صورة موضوعية
صورة موضوعية


تنظيم الأسرة ومتغيرات العصر.. كتاب تتبناه ٣ وزرات وتحوله لبرنامج عمل وخريطة طريق

اللواء الإسلامي

الخميس، 18 يناير 2024 - 02:19 م

تنظيم الأسرة من القضايا التى ما زال الجدل حولها قائما ربما بسبب الخلط بين التنظيم والمنع  وربما بسبب اختلاف الرؤى تجاه النصوص المتعلقة المكاثرة التى دعانا إليها الرسول صلوات الله وسلامه عليه وكذلك النصوص المتعلقة بالرزق أو  القدرة على الزواج مثل قوله صلى الله عليه وسلم من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء « فهل الباءة هى القدرة الجسدية فقط أم أنها القدرة فى كافة جوانبها اقتصادية وجسدية وغير ذلك؟،

كذلك اختلاف النظر فيما دعانا الرسول إليه من التكاثر حتى يباهى بنا الأمم فهل العبرة بالكثرة أى كثرة حتى ولو كانت عالة على غيرها،أم أنها الكثرة القادرة التى لاتحتاج الى الآخرين بل يحتاج إليها الآخرون أى أنها اليد العليا التى حض الرسول صلى الله عليه وسلم عليها وبالتالى فالقضية قضية كيف وليست كماً ؟ . وهل الانجاب مسئولية الزوج والزوجة دون نظر إلى ظروف المجتمع الذى يعيشان به أم أنه يتم فى إطار روية لكل جوانب الحياة التى تتأثر الأسرة بها وتؤثر الأسرة كذلك فيها؟

فى إطار منهجها تصحيح المفاهيم وتفكيك الفكر المغلوط وفرز الأوراق التى خلطها البعض قاصدين أو دون قصد أصدرت وزارة الأوقاف كتاب «تنظيم النسل ومتغيرات العصر» للدكتور عبد الله مبروك النجار عضو مجمع البحوث وعميد كلية الدراسات العليا الأسبق بجامعة الأزهر.

ضوابط مهمة

فى تقديمه للكتاب يحرص الدكتور محمد مختار جمعة وزير الأوقاف   على توضيح عدة قضايا أساسية فى تناول هذه الموضوع الذى يحيط به من اللبس الكثير  منها : أن قضية تنظيم النسل والمشكلات السكانية هى من المتغيرات التى يختلف الحكم فيها من زمان إلى زمان، ومن مكان إلى مكان، ومن دولة إلى أخرى، بحيث لا يستطيع أى عالم أن يعطى فيها حكمًا قاطعًا أو عامًّا.

اقرأ أيضاً| سنوات من المحبة لله والوطن.. 10 رسائل مصرية للعالم من كنيسة ميلاد المسيح

ففى الوقت الذى تحتاج فيه بعض الدول إلى أيدٍ عاملة ولديها من فرص العمل ومن المقومات والإمكانات ما يتطلب زيادة الأيدى العاملة لديها يكون الإنجاب مطلبًا، وتكون الكثرة سبيلًا من سبل تقدم هذا البلد، أما الدول التى لا تمكنها ظروفها من توفير المقومات المطلوبة من الصحة، والتعليم، والبنية التحتية، وفرص العمل اللازمة، فى حالة الكثرة غير المنضبطة، تصبح الكثرة هنا كغثاء السيل، وإن أى عاقل ليدرك أنه إذا تعارض الكيف والكم كانت العبرة والمباهاة الحقيقية بالكيف لا بالكم.

إن المتأمل فى الشريعة الإسلامية يجد أنها أولت إعداد الإنسان عناية خاصة، بداية من تكوين الأسرة، مرورًا بمراحل الحمل، والولادة، والرضاعة، فكفلت له حقه فى الرضاعة الطبيعية حولين كاملين، حتى ينمو فى صحة جيدة، حيث يقول تعالى: « وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ  لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ «، وقد عدَّ الفقهاء إيقاع الحمل مع الإرضاع جورًا على حق الرضيع والجنين، وسمّوا  لبن الأم التى تجمع بين الحمل والإرضاع لبن الغيلة، وكأن كلًّا من الطفلين قد اقتطع جزءًا من حق أخيه، مما قد يعرض أحدهما، أو يعرضهما معًا للضعف.

إن قضية تنظيم النسل لون من ألوان وفاء الوالدين بحقوق أبنائهم، فكل رب أسرة مسئول عن أبنائه فى التربية القويمة، والتعليم الصحيح، والتنشئة السوية ؛ ليكون عضوًا نافعًا لدينه ووطنه، يقول سيدنا عمر بن الخطاب (رضى الله عنه) : أَدِّبِ ابْنَكَ، فَإِنَّكَ مَسْئُولٌ عَنْ وَلَدِكَ، مَا عَلَّمْتَهُ؟.

ولا شك أن الأمم التى تحسن تعليم أبنائها، وإعدادهم وتأهيلهم أمم تتقدم وترتقى، فالعبرة ليست بالكثرة العددية، وإنما بالصلاح والنفع، فإن القلة التى يرجى خيرها وبركتها خير من الكثرة التى لا خير فيها، وهذا ما أكده القرآن الكريم فى قوله تعالى :» كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله وَالله مَعَ الصَّابِرِينَ».

>> ان الأنبياء (عليهم السلام) عندما طلبوا الولد إنما طلبوا الولد الصالح لا مطلق الولد، فهذا نبى الله إبراهيم (عليه السلام) يقول: «رَبِّ هَبْ لِى مِنَ الصَّالِحِينَ»، وهذا سيدنا زكريا (عليه السلام) يقول: «رَبِّ هَبْ لِى مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ»، ويقول أيضًا: «فَهَبْ لِى مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا»، وأهل العلم لهم هنا وقفة، يقولون: إن سيدنا زكريا (عليه السلام) لم يطلب الولد لأجل مصلحة دنيوية بل طلبه لأجل الدِّين، فقال كما حكى عنه القرآن الكريم: «يَرِثُنِى وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا»، أى :  يرث العلم والحكمة والنبوة والدعوة إلى الله تعالى، ولم يقل عند طلبه (أولياء) بالجمع، وإنما طلب وليًّا، فليست العبرة  بالكثرة وإنما بالصلاح، يقول أحد الحكماء : والصلاح هنا مطلق شامل لكل ما فيه صلاح أمر الدنيا والآخرة، وليس الصلاح المطلوب فى الولد صلاحًا قاصرًا على جانب دون جانب، إنما مطلق الصلاح الشامل الذى يعبر عنه حديث النبى (صلى الله عليه وسلم) : « الْمُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلى الله مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعِيفِ « والقوة هنا عامة، تعنى المؤمن القوى بدنيًّا وصحيًّا وعلميًّا وثقافيًّا واقتصاديًّا، فلن يحترم الناس ديننا ما لم نتفوق فى أمر دنيانا، فإن تفوقنا فى أمور دنيانا احترم الناس ديننا ودنيانا.

جاء الكتاب فى فصلين هما: تنظيم النسل وأدلة مشروعيته ثم التأصيل الفقهى بمشروعية  تنظيم  النسل» تناول الفصل الأول موضوعات : تنظيم النسل بين التقرير النظرى والتطبيق العملى ثم آراء الفقهاء فى حكم العزل وما يقوم مقامه فاستعرض أدلة الجمهور فى إباحة العزل وأدلة القائلين بعدم جواز العزل واعتراضات المجيزين للعزل على هذه الأدلة.

وفى الفصل الثانى تناول محل الاتفاق فى مسألة حق الوالدين فى  الولد ثم حق الله.

التنظيم قديم

تحت عنوان تنظيم النسل فى ضوء التطبيق العملى يعرّف المؤلف مصطلح العزل والذى كان موجودا فى عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان محل أسئلة من الصحابة للرسول صلى الله عليه وسلم والعزل هو آلية من آليات منع عملية التخصيب للبويضة الأنثوية بمنع وصول الحيوان المنوى إليها أى أنها فى عصرنا أدوات منع الحمل ثم يستعرض أدلة الجمهور على إباحة العزل أى الامتناع عن الإنجاب فترة ما أو حسب ما يقرر الرجل والمرأة.

 فيذكر ما روى عن جابر (رضى الله عنه)، قال :» كُنَّا نَعْزِلُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) وَالْقُرْآنُ يَنْزِلُ»، وفى صحيح  مسلم : « كُنَّا نَعْزِلُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ الله (صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فَبَلَغَهُ ذَلِكَ فَلَمْ يَنْهَنَا».

    

إذن فإن الصحابة استخدموا وسائل منع الحمل عمليا فى وقت تنزل القرآن الكريم ووجود الرسول (صلى الله عليه وسلم) وعلمه بما فعلوا، ومع ذلك لم ينههم عن فعله، ولو كان محرَّمًا لنهاهم عنه، ولنزل فيه وحى يبين حكم التحريم فيه،، وهذا يمثل سنة تقريرية منه (صلى الله عليه وسلم) تفيد الإباحة وتدل على عدم التحريم.

لذا قال الشوكاني: الظاهر أن النبى (صلى الله عليه وسلم) اطَّلع عليه وأقره ؛ لتوفر دوامهم على سؤالهم إياه عن الأحكام.

كما  روى عن جابر (رضى الله عنه) : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم)، فَقَالَ : إِنَّ لِى جَارِيَةً هِيَ خَادِمَتُنَا، وَسَانِيَتُنَا أَطُوفُ عَلَيْهَا، وَأَنَا أَكْرَهُ أَنْ تَحْمِلَ؟ قَالَ (صلى الله عليه وسلم) : « اعْزِلْ عَنْهَا إِنْ شِئْتَ، فَإنَّهَا سَيَأْتِيهَا مَا قُدِّرَ لَهَا».

يعلق الدكتور النجار على الحديث بقوله:إن النبى (صلى الله عليه وسلم)  أذن فى العزل لمن سأل عنه، فقال : اعزل عنها إن شئت، والإذن دليل إباحة الفعل وهو العزل

ثم يذكر دليلا ثالثا وهو ما روى عن أبى سعيد (رضى الله عنه) قال : خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ الله (صلى الله عليه وسلم) فِى غَزْوَةِ بَنِى الْمُصْطَلِقِ - فَأَصَبْنَا سَبْيًا مِنْ الْعَرَبِ، فَاشْتَهَيْنَا النِّسَاءَ وَاشْتَدَّتْ عَلَيْنَا الْعُزْبَةُ وَأَحْبَبْنَا الْعَزْلَ، فَسَأَلْنَا عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ الله (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ : «مَا عَلَيْكُمْ أَلا تَفْعَلُوا فَإِنَّ الله (عَزَّ وَجَلَّ) قَدْ كَتَبَ مَا هُوَ خَالِقٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ «.وهذا الحديث دار جدل حوله يناقشه الدكتور عبد الله النجار حيث رأى البعض أن الحديث يفيد النهى عن العزل فينتهى الدكتور النجار  إلى أن الحديث لو يفيد تحريم العزل ما جاء بهذا النص الذى يحتاج إلى تقدير كلام محذوف  لأن التحريم لا يفترض بنص مقدر، وعليه يسلم الفهم الصحيح للعبارة وهو الذى يفيد أنه لا حرج عليهم فى فعل هذا العزل ومن ثم يكون حكمه الإباحة، وهو ما دلت عليه الأحاديث السابقة.

ثم ينقل ما أجمع عليه العلماء مما حكاه ابن عبد البر وغيره، ونقله ابن حجر العسقلانى والشوكانى وغيرهما، قال ابن عبد البر: لا خلاف بين العلماء أنه يجوز أن يعزل عن الحرة بإذنها ؛ لأن الجماع من حقها ولها المطالبة به، وليس الجماع المعروف إلا ما لا يلحقه العزل، قاله الحافظ : ووافقه فى نقل هذا الإجماع ابن هبيرة.

فلسفة تنظيم الانجاب

فى الخاتمة يلخص المؤلف ما انتهى إليه من أن مقصد الشارع من تنظيم النسل أمران:

أولهما : الوفاء بالحقوق المقررة للأبناء فى ذمة الآباء.

ثانيهما: منع الظلم الذى يلحق بالأفراد فى نطاق الانتفاع بالمباحات العامة.

أما الوفاء بالحقوق المقررة للأبناء فضمانًا لحسن تربيتهم حيث يقوم الآباء بحقوقهم تجاه أبنائهم،خاصة فى مرحلة الطفولة ومن سمات تلك الحقوق أنها ذات طابع تداولى يجب فى ذمة الآباء للأبناء، فإذا ما وصل الأبناء إلى مرحلة الأبوة وأصبح لهم أبناء تحولت تلك الحقوق إلى واجبات فى ذمتهم لأبنائهم، ومن ثم تتقرر تلك الحقوق فى ذمة الأجيال لبعضها على سبيل التداول المرتبط بتغير أوصاف الملتزمين بها من البنوة إلى الأبوة. لذا أرشد الشرع الراغبين فى الزواج (ومنذ البداية، وعند التفكير فيه) أن يكون لديهم من القدرة الاقتصادية ما يكفى لقيام الأسرة، وأن العجز الاقتصادى مانع من قيامها، يقول النبى (صلى الله عليه وسلم) : «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ».

والباءة: هى القدرة بمعناها العام الذى يشمل النفس والمال، وكل ما يمنع الظلم الناشئ عن عقد النكاح وآثاره

فى مجال رعاية الأبناء أوجب الشارع على الآباء أو من يقومون مقامهم أن يكفلوا لهم حياة اقتصادية تؤدى إلى عدم ضياعهم، وفى هذا يقول النبى (صلى الله عليه وسلم) : «كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَعُولُ»، وفى رواية: « مَنْ يَقُوتُ»،

أما منع الظلم الذى يلحق بالأفراد فى نطاق الانتفاع بالمباحات العامة:

من المؤكد أن الإخلال بالتوازن بين الفرد والمجتمع يؤدى إلى اضطراب فى العلاقة بين حقوق الفرد وحقوق المجتمع، بسبب تركيز الفرد على ما يأخذه لمجابهة أغراضه وتطلعاته دون اكتراث بحقوق الآخرين، وهذا يؤدى إلى الإخلال بمبدأ المساواة بين أفراد المجتمع فى الحقوق والواجبات، واستئثار بعضهم بقدر من الانتفاع الوارد على المرافق العامة يفوق ما يأخذه الآخرون فى الوقت الذى لا تتسع فيه للكافة أو الزيادة المطردة، وهذا ظلم وفساد طفحت آثاره، وأدى بنا إلى التصارع على أبسط مقومات الحياة وضروراتها، والتنافس على فرصة للحياة الكريمة دون الحصول عليها إلا بشق الأنفس ؛ حتى أصبح فساد هذا المسلك واضحًا يحتاج إلى علاج حاسم، وقد عالج الفقهاء مسألة التنافس على المباحات عند التزاحم عليها بما قرروه فى عدد من الفروع الفقهية، منها : حق ( الشَّفة ) أو الشرب، أى حق الكائن الحى فى أن يأخذ كفايته وما تقوم به حياته من المياه اللازمة لشربه من مواردها العامة كالبحار والأنهار والجداول وأمثالها، فإن هذا الحق من المباحات العامة لكل من يحتاج إليه، فإذا ما حدث تزاحم على طلب الماء فإن الحكم سيختلف، حيث سينتقل من الحق  العام إلى الحق الخاص الذى يتحدد بحصة معينة أو وقت دورى محدد، ولهذا قرر الفقهاء أن للحاكم أن يتدخل بالتنظيم الذى يقيد استعماله، وقد يكون من بينه الانتقال به من عموم الانتفاع إلى تخصيصه بحيث يكون الأخذ منه مقيدًا وليس مطلقًا .

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة