عبد الهادي عباس يكتب:  في وداع ثورجي الفن التشكيلي!
عبد الهادي عباس يكتب:  في وداع ثورجي الفن التشكيلي!


عبد الهادي عباس يكتب: في وداع ثورجي الفن التشكيلي!

بوابة أخبار اليوم

الإثنين، 25 سبتمبر 2023 - 03:54 م

يتألق النبوغ حين يتفوق الإنسان في جانب واحد من جوانب الإبداع أو العلم الذي يتخصص فيه؛ أما أن يتفوق الأديب في عدة مجالات مجتمعة فتلك هي مخايل العبقرية الفردية التي لا ترجع إلى الدراسة فقط ولا إلى الموهبة فقط، وإنما تتشابك في تشكيلها روافد كثيرة خفية وظاهرة، ندركها أو لا ندركها، لكنها تبقى واضحة في الأعمال الإبداعية النابعة من أغوار القلب حين تهدف إلى رقي الوطن وانبثاقه إلى معارج النور؛ ولا تخرج إلى فئة الصفوة وحدهم مجردة من الغرض الوطني تُخاطب القراء في علوّ لا يُسمن من معرفة ولا يُغني عن مئات الكتب والأعمال الإبداعية الأخرى التي تُكمل نقصها وتجبر عوارها.

 ولم تكن هكذا كتابات د. عز الدين نجيب (رحمه الله)، التي تأتي لتُشكل وحدها تأريخًا فريدًا لحركة الفن التشكيلي المصري ودوره الفاعل في الحياة الحركية للمواطن، لا مجرد كتب تعيش في عالمها الفني الخاص؛ حيث جعل د. نجيب الإنسان المصري البسيط موضوعه الأول والأثير في مسيرته الإبداعية والنقدية على السواء: الطالب الذي تضامن معه وسُجن من أجله، والفلاح الذي حاول بشتى الطرق ربطه بالفنون من خلال رئاسته لقصر ثقافة كفر الشيخ وخلافه مع المحافظ، وقتها، ثم إقالته منه بسبب حجج بيروقراطية واهية، لا تمسّ الفن ولا السياسة؛ وصراعه مع قيادات الثقافة وقت تولي فاروق حسني للوزارة.. وكل هذه المحطات الحياتية جعلت من الرحلة الفنية والحياتية كفاحًا مستمرًّا من أجل ترقية الإنسان المصري وتحويله إلى فنان، أو إعادته إلى سابق عصره القديم حين كان الشعب المصري كله فنانين أو مساعدين لفنانين.   

كان د. عز الدين نجيب أحد هؤلاء الفنيين العباقرة الذين لم يكتفوا بالتخصص وحده طريقًا لبثّ رؤاهم الفنية لإصلاح الوطن والمواطن؛ وإنما أسهم في عدة مجالات إبداعية أخرى، نقدية وأدبية؛ ومن أبرز مؤلفاته: "فجر التصوير المصري الحديث"، و: "فنانون وشهداء: الفن التشكيلي وحقوق الإنسان"، و: "ستائر الضوء"، و: "مواسم السجن والأزهار"، وهو الكتاب الذي صدر عام 1998م، وحكى فيه تجربته بالسجن إبّان السبعينيات حين أعلن تضامنه مع الحركة الطلابية في الجامعات؛ و: "الإبداع والثورة"، و: "موسوعة الفنون التشكيلية" في ثلاثة أجزاء؛ و:" الصامتون: تجارب في الثقافة والديمقراطية في الريف المصري"، و: "أنشودة الحجر"، وكذلك ترك عدة مجموعات قصصية، منها: "المثلث الفيروزي".

توفي د. عز الدين نجيب أول أمس عن عمر 83 عامًا، وهو من مواليد 30 أبريل 1940م بمحافظة الشرقية؛ ويكمن تأثيره البالغ ليس فقط في كونه أحد الرواد البارزين في الحركة التشكيلية المصرية، وإنما في تأسيسه عددًا من الكيانات الثقافية التي لم تكن موجودة قبله، وهو نوع من محاولات تغيير الواقع إلى الأفضل تكاسل عنها كثيرون من المبدعين؛ منها: مجمع الفنون بمدينة 15 مايو، والإدارة العامة لمراكز الحرف التقليدية والتشكيلية بوزارة الثقافة؛ وغيرها من الإسهامات الإدارية التي جاورت أعماله الفنية، وهو ما جعل له كتائب من التلاميذ والمُريدين يُحيطون به في الدوائر الثقافية والفنية المصرية والعربية؛ لأنه كان متصالحًا مع نفسه قبل أن يتصالح مع الجميع.

وحين كنتُ أقرأ كتابه: "فنانون وشهداء" وأراه يتساءل: "هل يعرف أحد اسم المهندس الذي صمّم الهرم الأكبر؟ هل يعرف أحد اسم الفنان الذي نحت تماثيل رمسيس الثاني على واجهة متحف أبي سمبل؟ أو اسم المخترع العبقري لنظام سقوط أشعة الشمس على رأس الملك مرتين كل عام محسوبتين بالدقيقة والثانية: مرة يوم مولده ومرة يوم جلوسه على العرش؟ أو أسماء الفنانين الذين قاموا برسم مقابر الأشراف في البر الغربي في طيبة؟ أو أولئك الذين صنعوا الكنوز الفنية التي يزخر بها المتحف المصري وتمثل فخرنا القومي وإضافتنا الخالدة للإنسانية وتعتز بها المتاحف العالمية في عواصم العالم المتحضر؟". 

وهكذا كنتُ أتساءل معه: لماذا لا نعرف أسماء هؤلاء العباقرة الذين أقاموا بنيان الوطن وشكلوا مفاخره؟ لماذا نغفل دائمًا عن روادنا الكبار ونُسقطهم من الذاكرة الجمعية؟.. كان د. نجيب مُصرًّا على الدفاع عن زملائه الفنانين منذ المصريين القدماء حتى الآن، وكنت أنبهر بذلك، وأقول: لو أن أرباب المهن والصناعات والحرفيين والصحفيين والأدباء بذلوا هذا الجهد أو نصفه أو حتى نُصيفه، لأصبحت لدينا صور إنسانية فريدة لأجيال كاملة من المبدعين المصريين الذين قد يطويهم النسيان أو يظلمهم البهتان، فلا نجد أمامنا أئمة نهتدي بهم إلى سواء الطريق، إلى النور، إلى الدعوة إلى استقرار الوطن وسلامته والغيرة عليه، نحو قدسية المعلم واحترامه؛ والإنسان إذا فقد قدوته فقد ذاته، فقد بوصلته، ومن ثم تجرفه الأمواج إلى شواطئ الخذلان والنسيان!
سلام إلى روح د. عز الدين نجيب في عليين، سلام إلى كل روح مبدعة تُحب هذا الوطن وتُضحي من أجله.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة