كامل التلمسانى
كامل التلمسانى


كامل التلمساني.. السحاب الأكثر صفاء من حريق

أخبار الأدب

السبت، 09 مارس 2024 - 02:38 م

منذ 100 عام، تحديدا فى سبتمبر 1924 نشر أندريه بريتون البيان السريالى الأول، كانت الحركة التى اعتبرت نفسها مضادة للعقل والواقع  بمثابة رد فعل على ما أصاب العالم من جنون بسبب حرب عالمية أودت بحياة الملايين. ومن ثم سعت إلى تحرير الفكر، والنضال ضد الأفكار والقيم الموروثة، وكان سلاحها لذلك اللجوء إلى الأحلام واللاوعى.. وشعارها تغيير الحياة.

وجدت الحركة صدى فى كل العالم، ومن بينها مصر عندما أعلن مجموعة من المثقفين عام 1938 تأسيس جماعة الفن والحرية.

اقرأ أيضاً

منى‭ ‬الشيمي:‬ الأدب‭ ‬التسجيلي‭ ‬لم‭ ‬يأخذ‭ ‬مكانه‭ ‬بعد‭ ‬في ‬مصر

لم تكن السريالية المصرية نتاج حرب، كما فى أوروبا، بل كانت حسب لويس عوض ردا فنيا على معاهدة 1936 التى أدت إلى انفصال السلطة عن الشعب الذى رأى بعد المعاهدة الجمود فى كل شىء، وأن نضاله وكفاحه من أجل التحرر قد تم إحباطهما، فكان لا بد من التحديث، وثورة فى الفكر والفن والحياة تعبر عن الروح المصرية.  إنها ليست فقط بشاعة الحرب، ولكن بشاعة الفقر والمرض والجهل.

ضمت الحركة العديد من الأسماء مثل جورج حنين، رمسيس يونان، فؤاد وأنور كامل.. وكامل التلمسانى الذى وصفه جورج حنين بـ «السحاب الأكثر صفاء من حريق» .

 فى هذا الملف نستعيد  بعضا من سيرة التلمسانى، ودوره ومنجزه الفنى والفكرى والسينمائى.

محمد شعير ..عزيزى كامل

حسب معاصريه، كان كامل التلمسانى سريع الملل، مشحونا بالقلق، حاد الطباع، يتكلم فى ثورة عارمة، لا يحمل تحت شاربه الكث فما، بل فوهة، تظنها فوهة مدفع أو فوهة بركان. وكان- أيضا-  كتلة من المتناقضات، تلتحم وتتصارع فى لحظة واحدة بين جوانحه، وسرعان ما تتحول من حالٍ إلى حال.
2
القلق الدائم قد يكون مفتاح شخصية  التلمسانى (1915-1972)، قلق قادة إلى ثورة دائمة، من مغامرة إلى مغامرة أخرى، كان يذهب إلى الحدود القصوى فى الفن، ثم يتخلى عنه ليبدأ رحلة جديدة، يتخلى عن كل ما يقد يثقله، يريد دائما أن يكون خفيفا كريشة. 

درس الطب وفى السنة النهائية قرر ألا يكمل دراسته ليتفرغ للفن التشكيلي، قدم بيانات عن الفن الشرقي، ثم قادته المغامرة إلى السريالية، وأقام عددا من المعارض الجماعية والمفردة، ولكنه ترك كل ذلك من أجل السينما، وفى السينما كان محملا بطموح تغير خارطة السوق، فاصطدم بإرادة جمهور يريد فنا للتسلية. ثم وجد نفسه متهما فى قضية عبثية ليغادر مصر نهائيا إلى بيروت ويعمل مستشارا للرحبانية، ويموت قبل منتصف الخمسين، تماما مثل رفاقه جورج حنين وفؤاد كامل ورمسيس يونان، ماتوا جميهم فى سن متقارب، وزمن متقارب، وعاشوا جميعهم حياة صاخبة. ماتوا – كما قال جورج حنين- مثل أبناء الفيلة منفردين ووحيدين.


3
فى ديسمبر 1938 وقع ما يقرب من 32 مثقفا  مصريا، أو مقيمين فى مصر البيان الشهير «يحيا الفن المنحط»، ردا على معرض فنى أقامه الفاشيون فى ميونخ بعنوان الفن المنحط  وكان المعرض يتألف  من 650 عملا فنيا حديثا، علقت بشكل عشوائى مصحوبة بملصقات نصية تسخر من الفن. صمم المعرض لإثارة الرأى العام ضد الحداثة، وانتقل بعد ذلك فى عدة مدن أخرى فى ألمانيا والنمسا. ومن بين الأعمال المعرضة لوحات لمارك شاجال، بول كيلي،بيكاسو، ورينوار .. وقد شكل بيان المصريين نواة لتأسيس الحركة السريالية المصرية،  إذ أعلن بعد شهر واحد عن تأسيس جماعة «الفن والحرية» التى تشكلت من ثلاثة روافد: جماعة المنبوذين وهى حلقة تجمعت حول أنور كامل بعد صدور كتابه «الكتاب المنبوذ» وضمت فؤاد كامل وكامل التلمساني، وجماعة الدعاية الفنية التى ضمت رمسيس يونان، وجماعة المحاولين التى ضمت جورج حنين.

وهى المجموعة التى وصفها لويس عوض بأنهم للتدليل على ثقافتهم وحجم المأمول منهم:  « كانوا طوال الوقت يتحدثون الفرنسية، لا الفرنسية البزرميط التى اكتسبها المصريون من الشوام؛ بل فرنسية المثقفين فى باريس، فرنسية الكتب. وكانوا يُجيدون الإنجليزية المثقفة. وكانوا يُتقنون العربية ولهم فيها أساليب. ولم أكن أرى شيئاً على المصاطب أو على الأرض أو فى الأركان إلاّ ديوانـاً لرامبو، أو أندريه بريتون أو أراجون، أو رواية أو بحثاً عن حضارة الأنكا والأرتيك والزنوج»

وكان من أهم أهداف الجماعة  حسب بيانها التأسيسي: الدفاع عن حرية الفن والثقافة، ونشر المؤلفات الحديثة، وإلقاء المحاضرات، وكتابة خلاصات عن كبار المفكرين فى العصر الحديث، وأخيرا تعريف الشباب المصرى بالحركات الأدبية والفنية والاجتماعية فى العالم.

ورغم أن لويس عوض كان يرى أن للجماعة ثلاثة أئمة: أنور كامل فى السياسة، وجورج حنين فى الأدب، ورمسيس يونان فى الفن، إلا أن أنور كامل يضع كامل التلمسانى بديلا ليونان لدوره التأسيسى فى الجماعة.، وفى تشكيل رؤيتها، وتوجهاتها.

كان التلمسانى أكثر أعضاء الجماعة دفاعا عنها، بعد أن تعرضت لهجوم شديد فى مجلة الرسالة، وقد كتب مقالات عديدة اعتبر فيها أننا نريد حضارة تسير مع العالم ولا نريد أن نقف حين يسير الجميع. ويوضح فى مقالاته الدفاعية مخاطبا المهاجمين للجماعة: « هل رأيت يا سيدى (عروسة المولد الحلاوة) ذات الأيدى الأربع؟ هل رأيت عرائس القراقوز الصغيرة؟ وهل سمعت قصص أم الشعور والشاطر حسن وغيرها من الأدب الشعبى المحلي.. كل ذلك يا سيدى سيرياليزم. هل رأيت المتحف المصري.. كثير من الفن الفرعونى سيرياليزم. هل رأيت المتحف القبطي.. كثير من الفن القبطى سيرياليزم. إننا لا نقلد المدارس الأجنبية، بل نخلق فناً نشأ من تربة هذه البلاد السمراء وتمشّى فى الدماء من يوم كنا نعيش بتفكيرنا المطلق حتى هذه الساعة يا صديقي».

4
كلمات  قليلة كتبها كامل التلمسانى فى كتالوج المعرض الأول للفن الحر: «السواد والدماء والأشكال الممزقة والخطوط الحزينة الصارخة هى الصورة الوحيدة التى يمليها عالم غير متجانس تعيش فيه إنسانية مشوهة»..يشرح فى هذه الكلمات أسباب اختياراته للسريالية. 
ولكن هل كان كامل- بالفعل-  سيرياليا؟ 

5
كانت السريالية لدى كامل مجرد مغامرة أيضا من مغامراته العديدة، مغامرة عابرة لم يتوقف أمامها طويلا، ولم يكن مخلصا لها إخلاصا تاما، فقط ثلاث سنوات ثم غادرها إلى مغامرة أخرى، يفسر البعض مغادرته الى اختلاف فى الرؤى بينه وبين جورج حنين، أو بسبب انتقاد حنين له  فى معرض الفن الحرالثالث. لكن يبدو أن الأمر أعمق من ذلك. تقاطعت بعض أفكاره الفنية معها، وتعارضت معها فى بعض الأفكار. 

 فى تلك السنوات الثلاثة كان كامل سرياليا بطريقته الخاصة، يؤمن بأن  «الفن معمل بارود» عبارة الكاتب اليونانى نيكولا كالاس والتى أشار إليها حنين ويونان والتلمساني، ولكنه على الجانب الآخر يؤمن أيضا بالانتماء الكامل إلى الحياة المصرية، إلى الواقع إلى المعنى والرسالة الكاملة. فى إعلان المستشرقين الجدد(1937) يتحدث عن معالم لفن محلى جديد، كما أن معظم اهتماماته فى مجال الكتابة فى تلك الفترة ارتبطت بالسينما فن القرن الجديد، أو الرغبة فى الوصول إلى  الجمهور. يكتب فى المجلة الجديدة « تميز القرن العشرون بفنون ثلاثة هى: الصحافة والسينما والاذاعة. وعلى هذه الفنون الثلاثة يعتمد العالم فى كل أموره، وهذه الفنون الثلاثة تحتل اليوم ما كان لكل الفنون مجتمعة من قبل وعليها وحدها يتوقف كل أمل المستقبل وحياة الغد... وفيها طريق الخلاص الذى يرقبه الجيل الجديد».

6
كان كامل أول المغادرين للسريالية، بعد اربع سنوات أصدر جورج حنين ورفاقه بيانهم بانهاء تلك المرحلة تماما،  أعلنوا فى بيانهم معلنا فى أن القيمة الوحيدة، القيمة المنسية، القيمة المهددة هى الفرد، ونصرخ بأن للفرد موارد ثمينة لم تكتشف ولم تستغل بعد وأولها الخيال بما له من صفة جهنمية، بما فيه من قوة اندفاع وانطلاق.

الفرد فى وجه الدولة 
الخيال فى وجه المادية الديالكتيكية
الحرية فى وجه الإرهاب المتشعب
اختار حنين الصمت لأنه وسيلة من وسائل المقاومة، والاكتفاء بالعمل الصحفي، وانتقل رمسيس وفؤاد كامل إلى مرحلة جديدة فى الفن: التجريد.

7
فى تلك الفترة كان كامل يخوض مغامراته السينمائية، ويصدر كتبا، أصدر «سفير أمريكا بالألوان الطبيعية» 1957، و«عزيزى شارلي» ـ 1958، كما كتب رواية مفقودة بعنوان «أم محمد» عن سيرة والدته، لم يكن على تعارض تام مع الخط الوطنى للدولة، ولكن الدولة نفسها كانت لديها هواجسها تجاهه، وتجاه السرياليين القدامى، وتجاه اليسار كله. سافر التلمسانى الى إسبانيا لفترة، وعمل هناك مساعدا فى الإخراج، ولكنه لم يمكث طويلا، سافر إلى لندن وعمل فى إذاعة البى بى سى وكتب لها عشرات المسلسلات والبرامج الإذاعية، ثم كانت رحلته الأخيرة، وربما الأطول فى الاستقرار عندما سافر الى بيروت ليعمل مع الرحبانية مستشارا فنيا. وبعد رحيله فى 6 مارس 1972 بكته فيروز. وتذكرت حوارهما الأخيرة عندما حدثها عن أمنيته أن يسافر الى مصر، ويسكن فى قريته مع زوجته الجديدة، ويكتب فى تلك القرية رحلة عذابه فى الحياة. داعبته فيروز: هذه أحلام شابة وكثيرة على رجل فى الخمسين. قال لها فى مرح: لا مجال للحديث الآن عن العمر..حتى الموت لن يفكر فيه قبل الثمانين!

مى التلمسانى ..كيف تجاوز كامل التلمسانى السريالية؟
قبل التوقيع على بيان «يحيا الفن المنحط»، التقى جورج حنين وكامل التلمسانى فى ديوان «لا مبررات الوجود» المنشور بالفرنسية فى باريس عام 1938. يضم هذا الديوان مجموعة من القصائد والرسوم جاءت بمثابة صرخة ضد الكلاسيكية والأكاديمية فى الأدب والفنون، بنفس الطريقة التى سيقف بها بيان «جماعة الفن والحرية» بعد هذا التاريخ بعام واحد ضد الخطابات الفاشية التى استشرت فى أوروبا وتبنتها بعض النخب المصرية فى ثلاثينيات القرن العشرين. وقد شاعت فى كتابات الغربيين عن «جماعة الفن والحرية» مقولات جانبها الصواب أحيانا عن أسبقية التوجه السريالى فى معارض الجماعة عموما وفى أعمال التلمسانى خصوصا، باعتبار أنها جماعة «حداثية» نبتت جذورها الثقافية فى قلب التيار السريالى الفرنسى وانتمت إليه بدعم من جورج حنين أحد مؤسسيها، مدفوعة بالرغبة فى «تحديث» المشهد التشكيلى المصري.

ورأيى أن تلك المقولات المكرورة تحتاج لإعادة نظر. فمعارض الجماعة الخمس ضمت تيارات تشكيلية حرة ومتنوعة، ربما برزت فيها موتيفات سريالية، لكنها لم تقتصر عليها بأى حال من الأحوال. وصحيح أن المعركة التى خاضتها الجماعة دفاعا عن السريالية من خلال كتابات جورج حنين وكامل التلمسانى ورمسيس يونان تصدرت المجلات فترة من الزمن إلا أن مواقف الجماعة الهامة، سواء تلك التى تصدت لها البيانات أو المقالات المنشورة فى مجلة التطور العربية أو جريدة دون كيشوت الفرنسية أو التى عرضت من خلال كتالوجات المعارض، تجاوزت التيار السريالى وتجاوزت معه فكرة التحديث دفاعا عن الفن الحر والمستقل، بعيدا عن المسميات النقدية المدرسية المفروضة على التشكيليين الأبرز فى الجماعة، كامل التلمسانى ورمسيس يونان وفؤاد كامل.



ورأيى أن كامل التلمسانى تحديدا كان معنيا بقضية الحرية، مشغولا بفكرة الاستقلال، بل وكان رغم دفاعه عن السريالية كتيار، محتفيا بالشرق بمعناه الواسع فى مجابهة مستمرة مع الفصل التعسفى بين الفنون الشرقية والغربية، الشعبية والنخبوية، ولكن من منظور يتجاوز وينتقد الحداثة الغربية كما يتضح من بيانه عن المستشرقين الجدد الذى كتبه وهو لم يتعد بعد الثانية والعشرين من العمر. 

شكلت أعمال التلمسانى الأولى فى معرضه الفردى (1937) وفى رسوم «لا مبررات الوجود» (1938) ثم فى كتاباته عن الفن المنشورة فى مجلات الرسالة والتطور ودون كيشوت والمجلة الجديدة (1939-1942)، نقدًا لاذعًا للعقلانية التى احتفت بها أفكار وفلسفات الحداثة فى القرنين التاسع عشر والعشرين. وكأن التلمسانى بنقده للعقلانية التى روجت لها الحداثة ينتقد كل أيديولوجيا سلطوية (نازية أو فاشية) كان لها تأثير عالمى مدمر على الشعوب والأمم المستعمرة، وهو منطلق ماركسى أكثر منه سريالي، وفى زعمى أنه متجاوز للحداثة والسريالية معا.

إن حركة الخلاص العقلانى من كل الروابط والمشاعر والعادات والمعتقدات التقليدية لم تكن أفقًا يسعى إليه التلمساني. إذ لا العقلانية ولا حركة التحديث فى رأيى هما المحرك الرئيسى لإنتاجه الفنى والنظري. الحرية والاستقلال الفنى هما الأفق الأرحب، وهما القيمتان اللتان عبر عنهما فيما بعد بيان «جانح الرمال» (1947) ملخصا لقناعات «جماعة الفن والحرية» الأصيلة: الفرد ضد طغيان الدولة، الخيال ضد روتين المادية الجدلية، والحرية ضد كافة أشكال الإرهاب.
على المستوى الجمالي، استلهم التلمسانى بعض مفردات التيار السريالى الفرنسى فى الشعر والتصوير، مثل التشظي، والصور الصادمة، والتداعيات الحرة، لتحرير العقل والوعى من سطوة الخطابات السائدة المفروضة على الفنان من أنظمة السلطة المهيمنة (الشمولية). هنا، يمكن للمرء أن يحدد خط الهروب أو خط الانفلات لدى التلمسانى من خلال تبنيه فكرة الفن الحر الذى من شأنه أن يجبر النظام – سواء كان سياسيًا أو أيديولوجيًا – أو يجبر «نسق المعرفة»، على الانفجار من الداخل. 

ساعدت طبيعة التحدى السريالى للأعراف والأنظمة على تركيز الاهتمام على الذاتية والخيال والفعل الثورى المرتبط من ناحية بإرادة الانسان لدى نيتشه ومن ناحية أخرى براديكالية الفكر التروتسكي. هذا النهج الثورى للفن الحر الذى تبنته معارض الفن المستقل هو نهج مناهض للحداثة، ويرهص بتصورات ما بعد الحداثة عن العلاقة الطردية بين الفن والسلطة، بين الفن والنخبة. 

جاءت الدعوة لفن مستقل (السريالية هى أحد أشكال التعبير عنه) وكأنها دعوة للتشكيك فى الحداثة الأوروبية والسعى ضمنيا لتجاوزها، وذلك بشكل طليعى قبل أن تظهر فكرة ما بعد الحداثة فى نهاية الستينيات من القرن العشرين. تشير بادئة «ما بعد»، وصفة «حداثي»، إلى عملية السيرورة اللازمة لكل ثورة، وفكرة التحرر من القيود التاريخية والأيديولوجية التى تشير ضمنيا لمساوئ الحداثة الأوروبية أو التحديث المزعوم فى سياق الشرق. هذا التوجه الناقد لمنجزات الحداثة ونتائجها الشمولية هو فى رأيى ما سعت «جماعة الفن والحرية» لتأكيده عبر معارضها ومنشوراتها ومطبوعاتها على مدار عشر سنوات هى عمر ازدهارها فى مصر.

هكذا لجأ كامل التلمسانى إلى التناص والتقاطع مع تيارات فنية متعددة، بدلاً من تبنى فكرة التأثير المباشر، والانتماء المحض لتيار بعينه. ففى أعماله نجد احتفاء بعدد من المدارس الفنية الأثيرة لديه، مثل التعبيرية الألمانية فى عشرات وعشرينيات القرن العشرين، وخاصة فى الطباعة الحجرية والسينما، والتكعيبية (كما تتجلى فى لوحة «المرأة الباكية» لبيكاسو، 1937)، والتعبيرية الفرنسية كما تظهر فى أعمال جورج رووه. 

سعى التلمسانى للربط بين ذات الفرد وذات الجماعة من خلال الفن، متجاوزا فى أحيان كثيرة الحدود الوطنية والثقافية، وذلك منذ أول معرض فردى له أقيم فى قاعة فريدمان بشارع قصر النيل بالقاهرة وصاحبه «بيان المستشرقين الجدد» عام 1937. مرورا بمعارض الفن المستقل ومعرضه الفردى الثانى الذى أقيم فى قاعة مكتبة تحوت بشارع سليمان باشا فى الفترة من 24 فبراير إلى 6 مارس 1941. يعكس هذا الإيمان العميق بضرورة عبور الحدود رفض التلمسانى منذ البداية لجميع أشكال التبعية الفردية لصالح المجتمع أو الأمة، أو لصالح جماعة، خاصة لو كانت التبعية باسم العقل. على ذلك، يرى التلمسانى فى مقاله «حول الفن المنحط» المنشور بمجلة الرسالة عام 1939 أن الفن لا ينتمى إلى بلد معين، والثقافة القومية عليها أن تتناغم مع بقية العالم، مؤمنا بأنه ليس هناك ما هو أكثر ضررًا للفنان من تقييد عمله ضمن حدود ثقافة معينة أو موقع جغرافى محدد. 

ويتفق جورج حنين مع آراء التلمسانى حين يكتب فى دون كيشوت عام 1940: «الفن لا ينتمى إلى إقليم. دو كيريكو ليس إيطاليًا أكثر من كون ديلفو بلجيكيا، ودييجو ريفيرا ليس مكسيكيًا ولا تانجى فرنسيًا ولا ماكس إرنست ألمانيًا ولا التلمسانى مصريًا. كل هؤلاء يشاركون فى نفس النضال الأخوى ضد برج الكنيسة والمئذنة».

من خلال المعارض الجماعية التى شارك فيها التلمسانى وكذلك فى معرضيه الفرديين ومقالاته النقدية وكتاباته الحرة، تحدى قانون المحلية بوصفها سبيلا للعالمية وشارك فى تفكيك هالة القومية فى لحظة كانت المشاعر القومية ضد الاحتلال البريطانى والنظام الملكى فى ذروتها، وميز بوضوح بين السياسة القومية ومعاداة القومية فى الفنون، مستلهما فكرة الاستقلال فى الفن، التى قد تتخذ شكلا سرياليا، وإن لم يكن الشكل الأهم، ومؤكدا على ضرورة الحرية فى مواجهة كافة أشكال الفاشية السياسية والاجتماعية وأيضا فى مواجهة المدارس الفنية الجامدة والمحددات العقلانية التى تسوغ فكرة سيطرة الإنسان على العالم. 

بهذا المعنى، ساهمت أعمال وكتابات كامل التلمسانى فى النجاح النقدى والفنى للحركة السريالية المصرية، محليًا وإقليميًا، ومن ثم فى إسهاماتها وبقائها حية على مر عقود كثيرة بوصفها مسعى فنيا عابرا للحدود الوطنية والعالمية فى مواجهة الشمولية الفكرية من ناحية واخفاقات الحداثة الأوروبية من ناحية أخرى. لقد تبنى التلمسانى خطابا ثوريا مفاده أن الفن والحرية صنوان. 

ويبدو أن تبنى هذا الخطاب بشكل راديكالى دفعه للتخلى عن الفن التشكيلى وعن الانتماء لجماعة الفن والحرية فى عام 1943. وجاء هذا التخلى انعكاسا لآرائه السياسية ضد الإملاءات البرجوازية والقومية. هكذا استطاعت اسهاماته النادرة والمؤثرة فى الفن التشكيلى زعزعة المعايير الأكاديمية المؤسسة لفكرة التيار الفنى وتمهيد الطريق لفضح الحداثة الأوروبية التى أنتجت أنظمة فاشية وشمولية كارهة للفن والفنانين، وصولا لكتاباته الملهمة عن سيطرة أمريكا على العالم من خلال هوليوود واحتفائه بشارلى شابلن ودوره الطليعى فى تاريخ السينما العالمية.

هشام نوار : أما آن للسوق السوداء أن تترك التلمسانى يرقد فى سلام ؟!
كتبت سابقًا عن كامل التلمسانى فى مقال حاولت فيه أن أحكى قصتى معه، وكيف أننى وجدته يتراءى لى فى أوقات متقاربة متلاحقة، ما جعلنى أشعر وكأن صداقة نشأت بينى وبينه عابرة للزمان والمكان، وربما خذلتنى الذاكرة فى بعض التفاصيل، غير أن التوجه الشائع حاليًا بالاحتفاء بالسريالية عالميا وتصدر الأعمال الفنية للسرياليين قوائم صالات المزادات الكبرى، ومن بين هؤلاء بالطبع أعمال كامل التلمسانى على ندرتها، إذ لم تتجاوز فترة إنتاجه عقدًا من الزمان، بل ووصل الأمر إلى وجود أعمال مقلدة له يتم تسويقها لتلبية طلبات المقتنين، ما يذكرنى بمزور هولندى يدعى «هان فان ميجرين» تخصص فى تزوير أعمال فيرمير فترة الاحتلال النازي، وبعد سقوط النازية تمت محاكمته بتهمة الخيانة لأنه باع العديد من أعمال فيرمير فنان هولندا العظيم لضباط نافذين بالجيش الألماني، فلم يجد بدًا من أن يعترف بتهمة التزوير ليدفع عن نفسه تهمة الخيانة، وأثبت للمحكمة عمليًا كيف كان يقوم بعمله متقمصًا شخصية فيرمير وأن ما قلده من أعمال يتجاوز عدد ما أنتجه فيرمير فى حياته وتحول على إثرها من مجرم إلى بطل قومى باع للأعداء لوحات مزورة، أتذكر ذلك وأنا أرى كل فترة تظهر لوحة جديدة لكامل التلمسانى بإحدى صالات المزادات تباع بمبالغ باهظة وهى ليست من عمله ولا خطرت على قلبه.

ويبدو أن ما اعترض عليه وقاومه كامل التلمسانى على مدار عمره الفنى القصير كمصور تحديدا، أو على مدار حياته فى مجالات فنية أخرى، كان شغله الشاغل مقاومة سوق الفن وتحويلها الفن إلى سلعة استهلاكية لتجميل قصور الطبقة الأرستقراطية والمباهاة بالمبلغ الباهظ الذى بذلوه من أجل لوحة ربما كانت تصور فلاحأ فى الحقل لم تطأ قدماه مثل هذه القصور، بل ولم ير فى حياته لوحة فنية، إذ يقول فى مقال بعنوان «نحو فن حر» نشر بالعدد الأول من مجلة التطور فى يناير 1940: «لكل فرد فى المجتمع.. مثقفا كان أو جاهلًا .. عاملًا أو فلاحاً.. من حقه أن ينال من الفن نصيبه ليتزود به ضد حياته الجافة الصلدة». وكان يعيب على فنانى عصره إنتاجهم فنًا تجاريًا يصور مناظر الحقول وفلاحات لهن وجوه نساء مترفات لم تلفحها حرارة الشمس فى ظهيرة يوم عمل شاق فى الحقل، فكان يرى أن على الفنان أن ينزل عن برجه العاجى ليشعر بالبسطاء من الشعب وأن ينتج فنًا يعبر عن ألامهم وأحلامهم البسيطة ومعاناتهم تحت وطأة ثالوث الجهل والفقر والمرض بحسب تعبير عميد الأدب العربى دكتور طه حسين.



احتفى العالم فى عام 2020 بمئوية ظهور الحركة السيريالية، وظهر بوضوح الاهتمام البالغ بكل ما يمت للسريالية بصلة، وبدأ هذا الاهتمام قبل سنوات من اكتمال هذه المئوية، بل والترويج لها وكأنها حركة بدأت توًا، وذلك ما لم نره مع حركة فنية أو ثقافية أخرى، وصارت موضة من جديد يتسابق الفنانون فى العودة للسريالية، وتتسابق المتاحف على اقتناء أعمال السيرياليين من أعمال السابقين واللاحقين، وبحسب تعبير السوق فالزبون دومًا على حق، وعلى السوق أن يلبى احتياجات زبائنه من المتاحف وجامعى الأعمال الفنية النادرة ولو باختلاق أعمال تباع بمبالغ تقدر بأرقام على يمينها عدد من الأصفار تستعصى قراءتها على المصابين بالاستجماتيزم، ورغم دفاع كامل التلمسانى عن السيريالية كحركة فنية وفكرية إلا أن ذلك لم يكن إلا من قبيل الدفاع عن حرية الفن وحرية التعبير وليس من قبيل الدفاع عن فنه وقناعاته الخاصة، ففى مقال بعنوان «حول الفن المنحط» نشر بمجلة الرسالة العدد 321 فى 28 أغسطس 1939 فى محاولة منه لتبسيط معنى السيريالية يقول إنها « الفن البعيد عن الحقيقة الظاهرة». ودائما ما تعتمد الأعمال السريالية على حياد المشاعر فى العمل لخلق حالة من الغموض والالتباس على المتلقى تضعه فى حالة من الدهشة والتأمل لسبر غور حقيقتها، فلوحة الصرخة مثلًا لإدوارد مونش رغم أنها تمتلك كل مواصفات اللوحة السيريالية من حيث المكان والمنظور وعناصر التكوين وشكل السماء إلا أن الوجه الصارخ فى رعب فى مقدمة اللوحة جعلها لا تنتسب للسريالية، بل وتصبح أيقونة وعلامة فى الفن التعبيري، فإذا نظرنا إلى أعمال كامل التلمسانى نجد فيها أنه لم يكن فنانًا يتشدق بمجرد شعارات ينساها حين يخلو إلى لوحته وألوانه فى مرسمه، بل كان يعتنقها حتى النخاع، إذ لم يكن بعيدًا عن معاناة البسطاء من المجتمع الذى يعيش فيه، بل ويدهشنا تلك التيمة المتكررة فى أعماله، المسمار الضخم الذى ينغرس دائما فى أجساد أبطاله، نعم أبطال يعانون ألمًا لا يطاق، ألمٌ يغشى ملامحهم، لكنه لا يخرجهم عن وقارهم النبيل، وقد استعارصورة ذهنية خالدة فى تاريخ البشرية للتعبير عن الألم، صورة المسيح مصلوبًا والمسامير الغليظة تخترق كفيه وقدميه، لكنه مسبل العينين مؤمن بالخلاص، لم يختر التلمسانى تصورًا ذاتيًا أو محليًا للتعبير عن الألم، لكنه اختار صورة عالمية لا تراها عيناً إلا وتربطها برمزية الصلب وآلامه المبرحة، بل ولابد أن تقرن ذلك الألم بما فى الصورة الذهنية من ارتباط بين الألم والخلاص، ليكون الألم هنا ليس تداعيًا وانهيارًا، لكن الألم هنا بداية أمل فى الخلاص، وربما ليس مصادفة أن حروف الكلمتين ألم وأمل متطابقتان لولا تبادل ترتيب الحرفين الأخيرين، ليكون الألم قاب قوسين أو أدنى من الأمل، ونجده فى إحدى اللوحات التى رسمها لكتاب أشعار جورج حنين «لا مبررات الوجود» 1938 قد رسم مجموعة من الوجوه وكف يحتل النصف الأيمن العلوى للوحة وكل تلك العناصر تخترقها تلك المسامير الخشبية، لكن بعضها هنا يبدو أعلاه ظاهرًا، لنجد أنها صلبانا تشتعل فيها النار، فالألم أصبح حارقًا وصار الصليب هو المسمار فى تكثيف تعبيرى بليغ.

لم يكن كامل التلمسانى يسعى لتقديم متطلبات سوق الفن فى لوحاته، أو ما كان يسميه «البقالة الفنية»، فاللوحة بالنسبة له دفقة وجدانية واحدة لا تقبل التكرار، إذ لم يكن من الساعين إلى التجويد وتجميل العمل بما يرضى الزبون، ولم يكن حريصا على دمج درجات لونه المتباينة ليصنع سطحا ينساب عليه الضوء فى نعومة، بل يعمد أن يكون السطح خشنًا ترى فيه مسار فرشاته فى كل لون دون استعراض لمهارات وتقنيات تبهر المبتدئين والمشاهدين السذج الذين يريدون لوحة موضوعها « محلاها عيشة الفلاح» يقتنيها إقطاعى يخدمه فلاح بالسخرة وقد مزقت ملابسة سياط سيده النبيل عاشق الفن الذى دفع مقابل اللوحة ما لو أعطاه لخادمه لوجد فراشًا يتمرغ عليه بدلا من الأرض البراح، ولستره سقف بدلا من خيمة السماء الزرقاء، لذلك كان غريبا أن نجد بعض اللوحات المرسومة بالقلم الرصاص أو الحبر، وقد ظهرت لها لوحات زيتية وكانه اعد لها سلفا رسما تحضيريا لدراسة اللوحة، وهو الذى كان يمقت تلك التقاليد الأكاديمية مقتًا شديدًا ويرى فيها تصنعًا وافتعالا يضع قيودا للفنان تمنعه من التحرر والانطلاق، ويبدو أنه استبد به اليأس أن يصل فنه إلى أبطاله ونماذجه ولم يجد من الجمهور سوى أصحاب الكرافتات الفاخرة ومرتديات معاطف الفراء، فتوقف فجأة وهجر ألوانه ولوحاته وتوجه للعمل فى السينما حيث نطاق أوسع من الجماهير كثيرهم من البسطاء والعمال والفلاحين، وليس غريبا أن يكون فيلمه الأول « السوق السوداء» عن أصحاب محل بقالة اغتنوا من تجارتهم بالسوق السوداء، وقد كان يصف الأعمال الفنية التجارية المصطنعة بالبقالة سابقًا، وأدرك تجار السوق السوداء وقتها خطورة فيلمه فحطموا السينمات التى تعرضه ومنعته سنوات طويلة، ويبدو أن السوق السوداء لم تشبع لذة انتقامها من كامل التلمسانى حتى الآن، فما زالوا يحاربونه بتلفيق الأعمال له، بتقليد رديء لا يتناسب وقناعاته الفنية، بل ويتناقض مع نمط حياته ورؤيته للفن، أما آن للسوق السوداء أن تترك كامل التلمسانى يرقد فى سلام؟
 

إتيان ميريل ..«المستشرق الجديد» 
صاحب هذا البيان معرض الفنان المصور التلمسانى يجدر بنا قراءته أولا:
«نحن نؤمن بأن أفكارنا وأحاسيسنا الشخصية شرقية خالصة، وهى قادرة على توليد فن حقيقى طالما أننا نشعر بإحساس شرقى أصيل، متحرر من المفاهيم الغربية.

ذاك الشعور هو الذى يقود، فى مجال الفن، صانع الخزف فى الصعيد، وصانع السلال فى الشرقية، ونحات العاج فى أسيوط، وطارق النحاس فى خان الخليلي.
وهو الشعور نفسه الذى يشعر به الإنسان البسيط الذى يعزف على «الغاب» (١) ويردد بلا كلل لحنًا أبديًا: أنين «الساقية» المصرية الرتيب الذى يتردد صداه عبر العصور والحضارات.
 



مرة أخرى، هذا الشعور المكبوت والمقموع هو ما تحاول الراقصة الشرقية إظهاره من خلال فوضى حركاتها الحسية، لتحرر كيانها من وجودها البائس الحزين ومن التقاليد القديمة التى استعبدتها منذ قرون.

هذا الشعور ما هو إلا منبع الإلهام فى الوادى المصري، الإلهام الذى لم يتبدل على مر القرون، منذ وطأت أقدام الفنان الفرعونى الأول هذه الأرض السمراء.

إن الهدف الذى سعيت إليه فى عملى والذى أحاول تحقيقه فى كل عمل من أعمالى هو أن أستلهم فى يوم من الأيام طريقة الفلاحة الصغيرة التى تشكل «دميتها وجملها» من الطين، الدمية التى يفاجئنا استطالة وجهها المبالغ فيها. وأيضاً الوصول إلى فكر الطفلة المصرية التى «تصنع» الدمية من الأقمشة. وسمو روح الفنان التلقائى الذى «ينهي» دمية المولد،المصنوعة من السكر ويصبغها بالفن المحلي، هذا الفن المحلى الذى أعتبره مثالاً للفن المعاصر فى بلادنا.

أتمنى أن أصل فى يوم من الأيام إلى مستوى الشخص المجهول الذى نحت فى الحجر، وهو يقضى عقوبته بسجن طرة، أشكال حيوانات ربما لم يرها من قبل. لقد نقل لنا هذا الرجل رسالة روحه الشرقية الخالصة. أمنيتى أن أصل إلى روح الفنان الذى يمنح أعواد القصب الشكل النبيل المستطيل لرأس ابنة النيل.

إن الفنان الكبير بالنسبة لى هو الحرفى الغامض الذى يعمل فى صمت، بعيدًا عن التأثيرات الأكاديمية. هو من تضيء صوره جدران المقاهى الشعبية، مستنسخة مغامرات أبو زيد الهلالى والزناتى خليفة، هو من تزين رسومه واجهات بيوت الحجاج العائدين من مكة، وهو من تتوج الأساطير أعماله التى قد تستغلق فلسفتها على أفهامنا إلى الأبد.

لو لاحظتم فى أعمالى تعبيراً جدياً وغامضاً، وربما غرائبيا، خارجا عن أى جمال كلاسيكي، تعبيرا يأتى من هذا الجانب اللعين الموجود بداخلى والذى ليس سوى انعكاس لمشاعرنا المكبوتة كشرقيين، فأن هذا التعبير من اكتشافي.

لو تمكنت فقط من تتبع الملامح الأولى لهذا الفن المحلى الجديد، عندها فقط سأعتبر نفسى فنانًا»

دعونا نتجاوز السخرية السهلة التى اعتدنا أن ننغمس فيها فيما يتعلق بهذا النوع من الكتابات، والتى تثيرها حتماً اللهجة المبالغ فيها، والثقة المفرطة بالنفس، الثقة الساذجة بالنفس. لنلاحظ فقط صدقها الواضح: «وكونها عمل شاب فى العشرين من عمره». من الجميل أن يكون لديك، فى هذا العمر، مثل هذه الطموحات الراسخة وأن تمنح نفسك نقطة انطلاق قوية كهذه.

لأن الفن الشعبي، فى الواقع، هو بلا شك مصدر إلهام خصب للفنانين: كل الفنون الروسية والرقص والمسرح والموسيقى لم تتطور إلا فى اليوم الذى توقف فيه الشباب عن تقليد الفنون القادمة من أوروبا وتشبعوا بالإبداعات العفوية للفلاح ورجل الوديان والسهول. إن هذا بلا شك هو مكمن الخلاص لمصر نفسها. وقد تبين لنا هذا بالفعل: فالرسامون المصريون الأكثر أصالة هنا، محمود سعيد، وناجي، وراغب عياد أظهروا بوضوح فى بعض أعمالهم أن لديهم إحساسًا بواقع تشكيلى خاص يتحكم فيه العرق والمناخ المميز للأماكن التى شهدت مولدهم. مثل الباحثين الدؤوبين الذين يجمعون أعمال فنانى الشعب بمحبة: أمثال مونييه لمتحف الإثنوغرافيا، والرسام بوجلين لمجموعته الغريبة من الفن الشعبي.

بالنظر إلى الأعمال التى يقدمها التلمسانى حاليا، يتساءل المرء فى الحقيقة: كيف يستشعر التلمسانى هذا التأثير العرقي؟ إن إبداعاته، الغريبة للغاية والتى ستجعل الكثيرين يصرخون استهجانا باسم «الذوق الرفيع»، هى مسألة خيال شخصى أكثر من كونها تواصلًا واعيًا مع روح الشعب. هذه الأيدى الطويلة التى ترتفع وتمتد مثل اللهب، هذه الأشكال التى أصبحت وحشية بسبب التسطيح المفرط، ليست تلقائية. أود أن أصدق أن الفنان لم يكن لديه أبدًا مجموعة مينوتور بين يديه، لكن ما يفعله، دون أن يعرف ذلك، بلا شك، هو سريالية بالغة الرهافة. إنها خيالات أدبية محض، وأحلام على نهج لوتريامونت تنشأ عنها تلك التكوينات، تحيطها هالة من الرعب ومن نوبات السحر والشر. نحن هنا بعيدون عن ذوق الفلاحين من الأشكال النقية والأسلوبية الهندسية وتفسير الطبيعة بالمعنى البصرى التشكيلي. لكن هذا لا يمنعنى من تذوق هذه الأعمال. فقط لنتذكر هنا أننا بصدد مؤشر على نوع من الحمى قد يصل بصاحبها لآفاق بعيدة.

وعلى الرغم من استنكار التكرار الثقيل لنفس الموضوع، إلا أن المتفرج يعجب بروعة اللون الأسود والبنى والأحمر، اللون المكتوم القوى رغم ذلك. فكرة طيبة أن يعرض الرسام محاولاته الأولى التى قام بها فى الفن الأكاديمى ليثبت أنه قادر، مثل أى شخص آخر، على صنع فن مقلد، ولكى يظهر بوضوح كيف أدار ظهره لهذا الفن العقيم الذى عفا عليه الزمن. وكان على حق: لقد ذهب بعيداً فى الاتجاه المعاكس، ولكن حيثما يوجد القليل من ضبط النفس، يتحقق النجاح.
«١» الغاب: مزمار القصب
>مجلة البورصة المصرية -12  يناير 1937

كامل التلمسانى :كاريوكا
ترك كامل التلمسانى كتابين منشورين «سفير أمريكا بالألوان الطبيعية» 1957، و«عزيزى شارلي» ـ 1958، كما كتب رواية مفقودة بعنوان «أم محمد» عن سيرة والدته، فضلا عن مئات المقالات الموزعة بين الصحف والمجلات الفنية والأدبية، المجلة الجديدة، الثقافة، التطور، الأستوديو، روزاليوسف، ومجلة السينما حيث كان يحرر بابا بعنوان «خلف الكاميرا». وقد تنوعت هذه الكتابات المنشورة منذ منتصف الثلاثينيات وحتى رحيله عن مصر عام 1959بين النقد السينمائى والتشكيلى والأدب الشعبي، والترجمات، والبورتريهات الفنية، والاشتباك مع العديد من القضايا الفكرية والسياسية ، وهى تكشف عن متابعة دقيقة لما يحدث فى العالم، واهتمام بأدب وفن الفئات المهمشة التى تبحث عن إنسانيتها المفقودة.
 ننشر هنا بعضا من هذه المقالات التى تستحق أن تجمع فى العديد من الكتب. 

يقال – والعهدة على الراوى – أن «شبشب بدوية» هو الذى عنته الأغنية الشعبية التى تقول :
جاب لى الشبشب يقرا ويكتب .. 
فشبشب بدوية له إلمام تام بالقراءة والكتابة ..
وله إلمام تام بالموسيقى أيضاً ..
يكفيك أن تستمع إلى طرقاته وإيقاعها على أرض الطريق وهو يلتقى معها ، ثم وهو يفترق عنها، ثم وهو يعود إليها ثانية وقد اشتد شوقه للقياها. ليقبلها من جديد.



وكل هذا «على الوحدة» ..
وأحيانا «على الوحدة ونصف» التى يعرفها أهل الموسيقـى الراقصة والتى لا تعرفها بدويـة .. وإن كانت تحس بغريزة بنت البلد حين تمشي، وحين يقود كعب قدمها الإيقـاع مع كعب شبشبها .. ويضبـط لها التبخطر على الوحدة، كما يفعل ضابط الإيقاع فى التخت الشرقى مع موسيقى الراقصات وأدمنوا متابعة السمراء الناضجة العود ، وأكلوها بعيونهم، ومضغوا بخيالهم كنوز عودها الملفوف الذى أثمر قبل أوانه .. ونضجت ثماره فى الرابعة عشر.
وتسلل الحب إلى خطواتها، ورأى الناس فى مشيتها – المألوفة لديهم والمحفوظة عن ظهر قلب – سحرا لم يعهدوه قبل أن تعرف صبيتنا الحب .. وتدرى نزواته ..
فطرقات شبشبها على أرض الطريق اكتسبت رنين «الصاجات»..
وعقدة منديلها ترقص فعلا فوق جبينها .. ولا تتأرجح..
وعندما تنظر إلى من حولها ترقص رموشها..
ووسطها يلعب . وكل ما فى جسدها ينتفض، بسبب أو بغير سبب .. ككلام الناس عنها ..
ومع الحب .. حدث شيء آخر أكثر عجبا ..
باتت صبيتنا وأصبحت فوجدت نفسها تكاد تنسى المشي.. لم تجد نفسها تمشى كسائر الناس، ولا كبقية بنات حواء، ولا كبعضهن.. وجدت نفسها ترقص إذا تحركت، ويرقص فيها كل شيء إذا مشت..
وكما قلت لك إنها لم تكن فى حاجة إلى الموسيقى تصاحب مشيتها لوفرة الإيقاع الموسيقى فى طرقات شبشبها، أعود فأقول لك إن هذا الإيقاع قد شمـل الآن كل شيء فيها، بعد أن مسها العشق والغرام وعرفت ما الهوى ..
ولم تكن فى حاجة إلى جمهور يراها ويتفرج عليها .. كما تحلم بذلك الراقصات ، فكل من فى الشارع يعرف ميعاد مرورها فى الصباح وفى المساء وينتظرها لينظر ويتفرج .. مجانا دون تذاكر..
وإذا ما سارت لأمر من أمورها ثم عادت وجدت الشارع كامل العدد.. كم من المشاة غيروا اتجاه سيرهم ليسيروا خلفها، وكم تأخر مسرع وأبطأ ليتبعها عن مقربة أطول وقت ممكن .. وكم .. وكم.. وهذا حديث يطول شرحه فلهذه بدوية . الصبية التى ولدت لترقص كما لم ترقص امرأة من قبل فى الشرق كله ..
لقد اختارتها الأقدار لتخلق من « الرقص البلدي» ومن « هز البطن. فنا لا يمكنك بأى حال من الأحوال إلا أن تضعه فى نفس المستوى الذى ترى فيه موسيقى عبد الوهاب وغناء ام كلثوم .

إنها لم تفكر فى الرقص أبدا، لأنها كانت تفكر فى الرغيف، وتفكر فيه كثيرا منذ طفولتها الأولى.. عندما عرفت المأساة لأول مرة طريقها إلى دار طفلتنا واختطف الموت والدها ..
ومع الموت ظهر أقارب عائلتها ليقدموا عزاءهم إلى أمها، ولما فرغ الميتم وانتهى العزاء .. كان الميراث قد فرغ وانتهى واختفت تركة الوالد الراحل فجأة مع اختفاء آخر الأقارب والأعزاء ..
ووجدت نفسها تعيش مع أمها وأخت غير شقيقة وخمسة أخوة من أب غير أبيها ثمانية مخلوقات تعسة تعيش معا تحت سقف واحد فى غرفة واحدة ..
ومعهم فقرهم وحرمانهم وجوعهم ..
وكبرت طفلتنا ، وكبر معها الفقر والحرمان ، واشتد الجوع .. وتعددت ألوانه وأشكاله ..
ورأت صبيتنا حولها ثمانية أفواه تريد أن تأكل ثلاث وجبات من الطعام – أى طعام – كل يوم ..
وبحسبة بسيطة اكتشفت أن لابد لهذا القطيع الآدمى من 24 رغيفا كل 24 ساعة .. أى معدل رغيف فى الساعة ..
وبحسبة أخرى .. لابد لصبيتنا أن تتكاتف مع أمها لتحصل على هذه الأرغفة فهى الأخت الكبيرة ، ومسئوليتها واضحة ..
وصعب العيش على أسرتنا فى الإسماعيلية ، فقررت أن تهاجر إلى القاهرة ... فلعل وعسى ..
باعوا كل ما يملكون لشراء تذاكر السفر، ولم يأت البيع بثمن التذاكر، وحاولوا اقتراض ما تيسر من الأقارب الأعزاء دون جدوى . واضطرت الأسرة التعسة أن تمد يدها للمحسنين حتى تجد بقية ثمن ثمانى تذاكر فى الدرجة الثالثة إلى القاهرة ..
وصرخ القطار للسفر ..
وغادر الإسماعيلية وبداخله حمولته الغالية .. السمراء صاحبة الشبشب الذى يقرأ ويكتب، ذات الساق التى تلهب العيون وتورثها الأرق ..
واختفت بدوية ، واختفى منديلها «أبو قوية» الذى تأكل ربطته من حاجبها جزءا لترى جزءا من الحاجب الآخر، والذى ترقص عقدته بين بين فلا تستقر أبدا بين الحاجبين..
ومحا ضجيج القطار صورة الهوى والغرام فى صدر صبيتنا، ورسم بدلها صورة الرغيف فى معدتها ..
ولاح لها وسط خيال الرغيف المأمول طيف سعاد محاسن ..
فبدوية تعلق الآمال على مقابلة سعاد فى صالتها المعروفة للغناء فى القاهرة . وهى صديقة قديمة لأسرة والدها .. ومن الممكن جدا أن تعطف على بدوية وأمها وأختها وأخواتها وتساعدهم فى محنتهم مع الزمن ..
وتعجلت صبيتنا القطار يوصلها إلى مدينة الآمال ..
وفى شارع عماد الدين سألت عن صالة سعاد محاسن حتى طرقت بابها وجاءها صدى طرقاتها أجوف لا حياة فيه إذ كان الباب موصدا على فراغ ، والدنيا خلفه خاوية إلا من الوحشة والصمت، لقد رحلت سعاد وفرقتها إلى الإسكندرية لتعمل هناك موسم الصيف ولن تعود قبل الشتاء ..
كان مع بدوية أملها الذى ضاع .. وثلاثة قروش فقط لا غير ، وجوع كافر بكل شيء فى حياتها التى تحياها مع الحرمان .. واحتارت صبيتنا ..
ووسط شارع عماد الدين أجهشت بالبكاء أمام الناس، بكت فى نفس الشارع الذى قدر لها أن تصبح نجمة نجوم ملاهيه ومسارحه .. نجمة ساطعة تضحك وتشعع بالذهب  وبالقلوب ، ويصفق لها هؤلاء الناس الذين بكت أمامهم يوم وطأت فيه قدمها هذا الشارع . ومعها ثلاثة قروش فقط لا غير وجوعها الكافر بكل شيء ..
مدت يدها للمحسنين ثانية لتسافر إلى الإسكندرية ..
وقابلت سعاد محاسن ورجتها أن تعمل عندها خادمة ، أو صباحه ، أو غسالة، أو أى عمل تريده منها .. لتوفر لقطيعها الآدمى 14 رغيفا كل 24 ساعة ..
وحتى هذه اللحظة .. لم يخطر الفن على بابها أبدا، فلقمة العيش وحدها هى كل ما يشغل فكرها ويوجه تفكيرها .. لذلك فوجئت بدوية عندما عطفت سعاد عليها وضمتها إلى قائمة النجم البشرى الذى تعرضه للزبائن فى صالتها .. فى حدود قانون بوليس الآداب .
ما كان لها إلا أن تقبل، وتقبل شاكرة ..
ومن خلال فتحات ثوب بدوية الذى ألبسته لها سعاد لتجلس به فى الصالة .. أطلت أكبر كمية ممكنة من لحمها ليراه الزبائن .. على عينك يا تاجر .. ومن لا يشترى يتفرج ..
ورفضت أن تبيع ..
واكتفت بأن تدعهم يتفرجون فقط .. وداخل قيود التسعيرة..
لم يتفرجوا عليها مجانا كما كان الحال فى الإسماعيلية ، بل قطعوا التذاكر. ودفعوا الثمن ليتفرجوا عليها ، وليأكلوا بعيونهم كنوز عودها الملفوف .. لتأكل العيش أمها وأختها غير الشقيقة وأخوتها الخمسة من أب غير أبيها ..
ثم لتأكل هى بعد ذلك ..
وغير هذا الواقع الأليم من طبيعة صبيتنا وبدل كيانها كما غير من اسمها وبدله هو الآخر فأصبحت بدوية .. تحية ..
وزاد عطف سعاد عليها فاستغلتها أكثر ، وأظهرتها على المسرح فى دور نكرة تافهة بمسرحية قصيرة قدمتها فرقتها صيف عام 1936 .
ومرت الأيام .. وقفلت صالة سعاد محاسن أبوابها ، وسلمت سعاد إلى بديعة مصابنى شابتنا تحية، وأوصتها بها خيرا ..
ودخلت تحية الجامعة ... «صالة بديعة» ..
كانت بديعة مصابنى عميدة هذه الجامعة التى تخرجت منها كل راقصات الشرق..
وبلغ الهيام لمتبادل بين العميدة والتلميذة حدا جعل تحية تقيم بسكن بديعة حتى لا تفارقها أبدا .. وحتى لا تغيب عن كل محاضراتها ..
وأعطت بديعة الفرصة لتحية فأظهرتها على المسرح فى «نمرة» راقصة ، ونالت تحية إعجاب الجماهير فى رقصتها هذه، ولكن هذا الإعجاب لم يحرك فيها ساكنا .. لأن شابتنا لا تريد أن تظهر فى مثل هذه الرقصة التى لا تحسنها شخصيا وإن نالت إعجاب الجماهير ..
كانت رقصة أوربية «أفرنجية» .
وقررت تحية أن ترقص كما تريد .. ترقص بلدى ..
لكن .. للرقص البلدى ملابسه الخاصة وهى غالية لن تقل عن ثلاثة جنيهات للبدلة الواحدة ، ومرتبها فى الصالة هو ثمن هذه البدلة، واشترتها بالتقسيط .. كل أسبوع ريال..
وشاهد رواد صالة بديعـة بعماد الدين فى تلك الليلة من سنـة 1938 تحية ترقص فعلا.. لأول مرة فى حياتها ..
نزلت الستار لتدخل تحية إلى الكواليس وهى تطير من الفرح .. لترى الشرر يتطاير من عينى بطلة الصالة الأولى وراقصتها الكبرى ، ولترى اللكمات والتسربات تتطاير عليها من والدة البطلة .
ولترى – وهذا هو المهم- بدلة الرقص وقد مزقتها البطلة وأم البطلة بعد رقصة واحدة ، وقسط مدفوع واحد .. وعليها أن تدفع كل الأقساط لبدلة لا وجود لها ..
انضمت عميدة الجامعة بطبيعة الحال إلى صف البطلة الأولى فمنعت تلميذتها النجيبة تحية من الظهور فى رقصتها البلدية التى أرادتها .. وأعادتها ثانية إلى الرقصة «الافرنجية» التى لا تحس تلميذتنا فيها شيئا ..
وفى نفس هذه الليلة بالذات .. أحبت تحية الرقص البلدى كما لم تحبه من قبل، وقرت – بينها وبين نفسها – أن تصبح راقصته الأولى، وأن تصبح شيئا فى الحياة والفن .. ولم تمضى شهور معدودة على هذه الليلة حتى تخرجت من «جامعة بديعة» ..
انضمت إلى ملهى « الكيت كات » لتقابلها نفس العقبات التى حالت من قبل دون ظهورها فى رقصتها البلدية التى تريدها ..  ففى هذا الملهى بطلة أخرى تحتك لنفسها هذه الرقصة ..
ومرة أخرى .. اضطرها لترقص «إفرنجى» ..
وظهرت فى رقصة «الكاريوكا» .. 
رقصتها كما يجب أن ترقصها امرأة وأضافت إليها بغريزتها بعض السحر الذى لا يمكن أن يضيفه إلى الرقص إلا شرقية من سلالة «شهر زاد» ..
وصرخت الجماهير وهى ترى تحية ترقص الكاريوكا .. ما من مرة رأوها تدخل المسرح إلا وصرخوا .
•كاريوكا .. كاريوكا ..
وغير نجاحها هذا من اسمها مرة ثانية لتصبح بدوية محمد كريم .. تحية كاريوكا ..
ونجحت فى السينما وتعاقدت معها الشركات لتنتج أفلاما تقوم تحية ببطولتها .. وتعددت البطولات، وحالفها النجاح .
ثم جاء دورها مع المرحوم نجيب الريحانى فى فيلم «لعبة الست» ولمست تحية بهذا الدور أوج مجدها السينمائى .
ووصلت إلى قمة هذا المجد عندما قامت ببطولة «شباب امرأة «مع المخرج صلاح أبو سيف. ففى هذا الفيلم بالذات لعبت تحية دور حياتها الكبير الذى لن ينساه العالم العربى مادامت للعرب أفلام .
وفى هذا الفيلم وجدت تحية كاريوكا شبابها .
ووجدت فى صدر هذا الشباب «بدوية» ساحرة الإسماعيلية .. عذراء الرابعة عشرة ، ذات المنديل « أبو قوية « فوق الجبين، وعقدته التى تتأرجح بين بين .. وترقص دائما بين الحاجبين ..
>روز اليوسف - ٣ مارس ١٩٥٨

الفوتوغرافيا والوجه‭ ‬الإنسانى
فى‭ ‬النصف‭ ‬الثانى‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ ‬اجتاحت‭ ‬أوروبا‭ ‬موجة‭ ‬من‭ ‬الوقوع‭ ‬فى‭ ‬أحضان‭ ‬الرومانتية،‭ ‬من‭ ‬الإشادة‭ ‬بالخيال‭ ‬المطلق‭ ‬والتعلق‭ ‬بالسحب،‭ ‬من‭ ‬البعد‭ ‬عن‭ ‬الحقيقة‭ ‬وكل‭ ‬ما‭ ‬يمسها‭ ‬بصلة‭ ‬عن‭ ‬قرب‭ ‬أو‭ ‬عن‭ ‬بعد.  وهذا‭ ‬الاتجاه‭ ‬فى‭ ‬التفكير‭ ‬الأدبى‭ ‬ووجهة‭ ‬النظر‭ ‬إلى‭ ‬الأشياء‭ ‬والتعبير‭ ‬عنها‭ ‬له‭ ‬أصول‭ ‬كامنة‭ ‬فى‭ ‬تكوين‭ ‬المجتمع‭ ‬ولون‭ ‬النسيج‭ ‬الذى‭ ‬يتدثر‭ ‬به‭ ‬أفراده.  والنتيجة‭ ‬المحتمة‭ ‬لهذه‭ ‬النزعة‭ ‬التى‭ ‬أشادت‭ ‬بالحلم‭ ‬والرؤيا‭ ‬والخيال‭ ‬الهوائى‭ ‬يظهر‭ ‬جليا‭ ‬فى‭ ‬المدرسة‭ ‬التى‭ ‬نشأت‭ ‬على‭ ‬اأنقاضها،‭ ‬ومن‭ ‬الجلى‭ ‬أنها‭ ‬مدرسة‭ ‬تعارض‭ ‬خطة‭ ‬الرومانتية‭ ‬فى‭ ‬أساسها‭ ‬وتترك‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬جاءت‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬جديد،‭ ‬وكل‭ ‬ما‭ ‬أوحى‭ ‬به‭ ‬فنانوها‭ ‬إلى‭ ‬الناس.

والمدرسة‭ ‬التى‭ ‬عارضت‭ ‬فكرة‭ ‬هذا‭ ‬الخيال‭ ‬الشاعرى‭ ‬المحدود‭ ‬هى‭ ‬الواقعية،‭ ‬وأبقى‭ ‬أثر‭ ‬لها‭  ‬هى‭ ‬مؤلفات‭ ‬الكاتب‭ ‬الفرنسى‭ ‬إميل‭ ‬زولا‭ ‬وفيها‭ ‬نجد‭ ‬الدعوة‭ ‬السافرة‭ ‬إلى‭ ‬اتخاذ‭ ‬الواقع‭ ‬المجرد‭ ‬أساساً‭ ‬للفن،‭ ‬الدعوة‭ ‬إلى‭ ‬تمثيل‭ ‬الحياة‭ ‬فى‭ ‬الأدب‭ ‬والفن‭ ‬بالشكل‭ ‬الذى‭ ‬توجد‭ ‬عليه‭ ‬وليس‭ ‬بالشكل‭ ‬الذى‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يتصوره‭ ‬الاديب‭ ‬أو‭ ‬الفنان. ترك‭ ‬المثاليات‭ ‬الفردية‭ ‬الكامنة‭ ‬فى‭ ‬مخيلات‭ ‬المفكرين‭ ‬الخلاقة،‭ ‬وهى‭ ‬التى‭ ‬لا‭ ‬تستند‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬مباشر‭ ‬له‭ ‬أصول‭ ‬وفروعه‭ ‬فى‭ ‬جوهر‭ ‬الواقع‭ ‬الملمخس‭ ‬المنظور.

اقرأ أيضاً | سيد بهي أحمد يكتب: فلَسْطينُ كُلّها حَرَم

والتفكير‭ ‬الواقعى‭ ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬الرنة‭ ‬التى‭ ‬سادت‭ ‬أوروبا‭ ‬حتى‭ ‬بداية‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬والتصوير‭ ‬الشمسى‭ ‬يساير‭ ‬هاتين‭ ‬النزعتين‭ ‬تماماً‭ ‬فى‭ ‬دوريهما‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يحيد‭ ‬عن‭ ‬جوهريهما‭ ‬قيد‭ ‬انملة،‭ ‬وهذا‭ ‬هو‭ ‬الهيكل‭ ‬الذى‭ ‬خلقت‭ ‬الفوتوغرافيا‭ ‬بين‭ ‬جوانبه،‭ ‬ومن‭ ‬الواضح‭ ‬أنى‭ ‬أقصد‭ ‬بقولى ‬‮«‬الفوتوغرافية‮» ‬الصور‭ ‬التى‭ ‬التقطها ‭ ‬كبار‭ ‬فنانى‭ ‬هذه‭ ‬الناحية‭ ‬من‭ ‬التعبير،‭ ‬ولست‭ ‬أقصد‭ ‬بها‭ ‬الاطنان‭ ‬المكدسة‭ ‬من‭ ‬صور‭ ‬العائلات‭ ‬والأطفال‭ ‬والأقارب‭ ‬وغير‭ ‬الاقارب‭ ‬من‭ ‬الأهل‭ ‬والخلان،‭ ‬والتى‭ ‬من‭ ‬النادر‭ ‬ان‭ ‬نجد‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬الأهمية‭ ‬ما‭ ‬يخرجها‭ ‬عن‭ ‬نطاق‭ ‬تأدية‭ ‬واجبها‭ ‬المؤقت‭ ‬من‭ ‬تسجيل‭ ‬الملامح‭ ‬للذكرى‭ ‬والاعتبار،‭ ‬ان‭ ‬كان‭ ‬فى‭ ‬المحافظة‭ ‬على‭ ‬وجود‭ ‬الاقارب‭ ‬وافراد‭ ‬العائلة‭ ‬فى ‬‮«‬بوزاتهم‮» ‬التقليدية‭ ‬من‭ ‬ذكرى‭ ‬ومن‭ ‬اعتبار.



سجلت‭ ‬إذن‭ ‬الفوتوغرافيا‭ ‬فى‭ ‬أواخر‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ ‬وأوائل‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬ما‭ ‬سجله‭ ‬الادب‭ ‬من‭ ‬النزعات‭ ‬ووجهات‭ ‬النظر،‭ ‬واستمر‭ ‬الحال‭ ‬كذلك‭ ‬حتى‭ ‬أشعال‭ ‬السادة‭ ‬تجار‭ ‬الاسلحة‭ ‬والبضائع‭ ‬نيران‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الماضية.  وفى‭ ‬هذه‭ ‬الحرب‭ ‬انقشعت‭ ‬الغمامة‭ - ‬أو‭ ‬بعض‭ ‬اجزائها‭ ‬على‭ ‬الاصح‭ - ‬عن‭ ‬عيون‭ ‬الرجال‭ ‬وخاصة‭ ‬الرجال‭ ‬من‭ ‬الفنانين‭ ‬الذين‭ ‬قدر‭ ‬لهم‭ ‬أن‭ ‬يخوضوا‭ ‬غمارها‭ ‬ويخرجوا‭ ‬منها‭ ‬وقد‭ ‬تغير‭ ‬فيهم‭ ‬الروح‭ ‬والجسد،‭ ‬وهنا‭ ‬يبدأ‭ ‬الفن‭ ‬بمعناه‭ ‬النبيل‭ ‬فى‭ ‬طبع‭ ‬العدسة‭ ‬بطابعه‭ ‬الصادق. ويبدأ‭ ‬ظهور‭ ‬المصور‭ ‬الفوتوغرافى‭ ‬الفنان‭ ‬صاحب‭ ‬الرسالة‭ ‬وصاحب‭ ‬الفكرة‭ ‬والرأى. الفنان‭ ‬الذى‭ ‬قلما‭ ‬يتورط‭ ‬فى‭ ‬تكريس‭ ‬عدسته‭ ‬وتسخير‭ ‬فئة‭ ‬لخدمة‭ ‬تصوير‭ ‬الاحتفالات‭ ‬فى‭ ‬الولائم‭ ‬والزيجات،‭ ‬وهذه‭ ‬هى‭ ‬الصور‭ - ‬أو‭ ‬الغالبية‭ ‬المطلقة‭ ‬من‭ ‬الصور‭ - ‬التى‭ ‬تعود‭ ‬الجمهور‭ ‬المصرى‭ ‬حتى‭ ‬الان‭ ‬أن‭ ‬يلمسها‭ ‬فى‭ ‬الفن‭ ‬الفوتوغرافى. وهى‭ ‬ولاشك‭ ‬أبعد‭ ‬الاشياء‭ ‬عن‭ ‬دائراة‭ ‬الفن،‭ ‬والفن‭ ‬برىء‭ ‬منها‭ ‬وما‭ ‬من‭ ‬صلة‭ ‬يمكن‭ ‬ان‭ ‬تجمع‭ ‬بينها‭ ‬وبينه‭ ‬إلا صلة‭ ‬تسخير‭ ‬المصور‭ ‬فى‭ ‬خدمة‭ ‬من‭ ‬يمكنهم‭ ‬أن‭ ‬يدفعوا‭ ‬له‭ ‬ثمن‭ ‬لقمة‭ ‬العيش. ومن‭ ‬العار‭ ‬أن‭ ‬يسخر‭ ‬المصور‭ ‬بجهوده‭ ‬وإنتاجه‭ ‬لا‭ ‬لغرض‭ ‬الا‭ ‬القيام‭ ‬بأعمال‭ ‬السخرة‭ ‬الاقطاعية‭ ‬التى‭ ‬يوجبها‭ ‬عليه‭ ‬تكوين‭ ‬المجتمع‭ ‬الحاضر‭ ‬بحالته‭ ‬الراهنة.


وبين‭ ‬أوائل‭ ‬من‭ ‬قام‭ ‬بالحركة‭ ‬الفنية‭ ‬فى‭ ‬هذه‭ ‬الدائرة‭ ‬الجديدة‭ ‬يمكننا‭ ‬أن‭ ‬نجد‭ ‬المصور‭ ‬الامريكى‭ ‬المولود‭ ‬مان‭ ‬راى‭ ، ‬وإليه‭ ‬وحده ‬يعود‭ ‬فخر‭ ‬الاكتشافات‭ ‬الحية‭ ‬اللامعة‭ ‬فى‭ ‬هذا‭ ‬الفن‭ ‬فى‭ ‬أيامنا‭ ‬هذه.



وفن‭ ‬مان‭ ‬رأى‭ ‬يعتمد‭ ‬فى‭ ‬اكتشافاته‭ ‬على‭ ‬إيجاد‭ ‬نقط‭ ‬تعبير‭ ‬جديدة‭ ‬وزاوية‭ ‬خاصة‭ ‬لرؤية‭ ‬الأشياء‭ ‬وخصوصا‭ ‬رؤية‭ ‬الوجه‭ ‬الانسانى‭ ‬وطريقة‭ ‬التعبير‭ ‬عنه. وتفسير‭ ‬هذا‭ ‬التعبير‭ ‬وصياغة‭ ‬قالبه‭ ‬الموحى‭ ‬إلى‭ ‬أبصار‭ ‬من‭ ‬تلقيه‭ ‬المصادفة‭ ‬فى‭ ‬طريق‭ ‬صورة. وهذا‭ ‬ما‭ ‬يجعل‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬الاهمية‭ ‬ما‭ ‬يميزه‭ ‬عن‭ ‬غيره‭ ‬ويطبع‭ ‬فنه‭ ‬بالطابع‭ ‬الخلاق‭ ‬المتجدد‭ ‬الذى‭ ‬لا‭ ‬يمكنا‭ ‬أن‭ ‬نصادفه‭ ‬إلا‭ ‬فى‭ ‬فروع‭ ‬الفن‭ ‬المعروفة‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬كالتصوير‭ ‬الزيتى‭ ‬والنحت‭ ‬والشعر.


والصور‭ ‬المنشورة‭ ‬مع‭ ‬هذا‭ ‬المقال‭ ‬نتناول‭ ‬نواحى‭ ‬مختلفة‭ ‬للتعبير‭ ‬عن‭ ‬الوجه‭ ‬الانسانى،‭ ‬كل‭ ‬منها‭ ‬له‭ ‬قالبه‭ ‬الذى‭ ‬صيغ‭ ‬من‭ ‬نزعات‭ ‬متباينة‭ ‬يفضلها‭ ‬الفنان‭ ‬الذى‭ ‬قام‭  ‬بتصويرها‭ ‬ومع‭ ‬ذلك‭ ‬فأننا‭ ‬نجد‭ ‬فيها‭ ‬كلها‭ ‬نفس‭ ‬الناحية‭ ‬الانسانية‭ ‬لطريق‭ ‬الولوج‭ ‬فى‭ ‬ملامح‭ ‬الوجه‭ ‬ومحاولة‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬أعماق‭ ‬الشخصية‭ ‬التى‭ ‬تسجلها‭ ‬عدسة‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬هؤلاء‭ ‬المصورين‭ ‬والصورة‭ ‬الاولى‭ ‬هى‭ ‬من‭ ‬تسجيل‭ ‬المصورة‭ ‬المعروفة‭ ‬‮«‬مارجريت‮» ‬أخذتها‭ ‬فى‭ ‬مقابلة‭ ‬صحيفة‭ ‬خاصة‭ ‬فى‭ ‬موسكو‭ ‬لمجلة‭ ‬‮«‬لايف‮» ‬الحياة‭ ‬الامريكية‭ ‬وهى‭ ‬دراسة‭ ‬معبرة‭ ‬تماما‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬شخصية‭ ‬العاهل‭ ‬الروسى‭ ‬ستالين‭ ‬والثانية‭ ‬للمصور‭ ‬المصرى‭ ‬احمد‭ ‬خورشيد‭ ‬وفيها‭ ‬نجد‭ ‬تعبيرين‭  ‬مختلفين‭ ‬لنفس‭ ‬الوجه‭ ‬فى‭ ‬آن‭ ‬واحد . بما‭ ‬يساعد‭ ‬على‭ ‬تكوين‭ ‬التحليل‭ ‬الفوتوغرافى‭ ‬الذى‭ ‬ابتغاه‭ ‬المصور . والثالثة‭ ‬من‭ ‬تصوير‭ ‬‮«إيدايل‮» ‬وفيها‭ ‬يكتفى‭ ‬الفنان‭ ‬بجزء‭ ‬صغير‭ ‬من‭ ‬الوجه‭ ‬لكن‭ ‬لليدين‭ ‬الدور‭ ‬الأول‭ ‬لتكوين‭ ‬الوجه‭ ‬الذى‭ ‬اخفاه‭ ‬المصور‭ ‬اخفاء‭ ‬لاشك‭ ‬أنه‭ ‬يساعد‭ ‬فى‭ ‬إظهاره‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬أقوى‭ ‬تعبيراً‭ ‬عما‭ ‬لو‭ ‬أعطانا‭ ‬رياه‭ ‬كاملاً.

لم‭ ‬تعد‭ ‬عدسة‭ ‬التصوير‭ ‬بعد‭ ‬فى ‭ ‬خدمة‭ ‬العين،‭ ‬بل‭ ‬الفكر‭ ‬والقلب... أصبحت‭ ‬الفوتوغرافيا‭ ‬تخاطب‭ ‬القلب‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬الاحساس‭ ‬والشعور،‭ ‬وأصبحت‭ ‬العاطفة‭ ‬هى‭ ‬القصد‭ ‬الذى‭ ‬يرمى‭ ‬الفنان‭ ‬إلى‭ ‬تغذيته‭ ‬ومخاطبته‭ ‬بدلاً‭ ‬من‭ ‬الركون‭ ‬إلى‭ ‬تمثيل‭ ‬الاشكال‭ ‬والأشياء‭ ‬الطبيعية‭ ‬لا‭ ‬لغرض‭ ‬سوى‭ ‬إثبات‭ ‬وجودها‭ ‬والاحتفاظ‭ ‬بهذا‭ ‬الوجود‭ ‬على‭ ‬الورق... ومن‭ ‬الواضح‭ ‬أن‭ ‬الفن‭ ‬لا‭ ‬يمكنه‭ ‬أن‭ ‬يقتصر‭ ‬على‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الاغراض‭ ‬السطحية‭ ‬البسيطة‭ ‬التى‭ ‬تنحصر‭ ‬كل‭ ‬قيمتها‭ ‬لدى‭ ‬بضعة‭ ‬أفراد‭ ‬يعلقون‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الوافته‭ ‬المصورة‭ ‬أهمية‭ ‬شخصية‭ ‬لا‭ ‬تتعدى‭ ‬دائرتهم‭ ‬المحدودة‭ ‬ودائرة‭ ‬معارفهم‭ ‬هم‭ ‬أنفسهم‭ ‬ولا‭ ‬شىء‭ ‬غير‭ ‬هذا‭ ‬أن‭ ‬الفن‭ ‬تعبير‭ ‬عن‭ ‬الإنسانية‭ ‬واليها.
>المجلة الجديدة –15 مارس 1942

رمسيس يونان :معرض التلمسانى
من الناس من يقبل على الحياة وكأنه مقبل على نزهة خلوية لا ينبغى معها غير بشاشة الوجه واسترخاء العضلات وتناسى الهواجس وتعطيل نشاط الذهن وتخدير أنسجة القلب إلى أن ينتهى إلى نومة هادئة لا يقظة بعدها.

ومن الناس من يعيش وكأنه مأجور على تمثيل دوره فهو يتنقل فى ساحة الحياة ويأتى بالحركات ويرسل الأصوات ولكنه لا يفكر فى الدور الذى يمثله بقدر ما يفكر فى الأجر الموعود فى آخر النهار.
 



ومن الناس من ينتحى من الحياة ركناً قصياً كأنه مقعد خلفى مستتر فى قاعة مسرح، تمر عليه صور الحياة تتالى، وهو أبداً فى ركنه يراقب ويتعقب ويسجل، ولا يحرك جسمه إلا لينتقل من قعدة إلى قعدة.

ومن الناس من يدور مع الحياة كالموثوق فى ساقيه وقد يشرد خياله فينطلق فى الوديان أو يسمو إلى السحاب ولكنه دائماً يدور ويدور إلى أن يهلكه الجهد يوماً أو يرسل إلى المجزرة.

وليس التلمسانى واحداً من كل هؤلاء.
ومن المصورين من يفصله عن الحياة حاجز صفيق يمتص كل ما فيها من أشعة خافتة نابضة فلا تنفذ منه غير ثمالة من الدمى بعضها أصفر أو أحمر أو أزرق ومعظمها ناحل اللون لا رائحة له ولا مذاق.

ومن المصورين من يجد فى تقابل قطعة من الخبز وسكين مع كوب من الماء حادثاً طريفاً مدهشاً يستحق النصب وإعمال الذهن لتسجيله وإذاعته.

ومن المصورين من يبتهج ويغبط نفسه إذا اكتشف أن السماء زرقاء والحقول خضراء والورود حمراء والحمير سوداء أو بيضاء أو مختلطة السواد والبياض.




ومن المصورين من يحسن التلطف ومجاملة الأشجار والجدران والطرقات فيخفف من حدة ألوانها ويصقل خطوطها ويكسوها بغلالة تستر أشواكها وقسوتها وأوحالها وليس التلمسانى واحداً من كل هؤلاء.

وقد يكون التلمسانى ممثلاً، لكنه ممثل انغمر فى دوره وتشبعت به دماؤه وشحنت به أعصابه وتمغطس به قلبه وذهنه.

وقد نرى فى صور التلمسانى زرقة السماء وخضرة الحقول وحمرة الورود، لكن للسماء وللحقول وللورود وللحمرة وللخضرة وللزرقة فى صوره معانى غير تلك المعانى التى يراها الخارجون للنزهة مع عيالهم أيام الجمع أو أيام الآحاد.

هذه الوجوه الكليلة المكدودة، وهذه الأجسام الممتلئة لوعة المحاطة بهالة من السواد، وهذه العيون التى مازالت تلمع بشرر التمرد مع شدة الإعياء وهذه الشعور الشريدة بين عواصف الحيرة والقلق والثورة، ثم هذه العواطف المكتوبة السجينة وسط العظام المشدودة والأصابع المتوترة، ثم هذه الألوان التى رغم قيمتها تحتفظ فى أركانها ببريق حاد من الأضواء الدافئة.. هذا ما تقابلنا به، بل هذا ما تفاجئنا به صور التلمسانى.

وقد لا تسعدنا المقابلة، ولكن المفاجأة تصدمنا، فنحس خلال أعصابنا أصداءها تتابع حلقة بعد حلقة حتى تصل إلى قرارة الأحشاء.

أقيم المعرض  «بصالة فريدمان وجولدنبرج - 32 شارع قصر النيل»المجلة الجديدة-  22 فبراير 1942

جورج حنين :ضد الرجعية
يكفى حادث كالآتى لنتبين الموقف الحرج الذى يهدد الثقافة والذكاء فى هذه الساعة، حدث أخيرا فى «نيس» أن بيعت صورة للمرشال فيليب بيتان بمبلغ 270000فرنك.

إن سياسة معينة تحاول اليوم أن تعود بالخرافات والسخافات الماضية إلى ذلها السابق بأن تعمل لإقناع الفنانين بضرورة اتخاذهم موقفا أقل ما يمكن أن يقال بصدده هو أنه: الفن ضد الفن. يريدون أن يقنعوا الفنانين بأنه ما من جديد أمامهم، أن ليست هناك حاجة للقلق وشدة الحساسية، بل على النقيض من ذلك يريدون إقناعهم بأن فى مشاكل ألوانهم فقط كل الكفاية، وهكذا يوحد الأعداء الألداء صفوفهم فجأة لينفقوا على مسائل الألوان ودرجات الطراوة والليونة وعجينة الأصباغ.



إن غالبية الرأى العام لا تغتفر مطلقا للرسام بيكاسو صورته الكبيرة عن الحرب الإسبانية «جرنيكا»لأن الفنان نجح فى إظهار وربما فى تخليد المأساة الإنسانية الحاضرة فى أبشع صورها بمجرد استعماله الألوان البيضاء والسوداء..ولا شئ غير الألوان البيضاء والسوداء.
 
إننا نعيش فى إحدى تلك اللحظات التاريخية الممقوتة التى توحى لكل فرد رغبة شديدة للهروب منها ومع ذلك فإننا نعتقد أن الشىء الجدير بالأهمية هو ليس الهروب منها، بل هو عدم تقتقرنا أمامها بالتجائنا إلى الماضي. لكى نخرج من هذا المأزق بطريق إنسانى لا بد لنا من «حاسة اليأس» أكثر من حاجتنا لثقافة عامة جيدة. 

على الرغم من كل المظاهر المشئومة التى تسود العالم اليوم فإننا مازلنا نعتقد أن بين قوات التحفز والاندفاع التى تجلب الإنسانية نحو الأفق أى نحو المستقبل. بين قوات التحفز والاندفاع هذه يوجد الفنان ورغبته، الفنان وحلمه، الفنان ويأسه.

ليس اليأس بأى حال ما وسطا راكدا حيث يطفو للأبد خيال الضعفاء. فإن اليأس لا ينتظر أبدا. اليأس جارف. اليأس يقتحم الأبواب. اليأس يصدع المدن. اليأس هو العاصفة التى من ورائها تنبثق عوالم الخلاص العظيمة.

إننى أكرر أن مراكز الثقافة فى خطر. لكننا نرى رغم كل ذلك فى لندن الآن رفاقنا الفنانين السرياليست الذين نحيهم من صميمنا: رونالد بنروز، هامفرى جانينجز، إدوار ميزنس، لى ميللر، هنرى مور، أونسلو فورد الذين يستمرون فى التشييد وسط التخريب.

كما أننا نجد فى نيويورك: إيف تانجى، نيكولا كالاس، متا بالن..الذين يتضامنون مع طليعة المفكرين الأمريكان لبذر أنشط البذور فى تلك الأرض الخصبة. توجد فى كل البلاد الحرة نسبيا جماعات فنية تواصل جهادا لا هوادة فيه ضد المحافظة والرجعية بكل أشكالها..وضد الخمد المنظم لجميع الأذهان. إن فى كل هذه الأوضاع والحالات المتعددة ما يجعل لمعرض التلمسانى الأخير مغزاه وقيمته الكاملة. 
جورج حنين- بيان معرض كامل التلمسانى- القاهرة –  فبراير 1941

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة