السيدة هدى
السيدة هدى


ننشر حكاية سيدة القصر التي .. تسكُن في دار رعاية

أخبار الحوادث

الجمعة، 06 أكتوبر 2023 - 12:14 م

محمود‭ ‬صالح

 «ما بين طرفة عين وانتباهتها.. يغير الله من حال إلى حال»، هذا البيت الشعري خير ما توصف به مأساة «هدى»، تلك السيدة التي أكل الحزن على ظهرها وشرب؛ فبعد أن كانت تعيش في قصر، في منطقة المنشية بمحافظة الإسكندرية، انتهى بها المطاف وهي تفترش أرصفة القاهرة، قبل أن ينقلها فريق التدخل السريع التابع لوزارة التضامن الاجتماعي إلى إحدى دور الرعاية بالجيزة. تفاصيل أكثر في السطور التالية.

يُحكى أن سيدة كانت من أرباب المنازل الفاخرة، والقصور الضخمة، تعيش حياة الترف، تطلب والكل يجيبها، ولا أحد يقدر على أن يعصى لها أمرًا، حتى جاء يوم انقلب فيه الوضع، وبعد أن كانت من أرباب القصور أصبحت من أرباب الشوارع، تفترش الطرقات، وتأكل من صدقة الناس لها. 

من الوهلة الأولى قد تظن أن هذه القصة مأخوذة عن فيلم سينمائي، ومن خيال مؤلف، لكنها للأسف قصة حقيقية، جرت أحداثها في منطقة المنشية بمحافظة الإسكندرية.

أرصفة القاهرة

بدأت الواقعة من سيدة تفترش أرصفة القاهرة، من مكان إلى مكان، مرة في منطقة العباسية ومرات في منطقة الأزبكية، وعلى هذا النحو تتنقل السيدة سيرًا على أقدامها التي تعرفها الطرقات.

كانت السيدة قد غلب على ملامحها الحزن، وملابسها رثة، وتعيش حالة إعياء دائمة، يبدو عليها المرض، كما أنها تواجه صعوبة في النطق، حتى يظن كل من  يراها أنها لا تتكلم أصلًا.

بالإضافة إلى هذا كله، فقد كان واضحًا أن السيدة تعاني من مرض نفسي، وهذا يبدو واضحًا على تصرفاتها، وحركة عينيها، وطريقة أكلها، بل وأكثر من ذلك كانت السيدة ليس معها ما يدل على هويتها، وهو الأمر الذي أثار الكثير من التكهنات عنها، لكنها لكثرة ترحالها من مكان إلى آخر، إلى جانب كلامها القليل، لم تثر الانتباه إليها، بل كان كل من يراها تأخذه بها شفقة.

أضف إلى ذلك أنه في كل مرة كان فريق التدخل السريع التابع  لوزارة التضامن يذهب إليها تأبى السيدة الموافقة على نقلها إلى أي دار رعاية، واستمرت على هذا الوضع ما يقرب من شهر، بل وأكثر من ذلك، لكنها في الأخير رضخت ووافقت.

عندما كان يقوم مسؤولو التدخل السريع بالحديث معها، كانت السيدة نادرًا ما ترد عليهم بكلمة، حتى أنها عندما كانت ترفض نقلها إلى دار رعاية، كان رفضها عبارة عن أن تتركهم وتذهب بعيدة عنهم، دون أن تلتفت إليهم.

كانت السيدة على هذه الحالة في كل مرة تقابلهم، لكن في المرة الأخيرة استمعت لهم دون أن تذهب بعيدة عنهم، بل سمحت لهم أن يقتربوا منها وأن يساعدوها على السير، وقبل أن ترجع السيدة عن هذا الموقف، على الفور تم نقلها إلى إحدى دور الرعاية الموجودة في محافظة الجيزة.

حياة القصر

حتى هذه اللحظة، لم تفصح السيدة عن أي شيء يخص حياتها القديمة، ولا عن ما أوصلها إلى هذه الحالة، لكن بعد أن وافقت على نقلها إلى دار الرعاية، قالت: «على فكرة.. أنا بنت ناس قوي، كنت عايشة في قصر في المنشية، أنا أصلا من الإسكندرية».

كانت هذه الجملة، والتي نطقتها السيدة بصعوبة بالغة، كانت صادمة لكل من سمعها، بل أنه من كان يرأف بحالها قبل أن تتكلم أصبح يرأف بحالها أكثر بعد أن تكلمت.

في دار «معانا لإنقاذ إنسان»، المكان الذي استقبلها، بدأت السيدة تدخل في مرحلة علاجية، وتم تغيير ملابسها والاهتمام بنظافتها الشخصية، وبعد أن تم الانتهاء من كل هذا، شعرت السيدة أن عليها أن تتكلم.

قالت هدى هانم لمسؤولي الدار؛ إنها كانت تعيش في قصر، وأنها تنحدر من إحدى العائلات العريقة، وأن لها أشقاء وأهل وعائلة، لا يعرفون عنها أي شيء.

قالت السيدة: «أنا اسمي هدى جابر محمد أحمد»، أبويا كان تاجر قطع غيار كبير في إسكندرية، وكنا عايشين في قصر كبير، أنا وأخواتي وأبويا وأمي، في المنشية».

هذه الجملة العابرة، والتي أفصحت فيها السيدة عن شيء من ماضيها، وحياتها قبل أن تصبح في الشارع، لم تكن كافية لمعرفة تفاصيل حياتها.

لكن السيدة، بعد أن نطقت بهذه الجملة، شعرت أنها حينها اكتفت من الكلام، وعاد إليها صمتها الذي استمر قرابة أسبوع، لم تنطق هذه السيدة فيه بكلمة.

لكن وكأن السيدة تخشى الكلام، أو بالأحرى تخشى أن تتكلم وهي لم تشعر بالأمان الكافي، وعندما شعرت بالأمان في المرة الأولى تكلمت، وبعد أسبوع من هذا الصمت الذي أطبق عليها شعرت مرة أخرى بالأمان، فأضافت قائلة: «أنا ليا أخوات على فكرة وهما عايشين وحالتهم حلوة، وكمان معاهم فلوس، بس أنا مش عايزة أروحلهم ولا عايزة أعيش معاهم، هما «محمود، ومحمد، ومنى، هما دلوقتي ميعرفوش عني حاجة، وأنا مش عايزة أعرف عنهم حاجة».

حتى هذه اللحظة، السيدة لم تقل أي جملة أخرى توضح تفاصيل حياتها قبل أن تصل إلى ما وصلت إليه، كل ما عرف عنها أنها كانت تعيش في قصر وأنها تنحدر من إحدى العائلات العريقة وأن لها أشقاء أحياءً يرزقون.

بطلب‭ ‬من‭  ‬الست‭ ‬هدى‭.. ‬ محرر‭ ‬أخبار‭ ‬الحوادث‭ ‬يتجول‭ ‬في‭ ‬شوارع‭ ‬الإسكندرية‭ ‬بحثًا‭ ‬عن‭ ‬قصرها

الإسكندرية:‭ ‬محمد‭ ‬مجلي‭ ‬

 

  الشيء المثير للدهشة والغرابة في قصة السيدة هدى، هو ما قالته عندما التقيناها، وهي أنها تنحدر من عائلة عريقة، سكنت في قصر بمنطقة المنشية بمحافظة الإسكندرية، الأمر الذي دعاني - من منطلق الواجب والأمانة - أن أبدأ رحلة بحث في شوارع منطقة المنشية، لعلي أسهم في أن تعود إلى أسرتها، وأن أكون السبب في لم شملها بعائلتها.. تفاصيل تلك الرحلة نسردها لكم في السطور التالية.

قصة السيدة هدى لم تكن كغيرها من قصص السيدات اللائي افترشن الرصيف هربًا من الماضي، ليس لشيء سوى لأن في قصتها بعض من الأمور التي لا يجب أن نغفل عنها، منها أن قصتها تُعد في حد ذاتها مثالا واضحا وصريحا على انقلاب الحال وتغيره؛ فالسيدة التي كانت تعيش في قصر - على حد تعبيرها - أصبحت الآن تعيش في دار رعاية!

من حديثها معنا، والذي كان حديثًا مقتضبًا، نظرًا لطبيعة حالتها النفسية ومدى التدهور الذهني والجسدي الذي آلت إليه، قالت:»إنها تتمنى لو أن تعود ليوم واحد من أيامها في القصر، تلك الأيام التي وصفتها بأنها أسعد أيام حياتها».

رحلة بحث

عليه، والتزامًا منا بالدور الخدمي، بدأت «أخبار الحوادث» رحلة بحث موسعة، في مناطق وأحياء وشوارع منطقة المنشية بالإسكندرية، لعلنا في رحلة بحثنا هذا أن نصل إلى طرف الخيط، والذي منه نسهم في أن تعود تلك السيدة الستينية لأسرتها.

بدأت رحلتنا من طريق الكورنيش، في البداية ترددت على المحال التجارية والباعة االمتجولين الذين يتواجدون في طريق الكورنيش، سألتهم عنها وأريتهم صورتها، لكن الجميع قالوا لي بأنهم لا يعرفون عنها شيئا، وليس منهم واحدًا - وتحديدًا ممن قابلتهم - قال لي بأنه حتى رآها يومًا من الأيام.

في الحقيقة، بدا لي أن اليأس هو أول من سأعثر عليه في طريقي، لكني أستجمعت قواي، واتجهت من طريق الكورنيش إلى ميدان محمد على الشهير، وكما كانت رحلتي في طريق الكورنيش كانت رحلتي في ميدان شارع فرنسا، وغلب السواد على لوحتي التي لم أرسمها بعد!                                                                                                          منطقة المنشية بالإسكندرية

في الطريق، دلني شخص على شارع فرنسا، حيث قال لي: بأنه شارع عتيق قديم، ومن الممكن أن يكون به قصور، وأن أجد مرادي، وفور أن عرفت هذه المعلومة، انتقلت مسرعا إلى شارع فرنسا.

كنت أرقب البنايات، والتي كانت في الأغلب عبارة عن بنايات ضخمة وليست قصورًا كما قيل لي، مما أكد لنا أننا لم نصل بعد إلى مبتغانا، وأن الدليل الذي سرنا خلفه لم يكن دليلا بالمعنى المفهوم.

ما فعلته في شارع فرنسا لم يختلف كثيرًا عما فعلته في الأماكن التي بحثت فيها، كنت أمسك في يدي الهاتف الذي عليه صورة السيدة هدى، أقترب من أصحاب المحال وأسألهم عنها، لكن الإجابة تبدو واحدة، لا أحد يعرفها.                                                                                                                                                                               شارع فرنسا

مفاجأة

المدهش والغريب بالنسبة لي، ما قاله لي أحد الشباب المتواجدين في الشارع - بعد أن نظر للصورة نظرة مطولة - سألنا قائلا: «مش دي الست اللي كانت نايمة في الشارع».

حينها أكدنا له ظنونه، وأنها فعلًا كانت تفترش الرصيف في شوارع المنشية بالإسكندرية قبل أن تذهب للقاهرة، ومنها تم نقلها إلى دار رعاية، وسألناه إن كان يعرف شيء عنها، خاصة وأنها كانت تقول بأنها كانت تعيش في قصر هنا بالمنطقة.

فور سماعه كلمة قصر انتبه لنا أكثر، ودون تفكير قال: «كانت عايشة في قصر! الست دي حالتها النفسية كانت صعبة، أنا فاكرها، أكيد اللي شافته زمان كان هو السبب في اللي وصلتله دا، أنا للأسف أول مرة أعرف الكلام دا، ومعرفش فعلا إنها كانت عايشة في قصر».

السبع بنات

بعد أن انتهت جولة «أخبار الحوادث» في شارع فرنسا، واصلت رحلة البحث عن قصر السيدة، وانتقلنا إلى شارع السبع بنات، وهذا الشارع - لمن لا يعرفه - هو شارع تجاري شهير، فيه أقدم المحلات التجارية في المنطقة.

أصحاب المحال التجارية، الذين سألناهم عن صاحبة الصورة، وعن القصر، كانت معلوماتهم شحيحة، لم تفدنا في رحلة البحث، بعضهم قال إنه لا يعرفها، وبعضهم قال بأنها سيدة مسنة، مريضة، ومن المحتمل أن تكون غير صادقة، وأن ما تقوله هو محض هذيان ليس إلا.

باختصار، كان الإحباط حليفنا في شارع السبع البنات، لكن أحد التجار، والمعروف بتواجده في المنطقة منذ زمن، أوضح قائلا: «يا أستاذ دا سوق، ناس كتير داخلة وطالعة، ومحدش عايش طول حياته في السوق، عشان كدا صعب تلاقي حد يعرفها، ولا يعرف أي معلومة عن القصر دا ولا عن أخواتها».                                                                          شارع السبع بنات

وأضاف: «الاسم اللي انت بتقوله دا مش غريب عليا، لكن للاسف مش هعرف أفيدك، أنا مش فاكر قصة الست دي ولا أعرف حاجة عن موضوع القصر، ونصيحتي ليك لو حابب تساعدها دور في مكان تاني غير هنا، عشان هنا في الشارع دا مش هتوصل لحاجة».

ما زاد الطين بلة، أن بعض أصحاب المحال، فور معرفتهم بالقصة، أجمعوا على أن منطقة المنشية ليست منطقة معروفة بتواجد القصور فيها، وأنها معروفة بانتشار المحال التجارية فقط، وأنها في الإساس منطقة تجارية وليست سكنية، الأمر الذي أعاد بنا مرة أخرى إلى نقطة البداية.

من ضمن الأسواق التي تضمها منطقة المنشية، والتي أوضحها لنا بعض أصحاب المحال، سوق الملابس وسوق لبيع الأسماك البحرية، بالإضافة إلى سوق معروف بتواجد محال الأدوات الكهربائية، بالإضافة إلى انتشار كثيف للمطاعم، إلى جانب منطقة زنقة الستات.

فور معرفتنا بكل هذه الأماكن، قررنا أن ننهي رحلة بحثنا بالذهاب إليها والسؤال فيها، وبالفعل، حتى موعد كتابة هذه السطور لم يعرف أحد ممن قابلتهم في منطقة المنشية هوية السيدة، ولم يدل أي منهم أي خبر عن القصر.

في الأخير، أشار بعض من تجار قطع غيار السيارات في الإسكندرية، إلى ضرورة البحث فى أماكن مجاورة، وليس فقط منطقة المنشية، لأن السيدة ليست في حالة ذهنية سليمة، ومن الممكن أن تقصد منطقة أخرى غير التي قالت عليها.

رحلة بحث «أخبار الحوادث» لم تتوقف، إذ أنها تضع أملا كبيرا فى الوصول إلى هوبة سيدة القصر، على أمل بعد النشر أن يتعرف عليها أحد، ويدلنا عن أسرتها.

اقرأ أيضًا : التدخل السريع بالغربية ينقذ زوجة مشردة بميدان السيد البدوي

 

 

الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة