مريم حسين
مريم حسين


مريم حسين: من يبحث عن الحقيقة فى الرواية يرهق نفسه سدى |حوار

أخبار الأدب

السبت، 16 مارس 2024 - 01:24 م

يقول الكاتبان إليزابيث كوبلر وديفيد كيسلر فى كتابهما عن الأسى والتأسي: «قص حكايتك؛ لأن ذلك يؤكد على أهمية ما فقدت»، يؤكدان أن قص الحكاية يساعد على تخفيف الألم فوجود الشهود يوزع الأسى ويساهم فى التعافي. ولم تجد «ميمي» بطلة «السيرة قبل الأخيرة للبيوت» أحدث أعمال الكاتبة مريم حسين أصدق من الحكاية لاستيعاب ألم الفقد ولترميم عالمها الذى تداعى بمرض والدها ثم رحيله المبكر، نتابع كيف تجمع أجزاءه المتناثرة على مهل وتعيد بناؤه من الذاكرة، عبر سردها لسيرة بيوت تنقلت بينها فى الفيوم وأحياء الجيزة: بولاق وبشتيل والهرم.

فضاءات مكانية اختارتها مريم حسين بوعى لتكشف تحولاتها ولتنقل حكايات شديدة الواقعية من قلب الأحياء الشعبية، حيث التلاصق الذى يلغى الخصوصية ويبنى الألفة ويخلق الترابط، فى مجتمع فريد تلتقط الكاتبة أدق خلجاته لتنسج لوحتها الغنية بالتفاصيل، ولنقرأ فى النهاية سيرة أسرة مصرية من الطبقة الوسطى تسعى لأن تجد لنفسها مكانا فى المدينة القاسية، فى ظل ركود التسعينيات المطبق وتحول الألفية الجديدة العنيف. 
 

اقرأ أيضاً | مسارات وشهادات المكرمين في جائزة الدوحة للكتاب العربي

مريم هى ابنة الكاتب الراحل حسين عبد العليم، ولدت ونشأت فى ظل أسرة تعشق الكتابة والإبداع، درست السينما والموسيقى فتقاطعت أعمالها بين السينما والأدب. صدر لها مجموعتان قصصيتان بعنوان «غزل السحاب»، و «سر السكر». و«السيرة قبل الأخيرة للبيوت» هى أولى أعمالها الروائية، وحولها دار هذا الحوار.

الأب المحام والكاتب سهل دخول «ميمي» لعالم الكتابة، بدأت بطلة روايتك تجرب الكتابة فى عمر مبكر جدا، ربما فى الصف الثالث الابتدائي. ماذا عنك، متى دخلت هذا العالم وما الذى تتذكرينه من تلك الفترة؟ وما الذى تمثله لك الآن؟ 

الكتابة هى صورتى المعكوسة.. أنا الملك وهى الكتابة. كنت فى التاسعة حين تمكنت من صياغة أول نص. كانت قصة قصيرة نموذجية لها بداية ووسط ونهاية وصراع، كانت بعنوان «الكلب صديق الإنسان». قبلها جربت كتابة الشعر وكان غريبا. فلأننى أريد أن أتحدث وأحكى طويلا وبشكل مفصل كان الشعر يتحول رغما عنى لنص سردي، إلى أن أدركت كيف أصيغ ما أود أن أحكيه. أتذكر الكثير من الأحداث والتفاصيل والأشخاص، تلك الأحداث والشخصيات ظلت تلازمني، معلقة فوق رأسي، تظهر وتختفى طيلة ثلاثين عاما إلى أن خرج معظمها بشكل أو بآخر فى «السيرة قبل الأخيرة للبيوت».
 



متى بدأت كتابة الرواية ومتى انتهت ورأيت أنها جاهزة للنشر؟ 
بدأت الكتابة فى نهاية ٢٠١٩. توقفت بشكل متقطع عدة أشهر، وعدت، وانقطعت، ثم بعد انتهاء النص أخذ تنقيحه وتحريره حوالى عام. أخذت وقتى كاملا فى استشعار ما لزم تغييره سواء بالحذف أو بالإضافة. أحيانا كنت أمل وينفد صبري، كدت أكثر من مرة أن أقول يكفى هذا، علاقتى بهذا النص لابد أن تنتهي، لكن يلحقنى بعض الأصدقاء الذين أعلم بشكل متوار أنهم على حق. لذا يمكن القول إننى انتهيت منها تماما فى يوليو ٢٠٢٣.

على ذكر الأصدقاء.. من أول من يقرأ مسودات أعمالك؟ وكيف تتقبلين التعديلات أو جهات النظر؟  
كان حسين عبد العليم أول من يقرأ.. لكنه بعيد الآن. ومع ذلك وارد أنه قرأ! 
كان أبي، وحاليا بعض الأصدقاء المقربين الذين يقرأون دون الحكم على العمل من خلال أسلوبهم هم بل من خلال ما هو مطروح أمامهم، وهذا مهم وفارق. أتقبل وجهات النظر بروية ودون جزع، أفكر كثيرا وفى النهاية القرار لي، وأتحمل مسؤوليته.
 



لماذا اخترت هذا العنوان؟
كنت عائدة من عملى فى أحد الأيام وكان طريق ميدان الرماية مغلقا. تنقل «الباص» فى شوارع جانبية فى حى الهرم. سرحت وأنا أفكر فى اسم للرواية التى بدأتها وتحكى عن البيوت.. فجأة وجدتنى أمام فيلا قديمة كُتب على لافتتها الزقاء «بيت مريم». ولفترة طويلة ظل ذلك اسم الرواية. لكنى لم أكن أريد أن تكون باسمى فهى ليست سيرة ذاتية، لكنها سيرة للبيوت وما حوته من بشر. فكرت كثيرا إلى أن استقريت على ذلك الاسم فى النهاية.

لكن لن يحتاج القارئ لوقت طويل حتى يدرك أن أجزاء كبيرة منها حقيقية وأنك تكتبين بالفعل قصتك أو سيرتك أو على الأقل جانبا كبيرا منها. ألم يقلقك ذلك، وكيف تجاوزت القلق إن كان قد حدث؟
أنا أكتب حكايات عن أشخاص عديدين عاشوا فى أزمنة مختلفة. كل زمن له معطياته وطبقته الاجتماعية. القارئ يقرأ الكتاب ليستمتع به أو لسوء الحظ لا يحبه. لكن أن يشغل باله بالمكتوب إذا كان حقيقيا أم لا وينساق وراء فضوله هنا سوف يرهق نفسه سدى، لأنه لن يصل لإجابة. فليس معنى أننى كتبت «رأيت فى حديقة جسم ضخم ذو أوراق خضراء» أننى أتحدث بالضرورة عن شجرة. التأويل وارد واستخدام الخيال لعبة مثيرة، وتداخل الخيال مع الواقع والتفاصيل المتباينة لعبة لها عشرات الاحتمالات.

الرواية هنا عن سيرة البيوت، بما حوته، والمكان هو البطل. ومهما تعددت شخصيات العمل الأدبى واختلفت عن واقع الكاتب هو بشكل أو بآخر موجود فى نصوصه. تلك علاقة معقدة لا تثير قلق الكاتب قدر ما تثير فضول القارئ.


صحيح أن الرواية بصوتك/أو بصوت بطلتها لكنها تبدو أحيانا كما لو كانت استكمالا لرحلة الوالد أو ربما وفاء لدين. فهى ليست فقط محاولة لاستحضار الأب الغائب بل حتى استعادة أسلوبه أو الاقتراب منه ومن عالمه. إلى أى حد تصح هذه القراءة؟ وهل سيستمر هذا الأسلوب فى أعمالك القادمة؟

الرواية بصوت بطلتها بضمير الأنا.
أبى هو الأديب الكبير حسين عبد العليم. لحسن حظي. عشت معه أربعة وثلاثين عاما من عمري. لم ننفصل أبدا. لذا استمتعت بجمال شخصه الحميم الطيب وأتمنى أن أكون حميمة وطيبة وابتسامتى ناصعة مثله. لكن.. لا يوجد مبدع يستكمل رحلة آخر حتى لو كان والده. ووفاء دينه لا يحل بالكتابة على الإطلاق، وفاء دينه يحل بأن نلتقى بالفعل.

وأنا هنا ككاتبة لا أستطيع ولا يصح أن أستعيد أو أقترب من أسلوب حسين عبد العليم أو أى كاتب آخر أحببته. إذا لم يكن للكاتب أسلوبه وبصمته الخاصة فهو مزيف، وسيتهاوى سريعا. وفى النهاية المبدع نتاج تجربته الحياتية والثقافية والعاطفية ونتاج قراءاته وتدرج تجربته الإبداعية وخبرته بها وتأثره بالعديد من التجارب الأخرى، وتأثره هنا لا يلغى خصوصية وتفرد تجربته. وعموما أتمنى أن أصل لربع حرفية حسين عبد العليم «إحنا نطول!».

تقطيع المشاهد واللعب بالزمن هل كان استخدامك لهذه التقنيات نتيجة دراسة السينما؟ إلى أى حد استفدت من السينما على أى حال؟ وفى أيهما تجدين حريتك بشكل أكبر السينما أم الأدب؟
دارستى فى معهد للسينما تحديدا السيناريو مؤكد جعلتنى أنظر للأدب بشكل مختلف. جعلتنى أكتب صورة أدبية بشكل أكثر دقة ووضوحا، أكثر جرأة فى التعامل مع الزمن وقفزاته غير المتسلسلة. كما أننى تلاعبت بالمونتاج بسلاسة، ونوعت تقطيع مشاهدى لخلق إيقاع يساعدنى فى قول ما أود حكيه.

لكن دعنى أقول لك إننى أجد فى الأدب حرية أكبر. العمل الأدبى عمل فردى من الألف للياء، لكن السينما عمل جماعي، لابد أن يتمتع فيه السيناريست بالمرونة لأنه يوجد مخرج ومصور ومونتير سوف يسعون كل برؤيته لخروج السيناريو للشاشة.

كما أننى درست قبل السينما فى كلية تربية نوعية قسم تربية موسيقية. وتلك الدارسة أفادتنى بشكل كبير جدا، تعرفت على جانب له أثره الإنسانى على كل شعوب الدنيا. سمعته جيدا وتعلمت كيف أقرأ لغته واتحكم فى إيقاعه وبالتالى فهمت كيف أتحكم فى إيقاع حكايتى وجملتى الأدبية. وفرق معى جدا دراسة عروض الموسيقى وعروض الشعر. الموسيقى جعلت إحساسى بالإيقاع يختلف، تحديدا أصبح «إحساس مصحصح». 

رغم تعدد الشخصيات وكثرتها إلا أنها لم تشتت القراءة، بل ربما على العكس زادت من حميمية الرواية وأصبحت أكثر شبها بعوالمها القريبة والمتداخلة.

هى لم تشتت القارئ لكن كادت تودى بى إلى الجنون. مئات الأوراق التى أتابع فيها «راكور» كل شخصية وعلاقتها ببيتها وإذا كانت مشتركة بين أكثر من بيت. وعدة مرات أكتب مشاهد لشخصية أو موقف أجدنى فى المراجعات قد استخدمت الموقف لنفس الشخصية فى بيت آخر، فأفاضل بين أهمية الموقفين وأحذف منهما. فكثرة الشخصيات فى الرواية وكل شخصية بحكايتها تعطنى ونس وتعدد حميم. أنا أحب كل الشخصيات فى روايتي، حتى لو اختلفت معها، كل ما حدث أننى حكيت كل حكاية ولم أحكم عليها أو أحاسبها.

وفى القراءة الأخيرة قبل التسليم الأخير لدار النشر كنت أتصور أننى سوف أتخلص من هذا الحمل وينتهى الأمر لكنى فوجئت مع أول فصل أننى أفارق فراق حقيقى ومؤلم. ولم أكن قد شعرت بذلك من قبل فى كتابة القصة القصيرة، فهذا أول عمل روائى لي، وأثر الشخصيات المتعددة كان جميل وجارح.

رغم ذلك فصالح مثلا قصة جانبية مبتورة وغير واضحة إلى حد ما. اختفاؤه المتزامن مع رحيل الأب ربما يقرأ باعتباره فشلا فى أن يحل كبديل. بل ربما كانت فكرة البيوت نفسها كذلك أيضا.. بحث عن أمان مفتقد. كيف ترين مسألة التأويل وأنت كاتبة النص؟ 
العلاقة بصالح أساسية فى النص. لكن العلاقة نفسها بها الكثير من التعرجات والعراقيل والتردد، والأمنيات، والخذلان، والفشل. وتلك سمة لمعظم العلاقات فى الرواية، حتى لو كان الموت سبب انتهاء بعضها. وأعتقد أن اختفاء صالح مع رحيل الأب صدفة تجعل البطلة تصدق بأن تغيير البيت هو السبب وليس الموت أو الخذلان. الخذلان عصف بمعظم قصص الحب فى تلك الرواية، ميمى وصالح، جينا ودكتور مجدي، انجريد ومحمد، يوسف وسارة، الأب والأم، ميمى وحميد .

أما عن معنى البيت بالنسبة للبطلة فهو أمر شغلها طوال الرواية منذ طفولتها لحين تركها مرغمة للبيت الذى كانت فيه. لكنها فى الفصل الأخير تصل لإجابة عملية وحازمة، إجابة هى نتاج فقد البيوت واحد تلو الآخر.

مجموعة «حتى فساتيني» التى شاركت بها، هى نتاج «ورشة الكتابة والموضة» التى نظمها بيت التلمسانى بالتعاون مع دار المرايا. البعض يعارض فكرة الورش على اعتبار أن الكتابة موهبة لا يمكن تعلمها.. كيف كانت تجربتك وكيف ترين المسألة؟ 
أنا من أوائل المعارضين لفكرة الورش!
الإنسان يتعلم الكتابة بالقراءة والخبرة الحياتية والمناقشة وتبادل الآراء ووجهات النظر. توجد مراحل متدرجة إن لم يكتشفها الكاتب فى دواخله وحده وبدون مساعدة أو توجيه أو حتى مجرد إنارة طريق من آخر مهما كان كاتبا ذو خبرة.. أقول إن لم يكتشف الكاتب تلك المراحل بنفسه ووحده فإنه إبداعيا سينقصه الكثير والكثير، مهما كتب.

أنا جربت ورشة الكتابة والموضة طمعا أولا فى زيارة بيت التلمسانى الجميل للغاية -وهنا علاقة متواصلة مع البيوت- ثانيا أثارت تفكيرى الكتابة الإبداعية عن الموضة.

لمن تقرأين؟ ما الذى يعجبك؟
اقرأ لكثيرين.. أحمد الفخراني، حسن عبد الموجود، محمد عبد الجواد، آيه طنطاوي، أميمة صبحي، هبة الله أحمد،نهى محمود، هالة صلاح ، ياسر عبد اللطيف ، أحمد أبو الحسن، إبراهيم فرغلى. أعود كل فترة ليوسف أبو رية ويحيى الطاهر و مالك حداد .. وحسين عبد العليم وآخرين. الساحة غنية بكتابات حقيقية وذكية نتوقف عندها لنرمم عقولنا وأرواحنا. يعجبنى أنه بصفتى كاتبة أعرف معظم الكتاب الذين أقرأ لهم، لذا أوقن أن هذه الكتابة قوية ومشبعة فنيا، لكن كقارئة أنسى تماما مع أول سطور فى العمل المؤلف الذى أعرفه لأندمج فى العمل بشخصياته وأحداثه، على عكس كتب أخرى يظل مؤلفيها يحدقون بى من سطورهم، لأعلم أنها كتابة ينقصها الكثير.
 
إلى أى حد أنت راضية عن الرواية الآن. وكيف تنظرين لأعمالك بعد نشرها؟
كنت راضية لحين أمسكت أول نسخة مطبوعة فى يدي. فككت الغلاف البلاستيكي، فررت الصفحات بعشوائية لأتوقف عند جمل أو مفردات تشعرنى بغصة.. تبدد الرضى بالطبع. لأبحث عنه فى عمل آخر.

ما الجديد لديك؟
الجديد أننى أهدأ تماما.. أهدأ وأنفصل عن صخب إصدار الرواية لأعود لعوالمى الحميمة لنفكر معا عن ماذا ومن سنحكى فى المرة القادمة، أو لعلنى اكتشف عوالم جديدة. 

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة