المكسيكى الراحل سيرخى بيتول
المكسيكى الراحل سيرخى بيتول


سيرخـيو بيتول ..وذكريات كاتب رحّالة

أخبار الأدب

الخميس، 08 فبراير 2024 - 04:12 م

يُشار دائماً إلى الكاتب والمترجم والديبلوماسى المكسيكى الراحل سيرخى بيتول (1933-2018) بأنه أكثر كُتاب أمريكا اللاتينية نصيبًا من الموهبة، لكنه أقلّهم حظاً من الترجمة إلى اللغة الإنجليزية، ولد سيرخيو بيتول فى مدينة بويبلا، درس القانون والفلسفة فى مكسيكو سيتى وقضى سنوات عديدة كملحق ثقافى فى السفارات والقنصليات المكسيكية فى جميع أنحاء العالم، بما فى ذلك بولندا والمجر وإيطاليا والصين، اشتهر  بيتول بثراء إنتاجه وتنوعه ما بين الكتابة الإبداعية والترجمة. 

بيتول كاتب مقالات ومترجم وقصاص غزير الإنتاج، تميّز بصوت خاص وبلغة سردية استطاعتْ كسر الحواجز بين الأجناس الأدبية. كان يتقن سبع لغات، فـتَرجَم إلى قُـرّاء الإسبانية نصوصاً مهمة من عيون الأدب الغربى لـجين أوستن وهنرى جيمس وجوزيف كونراد وفيتولد جومبروفيتش وغيرهم.

اقر أ أيضاً | يسكنها شعراء وفلاسفة: الحديقة الخلفية لبيت عماد أبوصالح

من بين أكثر أعمال بيتول شهرة "ثلاثية الذاكرة"، وهى مجموعة من المقالات الأدبية التى تلامس، بل وتتداخل مع تخوم سيرة ذاتية تخييلية، كانت مُحصلة رحلاته الواسعة كديبلوماسى لسنوات طويلة. فى مقال نُشر فى صحيفة فى The Los Angeles Review of Books السنة الماضية، وصف د. إجناسيو إم سانشيز برادو، أستاذ الدراسات الإسبانية ودراسات أمريكا اللاتينية فى جامعة واشنطن، الثلاثية بأنها مجموعة من ثلاثة أعمال هجينة تجمع ببراعة مرهفة بين فن المذكرات  والمقال الأدبى والنثر خيالي، مضيفاً أن الثلاثية الباهرة تقدم حياة بيتول الحافلة بالأحداث والمغامرات كرحالة ودبلوماسي، ممزوجةً  باستطرادات شائقة حول تأملاته الأدبية وقراءاته."أما عن حياته الشخصية فتشير أعماله إلى أنه إذا كان هناك أى شخص لم يحبس نفسه داخل جدران غرفة مكتبه فهو سيرجيو بيتول.

ربما كان محبسه الأول فى فترة طفولته قد دفعه إلى الخروج إلى العالم واكتشافه، فى فترة الطفولة أصيب سيرخيو بيتول بالملاريا وظلَّ طريح الفراش لفترة تزامنت مع إصابته بعديد مع المتاعب الصحية لفترات طويلة، وفى فترة لزوم المنزل عرّفته جدته على أعمال مؤلفين مثل جول فيرن وتشارلز ديكنز. وقال الرجل إلى التلفزيون الإسبانى فى مقابلة عام 2002 إن القراءة أنقذت حياته.

قال: "أنا متأكد من أننى لو لم أقرأ جول فيرن الذى التهمتُ كل أعماله تقريباً لانتهى أمري، وكنت سأقضى  بسرعة كبيرة أو كنت سأظل طريح الفراش إلى الأبد". فى السطور التالية سأحاول إضاءة الجزء الأول من ثلاثية الذاكرة Triology of Memory، التى تحمل عنوان Art of Flying أو  فـن التحليق، وهى الترجمة التى اخترتها لتعبيرها عن مضمون الكتاب وروحه.

ربما تكمن صعوبة وضع فن التحليق لسيرجيو بيتول ضمن نوع السيرة الذاتية الأدبية فى أنها ليست سيرة ذاتية بالمعنى الحرفى للكلمة، إلا أن القاريء سيلمس ولا شك تداخلاً شائقاً (أو انصهاراً وتمازجاً) بحسب تعبير إنريكه فيلا – ماتاس كما سأوضّح لاحقاً بين الأجناس الأدبية المتنوعة، وهو اللون الأدبى الذى صار محببًا إلى ذوقى فى الفترة الأخيرة.

الكتاب مُبوب إلى أربعة أبواب: الذاكرة، الكتابة، قراءات ثم النهاية، متبوعة بهوامش المترجم. فى المقدمة التى كتبها الكاتب الإسبانى الشهير إنريكه بيلا – ماتاس يقول: "الحياة والأدب منصهران فى حياة سيرخيو بيتول، وأتساءل إن كان ثمة شيء أكثر كيخوتية من شغف بيتول بدمج الأدب بالحياة. فى مكان ما من كتاب "فن التحليق"، يخبرنا بيتول: أنا حصيلة الكتب التى قرأتها واللوحات التى شاهدتُها والموسيقى التى سمعتها ثم نسيتها والشوارع التى مشيتُ فيها.



ليس المرء إلا طفولته وعائلته وبعض أصدقائه، وقليلاً من علاقات الحب وشيئاً غير قليل من المنغصّات. إن بيتول لا يسعى إلى توضيح الرؤية، بل إلى طمس ملامحها. ونحن نقرأ بيتول نشعر أننا فى حضرة أفضل كُتاب الإسبانية فى عصرنا الحاضر. أقول إلى أى شخص يسأل عن أسلوب بيتول إن مناط أسلوبه هو الإفلات من أى شخص بغيض يمتلأ إحساساً باليقين. أسلوبه قائم على أن يقول كل شيء، لكنه لا يحلّ اللغز. أسلوبه قائم على  تزوير ملامح ما يراه، قائم على السفر وفقدان البلاد التى يرتحل إليها، على فقدان زوج أو زوجين من النظارات فيها، أو فقدانها كلها، فقدان كل شيء، ألا يكون فى حوزته شيء، أن يكون رجلاً مكسيكياً وفى الوقت أن يبقى أجنبياً غريباً على الدوام."فى السطور التالية أقدم فقرات مختارة من كتابه وفق ترتيب الفصول

الباب الأول: الذاكرة الماضى والحاضر
سنة 1965. عشتُ فى وارسو لمدة عامين. فى أحد الأيام سلّمنى ساعى البريد رسالة مُرسلة من Vence، قرية واقعة  جنوب فرنسا، كانت الرسالة ممهورة بتوقيع فيتولد جومبروفيتش. أيُحتمل أن تكون مـزحة. لم أكن أصدق أن الأمر حقيقي، عرضت الرسالة على بعض الأصدقاء البولنديين، وأصابتهم الدهشة؛ شاب مكسيكى يعيش فى وارسو يتلقّى رسالة من جومبروفيتش. لا يمكن! مستحيل! هززتُ رأسى منتشياً وقلت فى نفسي:" مثل كل شيء فى حياة جومبروفيتش".

فى الرسالة أوضحَ أن شخصاً ما أعطاه ترجمتى لرواية "بوابات الفردوس" للكاتب Jerzy Andrzejewski وأنه وجدها ترجمة مُرضِية، ودعانى إلى التعاون معه فى ترجمة "يوميات الأرجنتين" التى من المفترض أن تنشرها دار Sudamericana فى بوينس أيرس. وبغتة بدأتُ فى تلقى عروض من أماكن متفرقة.

حينما أتذكر ذلك الوقت لا يفارقنى اعتقاد أنى كنت أعيش حياة أخرى كما يُقال عادة، بل بالأحرى كان الرجل الذى أتحدث عنه ليس أنا، بل كنتُ أتحدث عن شاب مكسيكى يشاركنى اسمى وعاداتى وشؤونى الشخصية.

واحدة من الروابط الواضحة التى تربطنى بذلك الشاب المكسيكى هى الشغف القوى بالقراءة. فى ذات الوقت التى تلقيتُ فيه رسالة جومبروفيتش وصلتنى رسالة أخرى من الناشر Don Rafael Gimenez Siles، يحثّنى فيها على كتابة سيرة ذاتية.

كان الناشر قد دعا مجموعة من الكُتاب الذى ينتمون إلى جيلى وإلى الجيل الأحدث سناً لكتابة سِيرهم الذاتية، وكان مهتماً، وفق كلامه، بالتعرف على مشاعر الكُتاب الشبان إزاء العالم، والأهم التعرف إلى كيفية تعاملنا مع الظروف التى ألمّتْ بنا.

سيكون موضوع الإيجاز واحداً من جوانب السِيَر الذاتية المكتوبة بما يتلاءم مع قِصَر رحلة كُتابها الشبان فى الحياة. على مضضٍ شرعتُ فى كتابة هذه السيرة الذاتية مملوءاً بمزيج مختلط من المشاعر، مقتنعاً بحاجتى إلى الحصول على حضور فى بلدي، وإن يكن حضوراً صغيراً.

وعلى عكس الكُتاب الذين ضمّتهم القائمة لم أكتب سوى عدداً قليلاً للغاية من الكتب: مجموعتان قصصيتان صغيرتان. كنت متأكداً أن حياتي، لا حياتى الأدبية وحدها، قد بدأتْ لتوّها. كتبتُ سيرتى الذاتية بدافع من الشعور بالغرور أو الطيش أو الخمول.

فى أواخر ستة 1988 رجعتُ إلى المكسيك بصفة نهائية، فى غيابى عنها نشرتُ عديداً من الكتب، تُرجم بعضها إلى لغات عديدة وحصلت على جوائز أدبية وأشياء من هذا القبيل! عدت إلى وطنى حاملاً فى رأسى فكرة تكريس وقتى وطاقتى للكتابة وحدها.

شعرت بحاجة جسدية إلى العيش مع اللغة، وإلى الاستماع إلى اللغة الإسبانية طَوال الوقت وإلى معرفة أنها مُحيطة بى على الدوام وإن كنتُ لا أسمعها. بدت لى "مكسيكو سيتي" التى قابلتها غريبة ومعقدة تعقيداً عنيداً. بقيت أربع سنوات عاجزاً عن الاندماج معها أو الاندماج مع ذاتي. بعد وصولى تلقيتُ عروضَ نشر كثيرة، أولها عرض بإعادة تنقيح سيرتى الذاتية المكتوبة مبكراً وإضافة جزء ثانٍ يكون شاهد عيان على العشرين سنة التالية. لم أكن قد أعدتُ قراءتها، وحينما قرأتها شعرتُ باشمئزاز من نفسى ومن لغتى فى المقام الأول.

لم أتعرف على نفسى فى اللوحة التى رسمتها لذاتى فى وارسو سنة 1965. صُدمت على الفور بالنبرة الرزينة والتواضع الزائف الذين لم يتفقا البتّة مع علاقتى بالأدب، التى كانت علاقة حشوية، متطرفة، بل وهمجية. شعرت أن النصّ الذى كُتب ونُـشِر فى الماضى كان يضرع طالباً المغفرة.

كان النص عبارة عن صفحات طافحة بنفاق هائل، بدت مهمة المؤلف كرجلٍ يؤدى مهام وظيفة من الدرجة الثالثة. باختصار، لم يكن يزعجنى آنذاك أن أعلن استمتاعى بالقراءة أكثر من الكتابة لأننى فى ذلك الوقت كنت أومن ذلك، ولا أزعجنى إعلان أنها كانت تجربة هائمة مؤقتة مقارنة بالأشياء الأخرى التى قدمتها لى الحياة. ولم يكن ذلك ليزعجنى البتة، ما استهجنتُه كان قناع تلميذ المدرسة الفاضل الذى كنت أختبئ وراءه.
 
وفى الفصل الثانى بعنوان الكتابة نقرأ اليوميات التالية:
19 أبريل (فى رحلة جوية من سان فرانسيسكو إلى المكسيك)
ما زالت تراودنى فكرة كتابة رواية ذات حبكة بوليسية. فكرة تحويل المبنى الذى أعيش فيه إلى بيئة ذات سِمات نموذجية لكونٍ مصغر. أفكر فى شخصية روائية من النوع المهيمن، وحش من الوحوش: امرأة مفرطة البدانة تعيش مع ابن تخفيه عن الأنظار. والمستأجرون أشخاص منخرطون بشكل أو بآخر فى تنظيمات سياسية أسسها اليمين المتطرف قبل ثلاثين أو أربعين سنة، أفكر كذلك فى قلة من المثقفين الذين يراهم الناس رعاعًا، ومستأجرين فقراء لا يراهم أحد على الإطلاق. ورجل مجنون وحيد مهووس ومزعج اسمه بيدريتو.

12 مايو (فى المكسيك)
تكشف القصة عن نفسها عبر الأقنعة، أما الوجوه فلن تُرى أبدا.
 
25 ديسمبر

هيكل الرواية فى غاية البساطة، سبق وأن وظّفه جوجول فى رواية الأنفس الميتة؛ يصل شخص غريب إلى أحد الأماكن ويشرع فى زيارة مجموعة من الأفراد واحدًا تلو الآخر لمناقشة موضوع ما، وهى تيمة طالما استخدمتها الروايات البوليسية منذ بواكيرها، العديد من روايات أجاثا كريستى مُـشيّدة بهذا الأسلوب،  ورواية  "إريك أمبلر" الرائعة The Mask of Dimitrios النموذج المثالي.

أعنى أن الشخصية التى تخرج فى رحلة وتقنع الآخرين بفتح أبوابهم والإجابة عن الاسئلة هى إما شخصية ضابط بوليس وإما شخصية تحرّى خاص، أما أمبلر فيستخدم شخصية كاتب روائي، ولو لم تخنّى الذاكرة فهو صحفى كذلك وهذا ما يجعل اقتحام الأماكن الخاصة وحياة الآخرين تبدو طبيعية. فكرت أن شخصيتى ملائمة لشخصية صحفيّ. لكنى حوّلتُ الصحفى إلى مؤرخ يبحث فى فترة معينة: الحرب العالمية من منظور مكسيكي. 
وفى فصل بعنوان قراءات نقرأ الفقرات التالية عن الكُتاب الذين أحبّهم وتأثر بهم:

عن تشيخوف كتب:
يؤكد الكاتب البريطانى سيريل كونولى أنه ينبغى لأى كاتب أن يطمح إلى كتابة عمل عبقري، وإلا هو ضائع لا محالة. وهو مطلب احترازي، مُحفّز، ضربة السوط لإبعاد شبح الكسل ومجاراة السائد والفرار من إغراء الوقوع فى السهولة. وحين تهبط الضربة على الكاتب عندما تسنح الفرصة المواتية لو أراد ألا يسوق الخراف إلى الذئب. هل عرف الشاب جويس وهو يكافح لتأليف أهالى دبلن أن مستقبله كامن فى يوليسيس؟ وهل كان توماس مان وكافكا على علم بمصيريهما عندما كانا يكتبان قصصهما الأولى؟ هل تخيل الشاب سرفانتس عند كتابة سطوره الأولى، التى من المفترض أنها كانت متواضعة، هل تخيّل نفسه أنه المؤلف الدرة الخالدة للأدب الإسباني؟ يخطر ببالى أنه يمكن للمرء أن يفسر تأكيد كونولى تفسيراً أقل درامية: ينبغى لكل كاتب منذ البداية أن يظل مخلصًا لقدراته وأن يعمل على تحسينها، أن يكن أعظم احترام إلى اللغة وأن يبقيها حـيّة نابضة، محافظاً على تجديدها ما أمكنه، وألا يُقدّم تنازلات إلى أى شخص. أن يُدخِل على عمله أجرأ التحديات التى يمكن تصورها، على الأقل كانت هذه هى الطريقة التى صار بها تشيخوف كاتباً عظيماً.

فى البداية كتب تشيخوف لسدّ رمق أسرته عندما تبيّن قدرته على ابتكار القصص. ثمّ استغرق الأمر منه بضع سنوات لاكتشاف أن كون المرء كاتبًا يتطلب أكثر من كونه مجرد سارد حكاية مسلية أو واقعة درامية.

جعلت الممارسة اليومية من تشيخوف كاتباً على دراية واسعة بإمكانيات الحرفة، كان الرجل دائمًا مخلصًا لحدسه، يأخذ نفسه بالقوة دون هوادة ولا يلقى بالاً إلى أحكام الآخرين، مناهضاً إغراء السلطة وألوان الشطط أوالتزييف. لم يكن يعرف الملل أو الكلل فى السعى وراء أسلوب السرد الشخصي. فكانت النتيجة أن خـلّفَ ورائه للبشرية مجموعة من الأعمال الرائعة.
 
وعن الكاتب الإيطالى أنطونيو تابوكى يقول:
دائماً ما تضعنى الكتابة عن أنطونيو تابوكى على أعتاب المستحيل، أقرؤها مملوءاً بشعور الانبهار. إغرائى الأكبر يكمن فى إعادة نسخها وملء الأوراق باقتباساته وإيجاد خيط مشترك رابط بينها ثم نشرها بترتيب أفضل لمشاركة متعة قراءته مع القارئ. تابوكى كاتب يصعب تقليد نثره، لديه نبرة خاصة به وتوتر عاطفى يخـفّـفه الذكاء. كتابات تابوكى ظنّية الدلالة لكنها لا تخلو من يقين.

سوء الفهم، الغموض، المناطق الرمادية، الأدلة المنتحلة الملفّة، الحقائق والأحلام الممزوجة بواقع مفزع، البحث عن ما نعرفه أنه ضاع بالفعل، ألعاب العودة إلى الوراء، الأصوات الصادحة من الجحيم، كل ذلك هى العناصر التى تصادفنا غالبًا فى عوالم أنطونيو تابوكي. واحد آخر.

وفى محاضرة ألقيت فى تينيريفى عام 1991 بعنوان "القرن العشرين: التوازن ووجهات النظر يؤكد تابوكي:
"على الكاتب العارف بكل شيء والعليم بكل شيء ألا ينشر كتابًا. يقينى الوحيد هو أن الأمور كلها نسبية وأن لكل حكاية وجهاً آخر. وهذه  هى البقعة التى أحب دائماً التفتيش فيها، البقعة التى لا موضع فيها لشيء واضح للعيان من الوهلة الأولى. إن الصورة التى أخرجتها لنا الأدبيات المعاصرة لإنسان اليوم، إنما هى صورة رجل منعزل منكسر وحيد لم يعد يعرف نفسه ولم يعد الآخرون يعرفونه. يتحتم على الإنسان ألا يتوقف عن المطالبة بحقه فى الحُلم". 

أشرتُ فى بداية المقال إلى إعجاب كاتبى المفضّل من بين كُتاب الإسبانية المعاصرين، وهو أنريكه - بيلا ماتاس بأسلوب بيتول الأدبي. سُئِلَ ماتاس ذات مرة فى مقابلة مطوّلة ترجمتها كاملة فى أحد كُتبي: (تسأليننى أى نوع من الأدب سيُكتب له البقاء؟). أشار الرجل إلى حوارات ساعد فى تنظيمها صديقُــه الكاتب الأرجنتينى الراحل "ريكاردو بيجيليا" فى جامعة برينستون فى أميركا مع علماء رياضيات وفيزياء نظرية متقاعدين حققوا طموحاتهم على كل المستويات.

شبعوا من كل شيء، فضربتهم حالة زهد فى كل شيء، واعتقدوا أن الحياة لن تأتى لهم بالجديد، فقرروا الانعزال والتفرغ للقراءة.المهم أن بيجيليا لاحظ أنهم أغزر ثقافة من أسماء مرموقة مثل جورج شتاينر وهارولد بلوم، وأنهم بالنسبة إلى هؤلاء النُقاد الكبار مجرد هُواة.

كانوا يقرأون يقظة فينيجين ويحللونها صفحة صفحة، أعمال هيرمان بروخ،، روبرت موزيل، فأنهوا قراءة الكوميديا الإلهية بعد خمس سنوات ثم أعادوا قراءتها مرة أخرى. أحدهم تعلّم اليابانية لقراءة "كاواباتا".

أشار ماتاس إلى مهرجان كتاب يعقد يوم 23 إبريل فى برشلونة بمناسبة اليوم العالمى للكتاب، حيث تملأ شوارع برشلونة الكتب والورود الحمراء. وصفه بأنه نوبة هذيان جماعية.الخُلاصة - بحسب اعتقاده- أن هذا هو مستقبل الأدب فى القرن الحادى والعشرين؛ جلسات عمل جادة للقراءة لكى تمتلك مادة تنتج أدبًا حقيقيًا، تلقيح الفكرة بالتجربة الذاتية، قال ما معناه: ماتفتكرش نفسك صمويل بيكيت.. لكن ابذل أقصى ما فى وسعك.

خطرت لى فكرة محاولة الاحتفاظ بكل ما أريد تدوينه داخل رأسي، بحيث لا أضطر إلى تدوينه أبدًا. تراودنى مؤخرًا هذه الفكرة العجيبة؛ لن أكتب مجددًا، أو سأكتب ولن أنشر حرفًا. سأحاول الاحتفاظ باستحلاب الفكرة فى ذهني، والتلذذ بها، والبكاء على مصائر أبطالها وأنا أمشي. مشاوير المشى  الفالزرية البيكيتية الطويلة، وأسمع الموسيقى تهبط عليَّ لتمتزج بالذكريات والأفكار والقصص والأحلام. الفكرة الأشدّ تطرفًا هى ألا جدوى من تدوين الأدب برمته؛ جدواه الوحيد تعود على كاتبه، وما دام كاتب الأدب قد استمتع، وتفاعل، وتأثّر وتذكَّر وخلَّد الفكرة فى رأسه، وضحك عليها، ثم سخر منها، ثم بكى على أبطالها، فلا فائدة من تدوينها على الأوراق، وهذه أيضًا فكرة جديرة بالكتابة. 

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة