أيمن موسى
أيمن موسى


أيمن موسى يكتب: «جنوب الدنيا» يرقص على سلالم «التشاؤل»

آخر ساعة

الثلاثاء، 09 يناير 2024 - 10:36 م

■ بقلم: أيمن موسى

ارتبطت مقدمة العام الجديد منذ أن كنا صغارا وجيلا بعد جيل بروح التفاؤل والبهجة والاحتفالات والأمل فى أن ما هو قادم سيكون أفضل مما سبق، إلا أن السنوات الأخيرة لم تجلب على البشرية سوى المزيد والمزيد من الآلام والمآسى حتى أصبح الجميع في كافة ربوع العالم دون أدنى استثناء يخشون من المجهول القادم، فقد صادفت البشرية فى السنوات الأخيرة الكوارث الواحدة تلو الأخرى سواء جائحة كورونا التى مازالت تهدد الجميع بمتحوراتها التى لا تنتهى ومازال يحوم الكثير من الشكوك حول أنها وليدة نشاط بشرى خبيث، وهناك السيول والزلازل فى مختلف مناطق العالم التى أودت بحياة الآلاف، ناهيك عن نشوب النزاعات المسلحة فى مختلف أنحاء العالم وفى الكثير من الأحيان دون سبب منطقى، ورغم أن ما يعرف بالحروب والنزاعات الإقليمية أو المحدودة فى السابق بأن تأثيرها يقتصر على نطاق جغرافى أو بشرى محدد إلا أن النزاع فى أوكرانيا مثلا أثر على العالم أجمع وأفرز ظواهر ومشاكل خارج نطاق السيطرة وتتناقض مع كافة الأسس المنطقية.

والشيء الغريب هنا هو أنه بينما تنتشر النزاعات المسلحة والمسببات المختلفة للكوارث الإنسانية نجد أن اللاعبين الرئيسيين على الساحة الدولية ولن أقول للنظام العالمى القائم يؤكدون أنهم يسعون للسلام والمحبة ونشر الوئام بين الشعوب المختلفة الأمر الذى أثار شكوك العالم قاطبة فى أن هذه الدول وهذا النظام هو السبب فى مشاكل البشرية، وهو ما يتطلب الخروج بشكل جديد للنظام العالمى أو قواعد تنظيم العلاقات الدولية خاصة بعد أن اتضح أن النظام العالمى، سواء ثنائى القطبية أو الأحادى القطبية، لم يكن سوى خديعة من الاستعمار القديم لفرض الشكل الجديد للاستعمار الذى يصر على استنزاف مقدرات الشعوب وثرواتها بما فى ذلك دماء وأرواح أبنائها.

وبما أن العديد من مراكز الدراسات في العالم قد تجاوبت مع هذه الآمال المتصاعدة من جانب شعوب العالم سواء من خلال اقتراح أشكال جديدة للنظام العالمى أو لمجرد طرح توقعاتها لشكل النظام القائم أو حتى العمل على توجيه أفكار العالم للخروج بنظام عالمى جديد قد لا يعدو أن يكون مجرد استنساخ للأنظمة الفاشلة السابقة، بما فى ذلك بالنسبة للأمم المتحدة التى كان يفترض أن تكون محور إدارة العلاقات الدولية ومنع النزاعات والحروب وتحقيق العدالة والمساواة بين الدول إلا أن مصالح الدول العظمى والكبرى جعلتها مجرد منظمة «مائعة» تدور فى فلك مصالح الدول الكبرى وغير قادرة على تنفذ أغلب قراراتها إن تمكنت فى الأساس من اتخاذ القرار السليم.

◄ سيناريوهات السيطرة
وكما أشرت من قبل فهناك عدة سيناريوهات مفترضة من جانب مراكز الدراسات الكبرى فى العالم فيما يخص الأشكال الممكنة للتحكم فى تطورات الأحداث على الساحة العالمية وبعضها يبدو نوعا من استنساخ ما كان أو ما هو قائم بشكل جديد، والبعض الآخر مجرد أشكال متناقضة ولكنها جميعا تشترك فى شيء واحد وهو الحفاظ على هيمنة الدول الكبرى على الساحة الدولية واستبعاد أى شكل قد يعطى ما يعرف بدول الجنوب العالمى أية ميزة تفضيلية أو متكافئة مع من يلقبون بالدول الكبرى.

وبغض النظر عن مسمى النظام الذى أعقب الحرب العالمية الثانية وما شهده من تطورات على فترات مرحلية مختلفة إلا أنه كان نظاما نشأ فى ظل ترنح البشرية فى أعقاب الحرب العالمية الضارية وتعطشها لنوع من الهدوء والسلام حتى وإن كان على حساب العدالة، حيث كانت هذه فرصة جديدة لكى تفرض الدول الكبرى رؤيتها فى النظام العالمى وإعادة تقسيم مناطق النفوذ فيه.
ورغم أن معظم دول العالم تطالب بتشكيل نظام عالمى يقوم على أساس العدالة والمساواة بين كافة أعضاء الأسرة الدولية وعدم جواز التدخل فى شئون الدول وغيرها من القيم العليا على غرار احترام القانون الدولى وقرارات الأسرة الدولية المتمثلة فى الأمم المتحدة، إلا أن القليلين فقط هم الذين يدركون أن هذه القيم لا يمكن تطبيقها على المستوى الدولى بين الدول ما لم تتحقق على المستوى المحلى داخل الدول، فبينما يشكو معظم دول العالم من ازدواجية المعايير نجدها تتبع ذات السياسة داخليا، وبينما يطالبون باحترام حقوق الإنسان والقانون نجدهم يضربون عرض الحائط بهذه القيم داخليا، وهو ما يعنى أن قيام أى نظام عالمى عادل وصالح ينبغى أن يبدأ بإصلاح الدول داخليا وعلى الأخص إتاحة الفرصة للمجتمع لتشكيل قواه السياسية المختلفة والمتساوية التى لها القدرة على النهوض بالوعى العام والتنافس على تحقيق مصالح الدولة التى يعتبر الشعب أهم أضلاعها ومصدر تشكيل بقية أضلاعها سواء كانت ثلاثية أو رباعية أو أيًا ما تكون، وإذا كانت الأصوات تنادى بالمساواة أمام القانون الدولى فالأحرى أن تكون هذه القاعدة هى أساس الحياة داخل الدول ذاتها.

◄ واقع طبيعي
عموما وبغض النظر عن أن إصلاح النظام العالمى يرتبط بصلة وثيقة بإصلاح النظم الداخلية فى كافة دول العالم، فإنه توجد عدة رؤى تحكم التصورات فى الوقت الراهن تجاه النظام الذى ينبغى قيامه لمعالجة القصور الحادث فى النظام الحالى التى أدت إلى انتشار النزاعات والفوضى والظلم بين أعضاء الأسرة الدولية إن جاز التعبير.

من أهم التصورات التى طرحتها مراكز الدراسات فى الآونة الأخيرة تصور طرحه ما يعرف «بنادى فالداى الروسى للنقاش السياسى الدولى»، حيث يقوم هذا التصور على أن ما هو قادم لا يعتبر تطورا او استنساخا لأى شيء مضى وإنما هو «وضع أو واقع طبيعى جديد» بعناصر وأسس وقيم جديدة، إلا أن هذا التصور ارتبط بالأساس بالمثال الروسى وتمحور حول حقيقة العلاقات بين روسيا والغرب وبين القوى الكبرى فى العالم وينطلق من أن الأحداث التى أعقبت التدخل الروسى فى أوكرانيا قد جعلت روسيا تواجه حقيقة كانت قائمة وواقعة وظلت روسيا لفترة طويلة ترفض الاعتراف بها وهى أن الغرب وحتى بعد تفكك الاتحاد السوفيتى وانتهاء الحرب الباردة لم يتقبل روسيا كعضو أساسى فى الأسرة الأوروبية وظل يضع الحدود والعقبات أمام تطور علاقاته مع الدولة الروسية الجديدة، وبالتالى فقد حان الوقت لكى تدرك روسيا أن خيارها الاستراتيجى وليس التكتيكى هو الاتجاه نحو الشرق وإعادة بناء منظومة علاقاتها وتعاونها مع مختلف مناطق العالم. 

◄ سيناريو الفوضى
ربما يتفق هذا النموذج أو الرؤية مع ظروف دول الجنوب العالمى التى عليها أن تخلق واقعها الطبيعى الجديد وتعيد بناء علاقاتها ومنظومة مصالحها مع بعضها البعض ومع الدول الكبرى، وتدرك أنها لن تتمكن من مجابهة الدول الكبرى أو بالأحرى الدول الاستعمارية سواء القديمة أو الجديدة إلا عن طريق توحيد الصفوف والخروج بخطاب مشترك، وذلك لن يتحقق إلا عن طريق تعزيز الوعى الوطنى فى المقام الأول وإدراك أن قوة الدولة تكمن فى تماسكها الداخلى وليس فى قوة نخبة مسيطرة تعيش على التنازل عن إمكانيات وقدرات الدولة لصالح قوى خارجية أخرى مقابل فتات، وسرعان ما ستضحى بها هذه القوى الخارجية فى حال تعارض المصالح أو ظهور نخبة جديدة قادرة على تحقيق مكاسب أخرى للقوى الخارجية والخاسر فى النهاية هم الشعوب والدول النامية.

يقوم هذا السيناريو على أساس أن شيئا فى العالم لن يتغير فى العام الجديد، بل قد تزداد الأمور سوءا على اعتبار أن العديد من الدول الكبرى تشرف على مواسم انتخابية جديدة بما فى ذلك فى روسيا وأوكرانيا والولايات المتحدة، ومع الوضع فى الاعتبار أن تجارب الانتخابات الأخيرة فى أوروبا قد أفرزت أنظمة يمينية متشددة وبالتالى لا توجد توقعات بطروء تغييرات كبيرة على الأنظمة الحاكمة القائمة بالفعل مثلما هى الحال فى روسيا، وحتى فى حال طروء تغيير فقد نواجه بوصول قوى للحكم لا تقل ضراوة أو حتى ارتعاشا عن القوى السابقة والنتيجة واحدة فى الحالتين، لذلك يعتقد أنصار هذا السيناريو أن العالم فى العام الجديد لن يشهد انفراجا فى الأوضاع المتأزمة بل قد تظهر أزمات جديدة أكثر خطورة مما سبق سواء على الصعيد الاقتصادى والمالى أو على صعيد استمرار النزاعات القائمة مثل النزاع فى أوكرانيا أو غزة، وربما يتسع نطاق هذين النزاعين وقد تظهر بؤر صراع جديدة فى مختلف أنحاء العالم بسبب السياسات العدوانية والمتطرفة لبعض الدول إلى جانب محاولة دول كبرى الحفاظ على هيمنتها على دول العالم الثالث أو على الأقل الانتقام من أنظمتها الحاكمة التى تعمل على الفكاك من هذه الهيمنة عن طريق تقليب القوى الداخلية ضد بعضها البعض وتمويل مصادر الصراع سواء بين الدول بعضها البعض أو على صعيد إثارة الأحقاد بين القوى الداخلية فى الدول المختلفة.

ربما أن هذا السيناريو لا يختلف كثيرا عن السيناريو السابق ويقوم على أساس أن الولايات المتحدة بالتعاون مع حلفائها سوف يصارعون باستماتة لبقاء النظام العالمى على ما هو عليه بل والتأكد من استمراره دون تهديد فى المستقبل عن طريق إجهاض كل محاولات التغيير فى العالم، وهذا السيناريو يتطلب إما إلحاق هزيمة بروسيا فى النزاع فى أوكرانيا وهو أمر بعيد عن التوقعات والحسابات العملية، أو على الأقل إنهاكها بشكل كبير بحيث يجعلها تتراجع عن خططها فى قيادة التغييرات المطروحة على النظام العالمى، كما يتطلب هذا السيناريو إقناع الصين بعدم جدوى تعزيز التعاون مع روسيا والانتصار لمواصلة التعاون مع الغرب على أساس شروط وقواعد الغرب، وهو أمر أيضا بعيد عن التوقعات والحسابات العملية، وبالتالى لا يتبقى لأنصار هذا السيناريو سوى نشر الفوضى والنزاعات فى العالم بما يدفع العالم لتقبل الحد الأدنى من الأمن الذى يطرحه النظام أحادى القطبية، وهذا الطرح أيضا يبدو بعيد عن الطابع العملى، لأنه سيزيد من قناعة الجنوب العالمى بأن الولايات المتحدة والغرب يمثلان مصدر التوتر والقلق والعقبة الرئيسية أمام عجلة التنمية الحقيقية فى عالم الجنوب.

◄ متعدد الأقطاب
يكثر الحديث عن هذا النمط فى الأنظمة العالمية الذى يقوم على أساس التوازن بين القوى الرئيسية والكبرى فى العالم، حيث يكثر الحديث عنه من جانب روسيا والصين ودول العالم الثالث التى اعتادت على التبعية للدول الكبرى أو الاحتماء بها، وهذا النموذج ترفضه الولايات المتحدة ودول الغرب فى الوقت الراهن نظرا لأنه يتعارض مع هيمنتها المطلقة على العالم وعلى مقدرات الدول النامية وخاصة فى أفريقيا، ولكن هذا السيناريو يتطلب التوفيق بين القوى العظمى والكبرى فى العالم وهو ما يعنى تقديم تنازلات متبادلة وتوافق للمصالح فيما بينها، إلا أن تجارب السنوات الأخيرة تقود إلى أن هذه الدول قد فقدت الثقة فيما بينها وسوف تظل لفترة طويلة تتوجس من بعضها البعض، وحتى بافتراض نجاحها فى التوفيق بين مصالحها فلن يكون ذلك لصالح دول الجنوب العالمى بل سيكون على حسابها وفى إطار حقبة جديدة من تقاسم النفوذ والمناطق والمصالح ليواصل العالم العيش فى ظل ذات القواعد التى ظلت تتحكم فى مصائره ومستقبل شعوبه المختلفة.

◄ سيناريو اليقظة
بعد أن تيقنت دول الجنوب العالمى من أن كافة الأنظمة السابقة والحالية للعلاقات الدولية لا تحقق لها مصالحها بل ولا تراعيها وتحترمها كان لزاما عليها أن تسعى لقيام نمط جديد فى الترتيبات الدولية، وأقول هنا أن تسعى وليس أن تطالب، فالوضع أشبه ما يكون بالثورات الملونة والربيعية التى ساهم فى إشعالها الغرب ليس لإصلاح الأوضاع فى الدول التى قامت بها ولكن لنشر الفوضى بها، وعندما وقعت الثورات كانت هناك شعارات إصلاحية على غرار «الشعب يريد»، وعندما تكون هناك رغبة دون إرادة وسعى فهذا يعنى التنازل لقوى أخرى لتحقيق هذه الرغبات وبالتالى التنازل لهذه القوى عن الإرادة فى رسم الطريق، وذات الأمر ينطبق على الدول التى عندما تطالب بنظام أو نمط جديد فى الشئون الدولية فهى بذلك تتنازل لقوى أخرى عن حقها فى رسم الطريق إلى هذا النظام أو حتى وضع التصورات الخاصة به.

ربما يكون الوقت الراهن هو الفرصة الذهبية الوحيدة أمام الجنوب العالمى للمشاركة النشطة فى رسم الطريق نحو المستقبل، فالدول الكبرى منشغلة فى الوقت الراهن فى الصراعات فيما بينها، كما أنها تعانى من عجز شديد فى النخب القادرة على وضع التصورات بل وفرضها على بقية أعضاء الأسرة الدولية، لذلك ينبغى على الدول النامية أو التى تطور مسماها الآن ليصبح الجنوب العالمى أن تجتمع فيما بينها للخروج بتصور جديد لشكل النظام العالمى الذى يحقق لها المصالح والأمن، ولكن قبل ذلك عليهم أن يتغلبوا على الخلافات فيما بينهم ويترفعوا عن المصالح الشخصية، وعليهم أن ينطلقوا فى تحركاتهم من ضرورة مركزة دور الأمم المتحدة وإضفاء المزيد من الفعالية والشفافية على عمل المنظمة الدولية.

قد ترى المراكز الدولية المختلفة أن القادم أسوأ من السابق، وقد تنظر إلى آفاق العام الجديد بعين التشاؤم، ولكن على دول الجنوب العالمى أن تدرك أن أقدارها بيدها وأنه يمكنها تغيير المشهد عن طريق التحلى بالإدراك والإرادة القوية التى تقود دوله إلى إدراك مصالحها الحقيقية، وأن مستقبلها يرتبط بتعزيز بل وتعظيم التعاون فيما بينها وأنهم مجتمعون معا لا يحتاجون الغرب فى شيء ويمكنهم تخطى كافة المشاكل والعقبات عن طريق توحيد الجهود والإمكانيات، وبالتالى التغلب على النظرة التشاؤمية التى يرغب الآخرون فى فرضها وبثها فى نفوس الدول النامية والفقيرة للاستسلام للوضع القائم والتمسك بنظرة تفاؤلية نحو مستقبل أفضل تفرضه بنفسها ولصالح شعوبها.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة