السيد محمد منصف
السيد محمد منصف


صياد بدرجة مقاتل.. «منصف» زرع الألغام في طريق العدو أيام الاستنزاف

حسام صالح

السبت، 07 أكتوبر 2023 - 09:52 ص

كان لأبناء السويس دور بارز في معارك الاستنزاف، شاركوا في تنفيذ العمليات الفدائية، بالمرحلة التي يصفها العسكريين بمثابة الإعداد لنصر أكتوبر 1973، وكانوا أول من جرى تجهيزه وتدريبه وكان أبناء المدينة الباسلة أول من تم تجهيزه لمرحلة الإعداد وذلك عقب حرب يونيو 1967.

قبل 56 عاما كان السيد محمد منصف 76 عامًا أحد الصيادين الأبطال الذين نقلوا الجنود الشاردين في صحراء سيناء عقب النكسة، وشارك فيما بعد في العمليات التي كانت تجري على الضفة الشرقية للقناة لإلحاق خسائر بالعدو الإسرائيلي، حتى تم أسرة أول عام 1969.

اقرأ أيضا: أبرزهم الجنرال.. رياضيون شاركوا في حرب أكتوبر المجيدة

 

يحكي السيد منصف 76 عامًا كيف بدأ أول مهمة أوكلت له ويقول في 9 يونيو 1967، تلقى استدعاء لمكتب المخابرات الحربية، وطلب منه الضابط المسؤول الذهاب للضفة الشرقية للقناة ضمن مجموعة صيادين، لمساعدة الجنود المصابين والعودة بهم للسويس
 
ويقول سيد الصياد، ان الضباط بالمكتب دربوه والصيادين الأخرين على خطوات اسعاف الجنود، وضرورة ألا يعطوهم الماء أو الطعام دفعة واحدة، وإلا ساءت حالتهم، مع تجنب حمل أي قطعة سلاح يجدوها لان المحتل الإسرائيلي كان يراهم بعينه ويهاجمهم إذا رآهم يأخذون الأسلحة.

يتحدث عن المشهد في أرض سيناء ويقول:" كنا نتحرك فجرا من السويس، كل صياد في فلوكة يدفعها في الماء بمجدافين يحركهما بيديه، ونصل لسيناء قبل طلوع الشمس، نبحث في المناطق الصحراوية قرب عيون موسى ورأس سدر ومفارق "متلا" عن الجنود ونعود بهم للشاطئ.. كانت الجروح وحرارة الشمس نالت منهم، لكن الأذى الذي لحق بنفوسهم كان أشد".
 
وأضاف أنه والصيادين زملائه كانوا يسقون الجنود قطرات ماء، ثم بعض اللقيمات، ومع تحسن حالتهم يقدموا لهم العصير، قبل نقلهم إلى فلُك الصيد والعودة بهم للسويس.

اقرأ أيضا: محمد طه.. صاحب أشهر علامة نصر


 
واستطرد أنه استمر على ذلك الوضع 17 يوما يخرج فجرا ويعود مع غروب الشمس وفى كل مرة ما بين 20 الى 30 جندي مصاب وجريح، يسلمه عند منطقة الخور إلى رجال الجيش المصري.
 
عقب ذلك أبلغ الضباط الصيادين، بانتهاء دورهم وأن من يريد ان يكمل ويساعد في العمليات مرحب به، فوافق جميع الصيادين ووفروا أفضل وسيلة للانتقال.
 
 
جمع الضابط المسؤول عن المجموعة الصيادين بمنطقة "غبة البوص" بالسخنة جنوب السويس، وهناك تلقوا تدريبات مكثفة على أيدي ضباط من الصاعقة والاستطلاع، عن استخدام الأسلحة والاشتباك وفك وتجميع الأسلحة بمختلف أنواعها وفك وتركيب الألغام بالطرق وكيفية إلحاق خسائر كبيرة بالعدو بعد التسلل للخطوط الخلفية.

يتذكر الصياد ما أول تلك المهام، والتي تمثلت في نقل بعض الضباط وعناصر الاستطلاع إلى البر الشرقي للقناة، وعناصر الضفادع البشرية التي كانت تنفذ تجمع المعلومات وتنفذ العمليات.

ثم ابدأ الصيادين في المعاونة بتلك العمليات وزراعة الألغام على الطرق، والمدقات وذلك بوضعها في المنحنيات الضيقة، لضمان مرور عجلات المركبات عليها وعدم ترك أي فرصة للحظ.

اقرأ أيضا: ما قبل النصر| ملحمة تدريبات وإعداد معنوي وعودة الثقة


 
يحكي الفدائي منصف عن العمليات التي شارك بها وكانت خمس عمليات، ويقول "أول عملية كانت في عام 68 خرجت في لنش وزملائي من منطقة الزعفرانة وبعد وصولنا لمنطقة في الضفة الشرقية لخليج السويس استهدفنا الطريق الخاص بالدوريات الإسرائيلية، بمنطقة (اللاجايا) بجنوب سيناء، وزرعنا الألغام التي دمرت مدرعتين وأسفرت عن مقتل 7 جنود.
 
كانت العملية الثانية بعدها بـ 10 أيام نفذ الصياد وزملاءه كمين لمدرعتين قرب ساحل خليج السويس، بنفس منطقة.

 
أما العملية الثالثة كانت أشهر العمليات التي نفذها الصيادين، في الأول من يناير عام 1969، ويروي منصف أنه تحرك من السويس ليلا، وصل لمنطقة كشران قبل أبو زنيمة على الساحل، زرع وزملائه الصيادين الألغام على مدق جبلي، في منطقة معينة كان لديه معلومات بميعاد مرور حافلة جنود إسرائيليين، كانوا في طريقهم إلى تل أبيب لقضاء إجازة
 
كان لهذه العملية وقع كبير ليس فقط في إسرائيل بل حظيت باهتمام عاملي، ويشير منصف إلى أن العملية أسفرت عن مقتل 42 جنديا كانوا في الاتوبيس ومدرعتين للتأمين، وأحدثت خللا في الأوساط الإسرائيلية ترجمته إذاعة لندن ومحطات العالم التي ظلت تتحدث عن العملية 3 أيام.
 
كان منصف سعيد بما صنع وزملاءه، كلما مر من أمام مذياع سمع الخبر حمد الله على نصرهم، لكن دون ان يخبر أحد بأنه من صناع ذلك النصر، كانت العمليات سر وكان الوحيد الذي يعرف بمشاركة في عمليات الفدائيين هو عبد المحسن هداية، بقال في الحارة التي يسكنها وكان يعتبره كوالده.


 
يقول منصف أنه إذا خرج في ليلة لتنفيذ عملية يخبر البقال أنه "سيغيب" فيعرف أنه سيؤدي عمل فدائي، وكان الهدف من ذلك أن يبلغ أسرته فقط إذا وقع له مكروه.
 
كانت العملية الرابعة أقل وطأة في التنفيذ، وأشد في الجهد المبذول، حينما كلفت القيادة في السويس الصيادين بنقل معدات وأسلحة وألغام الى ضباط وجنود العمليات الخاصة الذين تسللوا سرا لسيناء.

كان الوصول للمكان الهدف، يستلزم صعود جبل "الوعر" بجنوب سيناء، يقاوم فيها المتسلقين الجاذبية والطقس البارد، والعودة بعد ترك المهمات بمنطقة معينة.

فجر يوم 15 يناير عام 1969، تحرك المجاهد السيد منصف وزملاءه الفدائيين، وضعوا ألغام قرب منطقة حمام فرعون لاستهداف دورية أخرى، وخلال عودتهم بالقرب من منطقة أبو زنيمة، كانت سفينة تجارية قادمة من اتجاه الجنوب، كان على متنها عساكر إسرائيليين متخفين


يروي المشهد متأثرا: "تحولت علينا النار من البنادق والدافع، اشتبكنا معهم حتى حاصرونا ، كنا سبعة في لنش الصيد، لحظة الوقوع في الأسر كانت قاسية على المجاهدين السبعة، يعلمون ان القادم فصول متتالية من الآلام، ومحاولة دهس كرامتهم وانهم لن يصمتوا أمام ذلك، لهذا سينالوا جرعات مضاعفة من الألم.
 
رغم مضي أكثر من 5 عقود إلا أنه يتذكر أسماء المجاهدين الذين أسروا معه وهم أحمد حسن عروق، المغاوري إبراهيم دعبس، وحسن على أحمد عرابي من السويس، وهو الوحيد الذي اصيب بعيارين ناريين في الاشتباك قبل الأسر.
 
اما عن بقية المجموعة فكانوا 3 عربان من بدو سيناء هم حسن الكيلاني بدوي من عيون موسى، وعواد عوده سلمي من عرب أبو زنيمة، وسلامة التيس من القسيمات بوسط سيناء.
 
 
بعد الامساك بالمجاهدين والفدائيين اقتادوهم إلى تمركز قوات الاحتلال بأبو زنيمة، وضعوهم بالحجز، ثم نقلوهم في الصباح إلى منطقة أبو رديس، ومن هناك وضعوهم في طائرة اسرئيلية نقلتهم حتى سجن " صرافنت" في تل أبيب، وهو سجن حربي" هكذا كانت رحلتهم للوصول إلى السجن الاسرائيلي لكنها كانت البداية فقط بحسب ما يروي الصياد.


يقول منصف: في السجن كنا في انتظارنا ضباط الموساد الإسرائيلي، الذين استجوبوهم وشهدوا على تعذيبهم، وارغامهم على التحدث بشتى الطرق، والإفصاح عن باقي المجموعات لكن ذلك لم يحدث، حتى عادوا إلى مصر في تبادل الأسرى بعد 14 شهر من الأسر في السجون الإسرائيلية.  
 
يكشف المجاهد منصف، ان اللجنة الدولية للصليب الأحمر كانت تتابع أحوال الأسرى المصريين والسوريين في السجون سواء العسكريين أو المدنيين، لكن القوات المحتلة كانت تنقلهم من سجن لآخر كلما علمت بوصول اللجنة.
 

6 شهور قضاها وزملاءه في الحجز، وبعد 3 شهور من بقائهم بسجن صرافنت، بتل أبيب، قاسوا فيها أشد أنواع التعذيب النفسي والبدني، نقلوهم إلى سجن غزة، ثم إلى سجن " اشتيلون"
 
يروى منصف واقعة استجوابه في سجن اشتون، هناك تعمد ضابط الموساد اهانته وسب الزعيم الراحل جمال عبدالناصر، فما كان منه إلا ان رد عليه بقوة ووصفه وقوات الاحتلال بالمجانين والهمج، لكن الضابط لم يصمت امام سب واهانة الصياد المصري، ضربة بعكب مسدسه في صدره، ثم أمر بالحراس الذين انهالوا عليه ضربا مدة تزيد عن نصف ساعة بالعصي.
 
لم ينتهي التعذيب، بل سحبوا منصف على شجرة في ساحة السجن وربطوه فيها 3 أيام بدون طعام أو ماء، حتى فقد الوعي ، نتيجة للألم والجروح، ساءت الحالة الصحية للصياد، فنقلته قوات الاحتلال إلى مستشفى "اللد" الإسرائيلي لتلقي العلاج، فهم ما زالوا بحاجة إلى ما لديه من معلومات ظنوا انه يبوح بها.

 
كانت المستشفى مكان لعلاج أسرى الحرب، بعد 3 أسابيع من العلاج استعاد منصف صحته، كان في سرير مجاور له النقيب سليم دوزي، ضابط مخابرات سورية، سقط في أسر العدو، بعد إصابته بطلقة في مؤخرة الظهر، لكن لم يستفيدوا منه شيئا وكان أشد كرها لهم من منصف وبدا ذلك واضحا من معاملته لهم.

كانت منصف يخشى ذلك الرجل في البداية، لكن بعد أن اطمأن له أخبره بما حدث له ولزملائه، فسأله الضابط السوري عن زيارة الصليب الأحمر، لكن منصف لم يفهم ما يقصده فهو لم يعرف بشأن اللجنة الدولية حتى ذلك الحين.


طمأن النقيب سليم الصياد المصري، وأخبره ان زيارة وفد لجنة الصليب يزور المستشفى بعد يومين، وبمجرد ان وصل أعضاء الوفد حتى جذبهم سليم الى الحجرة قائلا " في مصرى هنا عايز يشوفكم"
 
يحكي منصف أن اللجنة وصلت وقدم له نفسه وبياناته لكن مندوب المنظمة لا يفهم إلا قليل من العربي، حينها استعان برفقاء في العنبر المواجه ليه بالمستشفى، 2 ضباط أسرى من حركة فتح، أحدهما كان مدرس انجليزي، وطلبت مساعدته.
 
ويضيف أنه أخبر أعضاء اللجنة عن زملائه الستة الذين اخفتهم القوات الإسرائيلية بسجن اشتيلون، وقدم بياناتهم كلها وعنابر الحجز الموجودين فيها، وكان ذلك سببا في الوصول إليهم وكشف الأمر خسة العدو في معاملة الأسرى، الذين أخفوا عن اللجنة وجود اسرى مدنيين وهو أمر مخالف للقانون الدولي والاتفاقيات التي وقع عليها قيادات العدو.
 
كانت الشهور الثمانية المتبقية قبل تبادل الاسرى، أكثر لطفا، لم تخلو من التعذيب لاستخراج المعلومات وتلذذ الإسرائيليين بالأذى النفسي والبدني، لكن أوراق الخطابات التي كان يكتب منصف على نصفها لأسرته، ويسلمها مندوبي الصليب الأحمر، لمصر فتصل لأهله وتعود ليقرأ ما كتبوه بالنصف الأخر تهون عليه أيام الأسر.

سعت منظمة الصليب الأحمر في تلك الشهور، إلى عقد اتفاقية تبادل أسرى بين الجانبين، وفي مارس 1970 تم الامر، كان الاتفاقية تتضمن تبادل 2 طيارين إسرائيليين سقطا في أسر المخابرات المصرية بعد ضرب طائراتهما، وفى المقابل طيار مصري سقطت طائرته في العريش، على ان يعود مقابل طيار، ومجموعته التي تضم 7 مجاهدين، و7 جنود من القوات الخاصة المصرية، مقابل الطيار الآخر.
 
كان منصف ومجموعته، والجنود السبعة، والرائد الطيار نبيل سعيد، يستعدون على الساحل الشرقي لخليج السويس، لاستقلال لنش لجنة الصليب الأحمر، يروي الصياد ذلك المشهد الذي زادهم فخرا وجعلهم يعودون رافعين رؤوسهم لا تعنيهم آلام أو جروح تركها التعذيب.

عاد الفدائيين المصريين سالمين الى أرض الوطن، وتم نقلهم الى مدينة القنطرة في الإسماعيلية، ثم الى القاهرة وظلوا بمقر مكتب المخابرات 3 أيام، ومنها غادر كل منهم الى اسرته التي استقبلته استقبال الأبطال.

طلب منصف وزملائه من قيادة المخابرات استكمال العمليات الفدائية، لكن الطلب قوبل بالرفض حرصا على حياتهم، موضحا أن مشاركة المدنيين الذين وقعوا في الأسر مرة أخرى في العمليات الفدائية أمر خطير وبحكم القانون الدولي يعتبرون مجرمين حرب وعقابهم الإعدام حال سقوطهم في يد العدو. 

 عقب انتهاء الحرب، كرم الرئيس أنور السادات الفدائيين فى السويس، وكان منصف من بينهم وحصل على نوط الامتياز من الطبقة الأولى تقديرا لما قدمه في خدمة القوات المسلحة في فترة الإعداد للحرب، كما تم تكريمه من مجلس القبائل العربية ومحافظة السويس.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة