صورة أرشيفية
صورة أرشيفية


أقدم بورتريهات في التاريخ| «وجوه الفيوم».. أرواح خلّدها الفن

آخر ساعة

الخميس، 29 فبراير 2024 - 05:53 م

■ كتب: رشيد غمري

ملامحهم مصرية، وأسماؤهم يونانية، وبعض ملابسهم وحُليهم رومانية. صورهم هى أقدم أعمال معروفة لفن البورتريه فى العالم. وتعتبر أعجوبة فنية، سبقت عصرها بأكثر من ألف عام. الفن الذى نشأ من تلاقح مصري يوناني روماني، عبر عن عقيدة البعث والخلود لدى المصريين.

وبقيت تلك الأرواح تتطلع نحونا عبر صورها قرابة ألفى سنة، وبإطلالات آسرة، تخبرنا بسر يستعصى على الإمساك به. إنها وجوه الفيوم التى عادت للأضواء مؤخرا بعد كشف أثرى أظهر الجديد من تلك اللوحات الفريدة التى تحمل اسم بقعة مصرية عنوانا على إبداع وسحر وغموض ما زال يحير العالم.

◄ اكتشفها رحالة إيطالى وعالم إنجليزى وأغلبها خارج مصر

◄ رسمت بتمبرا البيض والشمع المخلوط بالأكاسيد

◄ أثرياء الفترة «الهلنستية» يعودون للحياة فى اكتشافات جديدة

◄ وظيفتها إرشاد الروح العائدة كل مساء إلى جسدها

عادت وجوه الفيوم إلى الواجهة مجددا بعد اكتشافات أعلن عنها فى ديسمبر الماضى، لمبنى جنائزى، ومجموعة من التوابيت والمومياوات، ترجع للحقبتين البطلمية والرومانية، ضمن نطاق قرية «جرزا» بالفيوم، والتى عرفت فى الماضى باسم «فلادلفيا» نسبة إلى الإمبراطور «فلادلفيوس».

وكانت إحدى مناطق الاستصلاح الزراعى، التى يبدو أن طبقة ثرية قطنتها، وكانوا قادرين على إقامة طقوس تحنيط ودفن مكلفة، بما تضمنته من تلك البورتريهات التى وضعت على واجهات المومياوات.

ما تؤكده أيضا الملابس والحلى الذهبية المرصعة بالجواهر التى تظهر فى اللوحات. ويأتى الاكتشاف هذه المرة كمفاجأة سارة بعد مضى أكثر من قرن على اكتشاف آخر مجموعة من تلك اللوحات، والتى تعرضت للنهب وضاع الكثير منها. وهى ما زالت إلى الآن تثير الأسئلة حول أصحاب الوجوه، وهل كانوا يونانيين أم مصريين، وعن طبيعة وسر هذا الفن الذى ظهر فجأة سابقا سياق تاريخ الفن، بحيث تبدو وكأنها من إبداعات القرون الثلاثة الأخيرة.

كما اختلف على ما إذا كانت أعمالا دنيوية رسمت فى حياة أصحابها، ووضعت مع الجثامين عند رحيلهم، أم رسمت لأغراض جنائزية بعد وفاتهم. والأهم هو سر ذلك السحر الغريب الذى يأسر مشاهديها، والرسالة التى تحملها تلك العيون الشاخصة نحونا.

وقد حاول الأديب «أندريه مالرو» تلخيص الأمر قائلا إنها تتطلع للأبدية، وتمثل منطقة وسطى بين الحياة والموت. أما عالم الآثار «جون براج» فقال إنها تغرينا بإمكانية معاينة الماضى وجها لوجه بالمعنى الحرفى والمجازى. وتلمسنا كما لو رسمت الشهر الماضى. كما علق الناقد «هولاند كوتر» على معرض لها أقيم مؤخرا فى متحف «متروبوليتان» بأن سحرها يكمن فى امتلاكها للشخصية، وهى مجردة من سياقها الجنائزى، وحداثية فى الأسلوب، ما يجعلها قريبة للمتلقى المعاصر.

◄ سحر وغموض
بالطابق الثانى فى المتحف المصرى بميدان التحرير، ظلت مجموعة من وجوه الفيوم بمثابة قبلة لعاشقيها، طوال عقود. البعض يذهبون لها خصيصا، ويصعدون مباشرة نحوها، تلبية لندائها الغامض. وهى لا تمارس سحرها مستندة على تاريخها فقط، ولكن لفنها النابض بالحياة، والذى يقودنا لمنطقة غامضة من الوجود الإنسانى. وقد أنتجت خلال ما يعرف بالحقبة الهلنستية، والتى تبدأ من رحيل الإسكندر المقدونى، وتتسم بانتشار الثقافة اليونانية فى حوض المتوسط ومناطق من آسيا، متلاقحة مع ثقافات تلك البلدان، وروما لاحقا. وكانت مصر ضمن هذا النطاق، تساهم بوهج حضارى لم يكتف بالاستقبال، ولكنه صدر فنون ومعتقدات المصريين وحتى آلهتهم إلى أثينا وروما.

واحتضنت مصر أجيالا حملوا بصمات اختلاط عرقى وثقافى. وهو المناخ الذى أنتج تلك الأعمال، والتى يرجح أنها مثلت استمرارا للاعتقاد المصرى بخلود الروح، وكبديل عن أقنعة المومياوات الفرعونية، والتماثيل التى كانت توضع فى المقابر. وكان هدفها تعرف «با» - وهى الروح التى تصور فى شكل طائر- على «كا» وهى قوة الحياة التى كانت تحتاج إلى جثمان لتتشبث به. وحيث كانت «با» تغادر الجثمان لتأتى بالطعام والشراب لـ»كا»، وتحتاج إلى صورة كى تتعرف على جثمانها.

ورغم ما قاله البعض عن كون تلك اللوحات ليونانيين، فإن ملامحهم تظهر بوضوح أنهم مصريون، ويشبهون بدرجة كبيرة أشحاصا من عائلاتنا، وأصدقائنا ببشرتهم القمحية والسمراء أحيانا، وشعورهم السوداء غير الناعمة. وقد رسموا بتقنية التمبرا المعروفة لدى المصريين بخلط الأكاسيد مع بياض البيض، بالإضافة لتقنية أخرى تخلط الأكاسيد بالشمع. كما استخدم التذهيب لتحديد بعض الأشكال وفق التقليد المصرى. وهى تعتبر حلقة وصل بين الفن المصرى القديم وفن الأيقونة القبطية، وحتى البيزنطية. وتتميز بنظرة عين موجهة للمشاهد مع استخدام التظليل لإعطاء إيهام التجسيم. وهو النهج الذى قام عليه الفن الغربى من بعد.

وقد توقف إنتاج وجوه الفيوم قبل وقت قصير من اعتبار المسيحية دينا رسميا للإمبراطورية الرومانية بما فيها مصر، وما واكب ذلك وتبعه من حظر للممارسات السابقة باعتبارها وثنية. ويبلغ طول هذه اللوحات حوالى 30 سم وعرضها حوالى 15 سم. وتصور الرأس والعنق وجزء من الكتف بالحجم الطبيعى تقريبا. 

◄ اكتشافات 
الشائع أن تلك الوجوه اكتشفت أواخر القرن التاسع عشر، لكن أول ذكر لها يرجع إلى عام 1616 عندما زار الرحالة الإيطالى «بيترو ديلا فالى» مصر فى طريقه إلى الهند. وقال إنه مر عبر سقارة، وقدمت له اثنتان من المومياوات على كل منهما وجه مرسوم. ولم يذكر ما إذا كانت المومياوان أخرجتا من مقابر سقارة، أم جلبتا من الفيوم أو مكان آخر. وقد اصطحب المومياوين معه فى رحلته إلى الهند عبر فلسطين، ثم عاد بهما إلى إيطاليا عام 1626، ولذلك فقد وصلتا إلى موطنه فى حالة سيئة، متسختين وباهتتين.

ولاحقا رسم صورا لهما، وكتب واصفا إياهما. وفى أوائل القرن التاسع عشر جمع «هنرى سولت» القنصل البريطانى فى مصر مجموعة كبيرة منها من مصادر غامضة، وهى التى وجدت طريقها فى النهاية إلى متحف اللوفر فى باريس. كما قام التاجر وجامع التحف النمساوى «ثيودور جراف» بأخذ مجموعة كبيرة منها عندما زار مصر عام 1887، وكانت مقبرة كبيرة قد اكتشفت حديثا وجرى نهبها بطريقة انتزعت اللوحات من سياقها التاريخى والمادى. ومن الواضح أنها أثارت الهوس وقتها لاقتنائها.

ويعتقد أن المكتشف من تلك اللوحات قرابة الألف، المعروف منها أقل بكثير، وموزع على متاحف العالم. وأسهم عالم الآثار البريطانى «وليام فليندرز بيترى» فى معرفة مصدر هذه اللوحات فى الفيوم بعد اكتشاف أكثر من 150 منها أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين. واقترح أنها كانت موضوعة فى ضريح عائلى، وجرى زيارتها ومشاهدتها بانتظام من أفراد الأسرة فى الاحتفالات الدينية، ولم تدفن إلا بعد موت كل ذويها بعدة أجيال. واستند فى ذلك إلى ملاحظة التناقض بين العناية الفائقة بالجثمان وتحنيطه ورسم تلك اللوحات ثم وجودها مجمعة ومدفونة بشكل يدل على الإهمال، والخشونة. وما يثير العجب أنها رغم ذلك ورغم قسوة البيئة استطاعت الصمود طوال تلك المدة. ورغم العثور على بعضها فى مناطق مصرية أخرى، لكنها ظلت تحمل اسم الفيوم.

◄ حكايات من الماضي 
بعض تلك البورتريهات تحكى قصة، منها قصة صبى فى العاشرة تم تصويره حليق الرأس عدا خصلتين فوق جبهته. ومن الواضح أنه كان مريضا بشدة، وكان والداه فى يأس شديد بعد تجربة كل وسائل العلاج الطبية والدينية. وأخيرا لجآ لعملية حلق الشعر فى أحد المعابد المحلية كقربان لشفائه. وهو طقس معروف كان يدفن خلاله شعر المريض، بعد لفه بكرة من الطين، وسط احتفال. وبالطبع فقد باءت تلك الجهود بالفشل. ويشير عدد بورتريهات الأطفال إلى الوضع الصحى فى تلك العصور بالنسبة للأطفال، وحتى المراهقين.

كما عرفتنا بعض تلك الصور على أسماء أصحابها، وأغلبها يونانية، مثل امرأة تدعى «سارابى»، ويشير اسمها لارتباط بالإله المصرى اليونانى «سيرابيس». كما تخبرنا تلك اللوحات بالاختلاط بين الجاليات الذى نتج عنه تداخل للعقائد.

كما أعطتنا أحيانا معلومات عن عمل أصحابها كالمعلمة «هرميون جراماتيكى». ورغم الجهود العلمية، فإن التاريخ الدقيق لكل منها غير معروف. ويلجأ علماء الآثار إلى قرائن تتعلق بالأزياء والقلائد والأقراط وخط الكتابة وتسريحات الشعر.

فمثلا رفع السيدات لشعورهن إلى أعلى وتثبيتها بدبوس كبير، كانت موضة تتعلق بعصر «فلافيان» (69 - 96 ميلاديا). لكنها أمور غير قاطعة بسبب انتمائها لمجتمع متعدد الثقافات، وليس بالضرورة يتبع الموضة.

وقد حدث بالفعل ارتباك فى التأريخ لبعضها، كما فى حالة وجه امرأة جرى تأريخه وفقا لتسريحة الشعر بعصر سيفيروس (193-210م) فى حين أشارت دلائل علم الحفريات إلى أنها تسبق هذا التاريخ بمائة عام، أما دراسة تصميم الحلى التى ترتديها فأشارت إلى أنها أقدم من ذلك بقرنين كاملين. ووصل الأمر أحيانا إلى خلاف على تأريخ بعضها بين القرن الثانى قبل الميلاد والقرن الرابع الميلادى بفارق يزيد على خمسمائة عام. 

ولم تتوقف وجوه الفيوم عند إلهام عدد من فنانى مصر والعالم. ومنهم الفنان أحمد نوار، والكندى «دانيال فورشات» الذى استخدم الفنون الرقمية لإعادة وجوه الفيوم إلى الحياة من خلال لقطات فوتوغرافية جعلتها تبدو كشخصيات واقعية.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة