الزلزالُ يَسيرَ، فى معظم الأحيان، ضِدَّ الذاكرة، لأنه ينسفُ الخزائن والمَكتبات ومتاحف الفن والحفريات، مثلما ينسفُ، قبل هذه وتلك، القلوبَ والعمارات التى تظللها. يَنسِفُ ما يتراءى مُستقيماً، مُنتصباً على الأرض، فى تواضع أو كبرياء، وما يخفى على الناظرين من خزائن الروح والنفس والوجدان. نَسْفٌ لا تُقاسُ قوَّتُه، فى الحقيقة، بِسُلَّم ريشتر، وإنَّما بِحَجم الهلع والفراغ الذى يَتركُه فى الوجوه والنظرات الحِدادية، التى تطوى حزَنها بداخلِها مثل نَصل، لكنه حُزنٌ لا يفتأ يتسرب كلطخات دم غير قابلة للإمِّحاء. لطخاتٌ نلمَحُها فى نظرات السهو الطويلة، التى تَصدُر عن نساء أو أطفال أو شُيوخ، لَمْ يتوقعوا مِن الطبيعة هذه الزَّلة المُكْلِفة وغير المفهومة.

أنا أيضا لَمْ أتوقع مِن الطبيعة هذه الزلة (يبدو أن الزلزال يَسير ضد الذاكرة وضد التوقُّع أيضاً). لم أتوقَّع هذه المُزحة الثقيلة، الجارحة، المُميمة، فى جُمُعة الآيات واللطائف. كانتْ ليلة هادئة، خالية مِن أى سوء، قبل أن تأتى رجة لِتُخِل بانسياب الساعاتِ فى أرواحِنا ومُحيطِنا العائلى الصغير، وفى الحديقة التى تستقبل أشجارُها السامقة أطيارَ المهاجر اليومية الصغيرة بالقربة من البيت. كُنا سَنعبُرُ لِاستئناف شئون لَيلَتِنا، فى مُحيطِنا البيضاوى (نسبة إلى الدار البيضاء) الدافئ لو اكتفتِ الأرضُ بِرجَّتِها الأولى. لكنَّ الأرض ما كادتْ تطوى فى بَطنِها تلك الرجَّة، حتى صَعَّدتْ من أحشائها البعيدة رجَّة أكبَر، اهتزَّت لها بِقوة جُدران النَّفْس، وليس جدران البيت وأثاثه ورفوفه ومصابيحه فحسب. رَجَّة ثانية وكأنها سابِعة (بالمعنى الميتافيزيقى)، استغرقَتْ ما يَقرب من الدقيقة الواحدة، تركتِ البيتَ والروحَ شِبه مُعلَّقين فى الفَراغ.

اقرأ ايضاً| ياسين عدنان:يوميات وتأملات أثقال المدينة

مِن هذا الفراغ، شَقَقنا طريقَنا نحو الخارج. معى مفاتيحُ الشقة وإسفنجة لا مرئية لامتصاص العويل. ثمة صخب فى الأدراج، وعَزمٌ على تحويل الهلَع إلى خَطوات مُرتَبِكة فى المَمرَّات، تلفظُ الناسَ خارج بيوتهم المُعلقة بطوابق العِمارة. فَزعُنا الكبير هو ابن هذه اللحظات الصغيرة، الضيِّقة، التى استغرقها وجودُنا فى بيوتٍ أليفة، تحوَّلتْ فى لحظةٍ إلى صناديق مُعتمة، ومُخيفة. هذا الفزع الداخلى، سيجد، فى الخارج، فُسحةً لِيَدرُج ويَتنفَس ويَمتصَّ شيئاً من هِبات الحديقة، التى بَدأت تستعد لِاستقبال ليلة غير هادئة. إن حركة الأطفال، التى كانت تملأ قَلبها مساءً بالركض واللعب وأصناف الشقاوة، فى تناوبٍ للأدوار مع حركة الطير، ستتحول الآن إلى حَركةٍ بلا عُمْرٍ مُحدَّد، لأنه تحديداً عُمْرُ الفزَع الذى وَجَدَ فى لحظةٍ مُتنفَّساً، فبدأ يَحتضِنُ أحاسيسَ مُختلطة، تَحْمَدُ نِعمَة النجاة، لكنها لم تعد تأمَن تماماً زلاتِ الطبيعة وانعطافاتها الفُجائية، غير السعيدة بالمرة.

يَتَحلَّق الناس بالخارج فى جماعاتٍ صغيرة. نشازٌ من المَرويات الفزِعة المتناثِرة من هنا وهناك، لا تملكُ إلا أن تَحتضنَها، لأنها قادمة من مكان اللاِ اطمئنان، الذى هو فى العمق: لا مَكان. مِن هذا المَكان – الفراغ، تُحاولُ الأنواتُ المُندلقة فى الهواء الطلق أنْ تجدَ موقع ارتكاز، لِتعيدَ ترميم تشقُّقاتِها الذاتية، دون أن تكون قادرة على مَنع نَفسِها مِن السَّهو الطويل فيما يُخفيه المجهول. ثمة عائلات ورابطات دم، متناثِرةُ فى أرجاء البلد الحبيب، لا نعلمُ ماذا فعلَ بها الزلزال.

إن جغرافيتَه الداخلية لا تزال طَى المجهول، وما مِن وسائل اتصال أو تواصل، فى هذا الفراغ، تستطيع أن تأتى بالخبر اليقين. الفزعُ والهواجس حاضران، وماعداهُما مُعلَّق، كأن الحياة تتدرَّبُ على ترتيب شئونِها فوق حبل. الأطفال استعادوا حركتهُم، ولكن ممزوجة، هذه المرة، بنُتَفٍ مِن المرويات التى تندلِق مِن أفواههم مُتجهِّمة، تُناسِب خيالهم الهيتشكوكى الناشئ. فتجدهم يتحلقون، ويخترقون هذه الجماعة أو تلك، ناطقين بما يتضخَّم فى آذانهم وقلوبهم من حكاياتٍ، تبحث عن مُستقر فوق حبل الفزع والهواجس.

بَدأ التعبُ يَزْحَفُ على خَطوات الناس ويُحنى قاماتِهم. ظلالُهم تحت مصابيح الشارع صارتْ تستعجلُ أجسادَهم للبحث عن ملجأ. اندَسَّ أكثرُ الهابطين حينَها فى سيَّاراتِهم وأصبحَ لهُم سَقفٌ مُتحرِّكٌ يَحضُن انتظاراتِهم الوالغة فى الفَزَع. بداخل السيارة، مارسَ الناس لحظاتٍ طويلةً مِن السَّهو المُمتَزِج بالترقُّب المرير. لحظاتٌ تناوبَ فيها السهرُ والنوم داخِل أحداق واحدة، ظلتْ تومِضُ وتَنطفئُ مثل جذوة الحياة الوحيدة فى هذا الليل. ما مِن أخبار بَعْدُ. ما مِن هُدهُد هُنا يَخترقُ المدى ببصيرته الرائية. بَعضُ الجسارة الناشئة، كانت تدفعُ، من حين لآخر، بَعضَ القامات لِلتسلل إلى بُيوتِهم تَسلُّل أشباحٍ تَخْشَى ظلالَها. عَودةُ بعض هذه القامات، جاءَت أخيراً بماء الخبر اليقين: لقد ضَرَبَ الزلزالُ منطقة الحوز تحديدا بالأطلس الكبير، ولحق الضرر بمُدن كثيرة كمراكش وآسفى وتارودانت وغيرها. ثمة أموات وجرحى وأناس كثيرون يقفون الآن على خيط أرواحهم المُرْتَجِفة فى العَراء والغُبار.

 فى تباشير الصباح الأولى، استعادَ الناس بُيوتَهم، التى سَكنَها الزلزال. الهزّات المُرتدَّة على مَرمى حَجَر من القلوب. لا يأمَنُ الناس مِن الخوف، ومَحكى الِارتدادات، فى مثل هذه الظروف، يَقف حَجَرَ عثرة فى وَجْهِ استئناف الحياة. ذلك إحساسُ ساعاتِ الصباح الأولى، الذى جعلَ الناس مشدودين لِهواتفهم، لِلقنوات العربية الدولية، التى تُغطى مشاهد حية من الزلزال، وكأنها كانت على علم مُسبَّق بِحُصوله. الآن أصبح للزلزال وَجْهٌ وصُوَر. مَضادُ الذاكرة هذا يُمعِن فى التحطيم، وكأنه الحليف الأول لِقوة الشر، السارية فى الثنايا السفلية للأرض.

عَددُ الهَول مُتحرِّك. الضحايا يتكاثرون. هُمْ الآنَ بِوُجوهٍ مُحطَّمة أو بلا وَجه، ما دام غِطاء الموت المستعجَل يَلُفُّهُم، ويَحجُب خصوصياتهم المتألِّمة عن أعين الناس والكاميرات. حُرمةُ الموتِ، يُمعِن الزلزال فى اختراقها، مثلما أمعن فى اختراق حُرمَة الحياة نفسِها، لكن يَدَ البَشر المُسعِفة الآن، تمد الأموات مثلما تمدُّ العرايا بالأغطية المُتاحة. الهواءُ أصبحَ بعيداً وقليلاً، لكن اليَدَ العاريةَ، المُنقِّبة، بين الحُطام والحَجَر، لَم تَفقدِ الأملَ ولا العَزم، بالرغم مِن كُلِّ شىء.

 نحن، فى الدار البيضاء، بعيدون عن البؤرة. مثلما تبتعد عنها الجديدة والمحمدية والرباط والقنيطرة وفاس ومكناس وغيرُها من مُدن الزلزال. لكنَّ الرَّجَّة الثانية الكبيرةَ لَمْ تُعفِنا جَميعا مِن حِصَّتنا الهائلة مِن الهَلع. ثُم إن جُغرافية الزلزال، التى أصبحتْ واضحة المعالم، صارتْ تستنفر جُغرافية الأرحام المُوزَّعة فى المغرب الحبيب. والسيارات أو الحافلات المَركونة فى ليل الزلزال، اتخذَ كثيرٌ منها وجهة الَحوز للسؤال وتقديم واجب العزاء، وللاِطمئنان على الأحياء والجرحى، وتقديم المُساعدة لِأناسٍ أصبحوا، بين ليلة وصُبحِها، يعيشون فى العراء، مُجرَّدين مِن أرحامهم وسُلالتِهم وبُيوتِهم، التى كثيراً ما كان الطينُ والحجَرُ المُتواضِعٌ يَرفعُ أعمدتَها وسُقوفَها الواطئة، فى تَجمُّعاتٍ قَروية مُتناثِرة فى ثنايا الجبل والهضاب الأطلسية.

 ليس للزلزال ذاكرة، لكن أبناءَ بَلدى عملوا، بروحٍ عاليةٍ، ضِدَّ صَلافةِ الزلزال وطاقَتِه التدميرية. ثمة بُلدان صديقة أيضاً، نكَسَتِ الأعلامَ وهرعتْ لِاقتراح الدعم والمساعدة. حركة التضامن بالداخل والخارج، وعملُ المواطنين الدءوب، أفرزتْ وتُفرزُ الترياقَ الضرورى للمقاومة وتضميدِ الجراح. حركة لم تفتأ تكبرُ، هَمَّتْ توسيعَ دائرة أُخُوَّة الدّم، بينها الدَّم المَلكى الذى وَجَدَ مُستقرَّه الكريمَ فى شريان المغاربة المُصابين فى هذه الكارثة. الأيدى البيضاء لا تكف عن العمل. يدُ الأمن والوقاية ويدُ المواطن النازلة من أصقاع شتّى فى مبادراتٍ إنسانية تُبسِم فعلاً الجِراح. كل ذلك، فى توازٍ مع عمل مؤسساتى جارٍ لإيواء الضحايا والتكفل بهم وإيجاد مُستقر كريم لأبدانهم الطاهرة، المنهَكة. عملٌ باركَه الجبل، الذى تشقق هذه المرة، ليسقى الناس بمائه النادر. فى قلب المأساة، انبثقتْ هذه العيونُ غيرُ المنتظَرة، التى يرى الناس من خلالها بركات الله وعنايته بعبادِه البسطاء. 

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة