قرد يرسم ضمن تجربة ديزموند موريس
قرد يرسم ضمن تجربة ديزموند موريس


رسام ومصمم وعازف إيقاع| إبداعات من عالم الحيوان

آخر ساعة

السبت، 13 يناير 2024 - 12:45 ص

■ كتب: رشيد غمري

الطبيعة حافلة بالجمال الذي يحرك مشاعر البشر، ويلهم الفنانين. لكن هل ينفرد الإنسان بتذوق الجمال، وإبداع الفنون؟ سؤال قديم جرت محاولات للإجابة عليه بمراقبة البرية، وعروضها الفنية من رقص وموسيقى وغناء تشارك فيها الحيوانات والطيور وحتى الحشرات، إلى جانب مهارات معمارية مدهشة لبعض الكائنات.

وهى غالبا ظواهر فطرية، تخلو من الإبداع الفردي كمعيار للفن لدى البشر. ومع ذلك فبعض الكائنات أظهرت ملكات إبداعية، يتمايز بها أفراد النوع الواحد بقصد إنتاج الجمال، وفق تفضيلات وأذواق خاصة. وهو ما خضع للدراسة خلال العقود الماضية، ومازال مصدرا للحيرة.

◄ شامبانزي يرسم وطائر يصمم الديكور

◄ طيور تزخرف وحيوانات ترسم اللوحات

◄ العلماء حائرون حول ظواهر فنية لدى الكائنات

تتعدد الأدلة على تذوق الكائنات الحية للجمال، واتخاذه معيارا لتفضيل أزواجها المحتملين. وهو ما خضع للتجارب العلمية، ومنها ما قامت به الباحثة «نانسى بيرللى» عام 1982 فى جامعة كاليفورنيا، راصدة تفضيلات ذكور وأناث طائر «الحمار الوحشى» والتلاعب بتلك التفضيلات من خلال إضافة شرائط ملونة استجابت لها الطيور. كما أنه فى الطبيعة على سبيل المثال يمارس الطاووس الذكر استعراضاته لجذب الأنثى القادرة على تمييز الأجمل.

مما يؤكد أن جذور تذوق الجمال كامنة فى بنية الحياة قبل البشرية. لكن هل يمكن لبعض الكائنات أن تمارس الإبداع بوصفه شحنة عاطفية أو رسالة تعبر عن شيء فى مكنونها، وتقدمه فى إطار جمالي؟  

■ من أعمال شامبانزي الكونغو الفنان

◄ الشامبانزي الرسام
السائد بين العلماء أن الفن نشاط إنسانى حصرا، وأن ما يقال عن فنون الطبيعة والحيوانات، هو من قبيل المجازات الشعرية. لكن أحد العلماء تحدى هذه الفرضية، وقدم تجربة مناقضة، وفى عام 2005 باعت صالة مزادات «بونهامز» فى لندن ثلاث لوحات بمبلغ 14000 جنيه إسترلينى. أما الرسام فهو «شامبانزى الكونغو».

وكان قد رسمها فى الخمسينيات ضمن تجربة أجراها عالم الأنثروبولوجي «ديزموند موريس» داخل حديقة حيوان لندن. ومنح خلالها الفرصة لأحد أفراد الشامبانزى الأكثر ذكاء ليقوم بالرسم موفرا له الأدوات.

وقام الشامبانزى برسم قرابة خمسمائة لوحة، عُرضت فى برنامج تليفزيونى، وأثارت ضجة. كما استعان بآراء فنانين كبار مثل «بيكاسو» و«خوان ميرو». وأكدوا أنها تنطوى على قيمة جمالية باعتبارها لوحات تجريدية. وصنفها بعض النقاد بأنها انطباعية تجريدية غنائية.

ما يعنى أنها تندرج تحت أسلوب ورؤية محددة. وخلص من خلال الدراسة إلى قدرة الشامبانزى على الرسم، والتعبير بالألوان عن حالة يشعر بها. واختبر قصديته، فاكتشف أن الشامبانزى الفنان لا يسمح بسحب اللوحة منه قبل إتمامها، كما أنه لا يضيف لها شيئا إذا ما أعيدت إليه بعد إتمامها. ومع ذلك أشار «موريس» إلى استثنائية هذا القرد من الشامبانزى، وموهبته الخاصة، بما يماثل حال البشر، فهم ليسوا متساوين فى الموهبة. ورغم منهجه العلمى وأدلته، فقد اصطدمت فرضيته بحقيقة أنه خارج التجربة، لم يعثر على أى دليل يشير إلى ملكات فنية لدى أى شامبانزى. 

 

◄ مصمم ديكور
بعيدا عن تدخلات البشر وتجاربهم، هناك مثال محير من الطبيعة، يمارس خلاله ذكر طائر «التعريشة» الفن بطريقة مذهلة، حيث يقوم بالإبداع فى بناء عشه، وتزيينه، باستخدام كل ما يتاح له، بهدف جذب الأنثى.

وهو يقوم بذلك بحس جمالى فردى للغاية، بمعنى أنه يعتمد على ذوقه الخاص، ويطلق لنفسه العنان لجلب مواد غير متوقعة، ويرتبها بطريقة جمالية خاصة وفريدة. وهو ما يؤكده العالم «جيسون جى جولدمان» واصفا الطائر بأنه يبدع فى بناء أعشاشه، وأحيانا ينشئها على شكل أبراج طويلة ذات هياكل من العصى ترتكز على حصيرة مستديرة من الطحالب الميتة، ويزينها بأجنحة الفراشات المقطوعة وبالزهور والقواقع أحيانا، وأى شيء يعثر عليه حتى من مصنوعات البشر، مفضلا ألوانا بعينها، وواضعا الزخارف بعناية وفق ترتيب محدد. وإذا ما غير أحد أماكنها فإن الطائر يعيدها إلى حيث وضعها.

كما وصف «جاريد داياموند» عالم وظائف الأعضاء بجامعة كاليفورنيا الأمر بأن الطائر المذكور لا يقوم بتزييناته بارتجالية أو بشكل فطرى تماما، ولكنه يخضع الأمر للتجارب. كما أن الطيور الأصغر سنا تتعلم الأمر من خلال التجربة والخطأ ومن مراقبة الطيور الأكثر خبرة. وخلصت دراسة قام بها إلى أن عملية بناء هذا الطائر لعشة هى عملية إبداعية تنتقل ثقافيا، ويكونها كل طائر بتفضيلاته الفردية التى على أساسها يتخذ القرارات وفق نية وعناية. وهو يصف ذكر هذا الطائر بأنه «فنان حيوانى» يهتم بإنتاج أعمال فريدة يجدها البشر والطيور ممتعة جماليا.

■ وحيد القرن يستمع إلى موسيقى مؤلفة خصيصا له

◄ موسيقى الحيوانات
مما قد يندهش له البعض وجود علم يسمى «زوو ميوزيكولوجى» يهتم بدراسة موسيقى الحيوانات، ويتضمن الموسيقى التى تصدرها، التى تتأثر بها. ويسمى العلم اختصارا «زووم». ويضم عددا من التخصصات، منها الموسيقى، والسيميائية (أى دلالات الأصوات بوصفها علامات)، والفلسفة، وعلم الأحياء. وضمن هذا العلم أجرى الباحث «هوليس تايلور» دراسة موسعة حول موسيقى طائر «الجزار» طوال خمسة عشر عاما. كما قام الفيلسوف والموسيقى «ديفيد روتنبرج» بتجارب للعزف مع الحيوانات، وألف عدة كتب حول ما أسماه أغنيات الكائنات من طيور وحشرات وحيتان، وعلاقتها بالموسيقى البشرية. وقدمت «سوزان بلانجر» تجربة فى مجال علم موسيقى التكبير (أى تضخيم الأصوات المنخفضة) لما أسمته أنشودة بدء التزاوج لحشرة «عثة حفار الذرة» الآسيوية.

■ تجربة موسيقى الأنواع على الحيوانات المفترسة

وقامت الباحثة «باتريشيا جراى بفحص وتصنيف موسيقى الحيتان والطيور المغردة. وضمن تلك الدراسات قدم «سنودن ويتى» دراسة عن الموسيقى الخاصة بالأنواع، التى تفيد بأنه يمكن إنتاج موسيقى خاصة لكل نوع من الحيوانات. وقدم خلالها موسيقى موجهة للقرود، اختبرها على قرد «الطمارين القطنى» فى جامعة «ويكنسن»، وخلصت الدراسة إلى أن الموسيقى الخاصة بالأنواع تحظى باستجابة الأنواع الحيوانية الموجهة لها. وفى دراسة لجامعة «وسكونسن ماديسن» عام 2015 وجد أن القطط تتجاهل الموسيقى البشرية، لكنها تستجيب للموسيقى المكتوبة خصيصا لها. ووصف مؤلفها «تشارلز سنودن» هذه الموسيقى بأنها لا تحاكى أصوات القطط، ولكنها تقدم نغمات وإيقاعات تروق لها وتتصل بأنشطتها. إحدى الأغنيتين تقوم على إيقاع «الخرخرة»، وهو صوت تألم القطط، والآخر يرتبط بصوت رضاعتها. 

 

■ عش من إبداع ذكر طائر التعريشة يتضمن بتلات زهور وثماراً للتزيين

◄ رسائل
توضح الدراسات على الطيور المغردة أن لديها أصواتا محددة لتوصيل الرسائل لأقرانها مثل وجود خطر ما. لكنها عندما تغرد تقوم بتكرار مقاطع أخرى فيما يشبه الغناء مع وجود بداية ووسط ونهاية. وتستخدمها أحيانا لجذب شريك للتزاوج. ويتعلم الصغار تلك الأغنيات من الكبار. ولذلك وجد اختلافا بين الطيور التى تم تربيتها معزولة منذ صغرها فى استجابتها لتلك الأغنيات عند إعادتها إلى الطبيعة. كما تبين أن بعض أنواع الطيور لديها القدرة على محاكاة موسيقى البشر مثل طيور «الزرزور» و»القيثارة» و»القيق الأزرق».

كما تحاكى أصوات الأنواع الأخرى. وفى دراسة لجامعة هارفارد عام 2009 أجريت التجارب على 14 من الببغاوات من نوعيات مختلفة، وتبين أنها بالإضافة لقدرتها على تقليد الأصوات، فهى تحفظ الإيقاع وتحافظ عليه. 

وقد جذب ما يطلق عليه موسيقى الحيوانات عددا من الفنانين لإدخال أصواتهم فى موسيقاهم، مثل تجربة الموسيقى الشهير «بينك فلويد» الذى أدخل عواء الذئاب فى أغنيته «سيموس» عام 1971. وحتى الموسيقى الكلاسيكية خلال القرنين الثامن والتاسع عشر، تضمنت أحيانا الاستعانة بأصوات حيوانات، وأشهرها ما فعله «فيفالدى» فى «الفصول الأربعة»، و»جان فيليب رامو» فى مقطوعة «الدجاجة»، و»كاميل سان ساين» فى «كرنفال الحيوانات» وغيرها الكثير. وقام الموسيقى «ديفيد سولزر» قبل سنوات بصنع آلات إيقاعية ضخمة ليعزف عليها ثلاثة من الفيلة، وأطلق عليها أوركسترا الفيلة الثلاثية. 

■ ذكر طائر التعريشة يزين عشه لجذب أنثاه

◄ سخرية ومبالغات
من المضحك أنه فى المزاد الذى بيعت فيه لوحات الشامبانزى المعجزة، لم تنجح القاعة فى بيع لوحة لآندى وارهول ولا تمثال لرينوار. وقارن البعض بين أعمال الشامبانزى ولوحات «جاكسون بولوك» المعتمدة على سكب الألوان. ورأوا أن المقارنة تقتضى إما الاحترام البالغ للشامبانزى أو ازدراء أعمال «بولوك». وبعد تجربة «موريس» أجرى البعض تجارب مماثلة. وفى دراسة عام 2011 عرضت بعض تلك الأعمال على عدد من المشاركين، واستطاع أغلبهم التفرقة بينها وبين أعمال شبيهة رسمها البشر، وانحازوا للأخيرة، دون معرفة أيهم من رسمها. كما عمدت بعض حدائق الحيوان إلى توفير أدوات الرسم لبعض القرود والأفيال، لتحسين مزاجها وسلوكها القهرى. وتمت التجربة مع أربعة أفيال آسيوية فى حديقة حيوان «ملبورن»، ولم تعط أية نتائج، ومع ذلك وجدت اللوحات من يشتريها. 

وعلى العموم تعرف الطبيعة نوعين من أداء الحيوانات الموجه للآخر، يتمثل فى التودد أو الهيمنة. وتستخدم لذلك أداءات صوتية وحركية، وبصرية، وروائحية، لتوجيه الرسائل، والتعبير عن رغبتها فى الحب والصداقة أو التحذير بالابتعاد والتخويف، وبعضها يتخذ شكلا استعراضيا تعبيريا. ويعتبر بعض العلماء هذه السلوكيات هى الجذور التطورية للفن الذى ظهر عند الإنسان لاحقا، كوسيلة إبداعية للتعبير والتواصل. وتبقى الطبيعة فى كليتها فنا لا يضاهى، ومصدرا متجددا لكل إلهامات المبدعين من البشر، ومجالا باذخا لكل القادرين على تذوق الجمال.


الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة