الدكتورة سيزا قاسم
الدكتورة سيزا قاسم


محمد برادة ..الناقدة المُتَبَصِّرة

أخبار الأدب

السبت، 24 فبراير 2024 - 01:43 م

كَتَبَتْ لى صديقتى العزيزة سيزا قاسم، بعد رحيل زوجها وجيه دراز، كلمةً مُقْتَبَسَة من الشاعر الفرنسى لامرتين تقول:
«شخصٌ واحدٌ تفقده، وإذا كلُّ شيء مُقْفِرٌ من حولِكْ». وأنا أدرك مدى أهمية وجيه، المثقف الواعي، فى حياة العزيزة سيزا؛ لأنهما كانا فى حوار دائم حول  القضايا التى تشغل مجتمعهما وتشغل الفضاء العربي، وحول دور الثقافة فى حماية المواطن من الوعى المغلوط ... والحقيقة أن الحظ أسعفنى بالتعرف على العزيزة سيزا، وأنا طالب بجامعة القاهرة سنة ألف وتسعمائة وثمانٍ وخمسين، حينما التحقتْ بنا، ونحن فى السنة الثانية من شُعبة اللغة العربية وآدابها، بعد أن حصلتْ على إجازة الأدب الفرنسى من نفس الجامعة، وأرادتْ أن تُوطِّد علاقتها باللغة العربية لتُنجز مشاريعها النقدية المتفاعلة مع أسئلة النقد العالمى المُتجدِّد عبر المناهج البنيوية والسيمائية والنفسانية .

وخلال ثلاث سنوات كوَّنَّا ما يُشبِه حلقة صغيرة معها ومع الصديق المغربى إبراهيم السولامى لكى نتطارحَ أسئلة أدبية ونقدية لم تكن آنذاك تحظى باهتمام أساتذتنا فى كلية الآداب.

اقرأ أيضاً | خالد أبوالليل: أحمد شمس الدين الحجاجي صانع الأسطورة

ولكى أكون دقيقًا، أقول بأن الصديقة سيزا كانت مُرْشِدَةً لنا نحن الاثنين، ومثيرة لاهتمامنا إلى ما كانت تَحْبَلُ به الساحةُ النقدية فى فرنسا؛ لأنها كانت على اطلاع واسع بما يُكتَبُ فى هذا المجال، من خلال إتقانها للغتين الفرنسية والإنجليزية.

والأهمُّ من كلِّ ذلك هو أن صداقتى مع سيزا امتدت متواصلة لما يزيد على نصف قرن، وكنتُ حريصًا خلال زياراتى المتواترة للقاهرة على زيارتها ومبادلتها الهمومَ المشتركةَ فى التعليمِ والكتابةِ النقديةِ الإبداعية. وكانت فُرَصُ اللقاء تُتَاح لنا أيضًا عندما كانت تتردَّدُ هى وزوجُها على فرنسا.

خلال هذه الفترة المديدة من صداقتِنا، لاحظتُ أنها تَعْزِفُ عن نشر دراساتها وتحليلاتها النقدية، مُنصَرِفةً إلى الاهتمام بطلابها وبأبحاثهم ... وهذا ما دفعنى إلى أن أقترح عليها أن تسمح لى بأن أنشر لها كتابًا فى المغرب يضم سبع دراسات لروايات عربية، وجدتُ أنها ستضيف شيئًا إلى حصيلة ما كان يُنْشَرُ من نقدٍ فى الفضاء العربى خلال ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي. وفعلاً سَعِدْتُ بنشر كتابها «روايات عربية: قراءة مقارنة»، عن دار الرابطة سنة ألف وتسعمائة وسبع وتسعين، الدار البيضاء، مع تقديم يحمل عنوان: «عندما يكون النقد إضافة ونَسْجًا للمعرفة». والواقع أننى أعتبر هذا الكتاب من أهم النماذج التى يطمح النقد الأدبى العربى إلى تحقيقها؛ وهذا ما عبَّرتُ عنه فى الفقرة التالية من تقديمى للكتاب:

«إن الناقدة سيزا قاسم، رغمَ ما تتسمُ به من دقةٍ فى تحديد المصطلحات والمفاهيم، ورغم تماسكِ التحليل وعمقِ مرتكزاتِه المعرفيةِ لا تُغفِل جانبَ المُتْعَة فى كتابة النقد. إنها تنجح فى أن تستقلَّ عن النص المنقود لتستدرجَنَا إلى تشخيص ردود الفعل المختلفة التى تبلورت من خلال قراءتها الأفقية للروايات: قراءة أفقية تفكُّ الحصار عن النص من خلال فتح باب المقارنات وتشحذ زناده ليُذكِى فينا متعة التأمل والاستبطان وإعادة تشييد عوالم التخييل.

وهى لا تفعل ذلك بطريقة انطباعية، وإنما من خلال اختيار جوانب أساسية فى كل رواية، ومن خلال تحديد زوايا تبرزها عبر تشغيل مفهومات ومعلومات وحساسية تُعطى للنص المقروء مَدَاهُ الواسع، وتفتح أمامه احتمالاتِ حياةٍ وتأويلٍ متعدِّدة».

فعلاً، أعتقد أن من أهم ما حقَّقتْه العزيزة سيزا هو الحرص على تحرير النصوص الإبداعية من سطوة المصطلحات والمفاهيم لكى يستعيدَ الأدب من خلال المقارنة والتحليل قدرته على معرفة العالم ومعرفة الحقيقة من زوايا كاشفة تُنمِّى وعى القارئ المُتطلِّع إلى معرفة خالية من الزيف. وهذه الخاصية التى تميزت بها، نجدها أيضًا فى أطروحتها عن «طوق الحمامة فى الألفة والألاف» لابن حزم الأندلسى. فقد أنجزت هذه الأطروحة سنة ألف وتسعمائة وواحد وسبعين ولكنها لم تنشرها إلا فى عام ألفين وأربعة عشر بعد أن أضافت إليها فصلاً مهمًا عن «ابن حزم والتراث الغرب»»، حيث قارنت طوق الحمامة مع نصوص الشاعر دانتى والروائى ستندال .
    
ولا بأس أن أشير فى عُجَالة إلى أن الإشكال الكبير الذى اعترض تجديدَ خطاب النقد الأدبى العربى مُنْذُ ستينيات القرن الماضي، كان يتمثَّل فى مدى القدرة على تمثل المصطلحات التى تنبنى عليها مناهج النقد العالمي، وتوظيفها بطريقة خلاقة تكشف أسرار النص العربى قديمَه وحديثَه، وتعطيه حياة جديدة ضمن سياق المثاقفة والتفاعل مع ثقافة العالم.

ومن هذا المنظور، ستظل كتابات العزيزة الراحلة سيزا قاسم علامات بارزة ومُثْرِية للنقد العربي.
أودُّ فى نهاية هذه الكلمة أن أشاطر العزاء أسرةَ سيزا قاسم، وأيضًا صديقاتها وأصدقاءها، مُتمنيًا لهم الصبر والعمل على التعريف بما أنجزته الراحلة فى صمت وتواضع؛ لأنها عاشت تجربة الحداثة والتنوير بكل كيانها، وأرست بعض اللبنات التى تستحق الاهتمام من الباحثين والقراء على على السواء.

لأجل ذلك، أقترح أن تسهروا على إعادة نشر كتابها المتميز «روايات عربية: قراءة مقارنة»،؛ لأنه سيُفيد طلبة الجامعة من حيث منهجه ومحتواه؛ وبذلك تستمر العزيزة سيزا قاسم مقيمة بيننا. وعلى روحها السلام.


الكلمات الدالة

 

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة