صورة أرشيفية
صورة أرشيفية


حكايات| أصحاب الفضيلة والاحترام «2».. ابن عبد السلام «عز الرجال» الذي أذل المماليك

آخر ساعة

الأربعاء، 20 مارس 2024 - 11:50 م

■ كتب: حسن حافظ

مرت على المسلمين منعطفات خطيرة على مدار قرون عديدة، كتب لهم فيها النجاة بفضل مجموعة من الأشخاص الذين ثبتوا في وجه العاصفة حتى انجلت، فحققوا فضيلة الثبات على الموقف رغم المغريات، فنالوا احترام الخصوم قبل المؤيدين بسبب هذه المواقف التى كانوا خلالها مشاعل نور وسط الظلام، وبفضلهم عرف المسلمون طريقهم السوى ومضوا قدما بلا عوج، فكانوا أصحاب الفضيلة والاحترام، وفى هذه السلسلة نتذكر عددا منهم، خلال أيام شهر رمضان المعظم، نستعيد ذكراهم العطرة، ونكشف عن مواقف غاية فى النبل والتضحية حتى ولو كانت أمام السلطان.

هناك شخصيات يتوقف عندها التاريخ، تحظى باحترام الجميع وتقدير المعاصرين، تصنع الحدث بتمسكها بمواقفها وعدم رضوخها للمغريات بغض النظر عن حجمها، ويزخر تاريخ المسلمين بالعديد من هؤلاء الفقهاء الذين وقفوا وصدعوا بالحق فى وجه السلطان، ورفضوا أن ينحنوا أمام العاصفة، وإذا حاولنا أن نستدعى شخصية تعبر عن هذه القيم سيأتى على الخاطر فورا شخص شيخ الإسلام عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام، المعروف اختصارا بالعزّ بن عبد السلام، والملقب بسلطان العلماء.

◄ واجه ألاعيب متشددي الحنابلة بحزم فدخل في صدام مع الأشرف الأيوبي

◄ أصدر فتوى بتحريم بيع السلاح للصليبيين بسبب تحالف حاكم مسلم معهم

◄ العزّ  غادر دمشق إلى القاهرة بحثا عن حرية التعبير عن أفكاره دون تدخل أو مصادرة

◄ واجه المماليك بحقيقة أصلهم وقرر بيعهم بالسوق ورد أيديهم عن ظلم الرعية

◄ السلطان بيبرس تنفس الصعداء بعد وفاة العزّ وقال: بدأ حكملي الفعلي

عاصر ابن عبد السلام (577- 660 هجريا/ 1181- 1262 ميلاديا) فترة شديدة الصعوبة والتقلبات فى مجتمع المسلمين، فقد ولد فى دمشق فى قلب حروب صلاح الدين الأيوبى ضد المشروع الصليبي، وعاش العزّ  طفولته وشبابه على سماع أنباء حروب السلطان الأيوبي وانتصاراته، ثم شاهد انقسام البيت الأيوبى بعد وفاة صلاح الدين، وكيف ضاعت فرصة القضاء على الخطر الصليبى مبكرا، ثم أدرك فى كهولته بداية الخطر المغولى الذى عصف ببلدان الشرق الإسلامى، وتمدد حتى وصل إلى الشام وهدد مصر.

◄ البدايات
في خضم هذه الأحداث الجسام عاش ابن عبدالسلام سنوات عمره، فنشأ منخرطا فى الحياة العامة ومتابعا لأمور السياسة، وكيف لا والزمن من حوله زمن حرب على الإسلام، فمجتمعات المسلمين مهددة وضرورة وجود حاكم قوى يحمى بيضة الإسلام ليست رفاهية، لذا ركز العزّ  على الجوانب الأكثر تفاعلا فى حياة المسلمين، ورغب دوما فى توحيد صفوف المجتمع فى مواجهة الأخطار التى تواجهه، ورغم أنه شافعى فى الفروع وأشعرى فى الأصول إلا أنه لم يرغب فى أن يجعل من المذهبية سلاحا للفرقة، بل عمل على توحيد الصف دوما، والتنبيه على حكام عصره بضرورة نبذ الخلاف على متاع الدنيا وتوحيد الصفوف والجيوش فى مواجهة عدوهم وعدو الإسلام.

ودخل العزّ  العلم فى سن متأخرة، لكنه نبغ فيه سريعا، فكان «أعلم أهل زمانه ومن أعبد خلق الله تعالى» بحسب شهادة معاصريه، وأصبح محج طلبة العلم، وأصبح ممن ينظر إلى أنه حصل رتبة الاجتهاد، فهذا ابن العماد الحنبلى يقول فى كتابه (شذرات الذهب فى أخبار من ذهب) عن ابن عبد السلام: «وبركاته فى الفقه والأصول والعربية، وفاق الأقران والأضراب، وجمع بين فنون العلم من التفسير والحديث والفقه واختلاف أقوال الناس ومآخذهم، وبلغ رتبة الاجتهاد».

◄ اقرأ أيضًا | أحمد مدحت سليم: «قاهرة المماليك» يتناول الأثر والظل الممدود

◄ أولى المعارك
لم تمر إقامة العزّ في دمشق بهدوء، إذ عكر صفو أيامه الصراع بين الحنابلة والأشاعرة فى الشام تحت الحكم الأيوبى. فمع زيادة الهجوم اللفظى من متشددى الحنابلة على علماء الأشاعرة، أصبحت العلاقات على درجة كبيرة من التوتر حتى أن فخر الدين بن عساكر «كان لا يمر بالمكان الذى فيه الحنابلة ورعا، لئلا يأثموا بالوقيعة فيه، إذ هو من كبار الأشاعرة الشافعية»، بحسب ما ينقل لنا تاج الدين السبكى فى كتابه (طبقات الشافعية الكبرى).

وقد وصلت الأمور إلى ذروتها بمحاولة الحنابلة فى دمشق الاستقواء بالملك الأشرف موسى الأيوبى ضد العزّ  بن عبد السلام، لأن الأشرف كان يميل لمقولة الحنابلة فى كلام الله، ورغم معرفة العزّ  بموقف حاكم دمشق، إلا أنه أصر على ما يعتقد وكتب صيغة اعتقاد تعبر عن أفكار أشعرية عرفت باسم (الملحة فى اعتقاد أهل الحق)، والتى حظيت بانتشار هائل، الأمر الذى أدى إلى تكاتف الأشاعرة من الشافعية والمالكية والحنفية ضد الحنابلة، لكن الملك الأشرف موسى قرر معاقبة الفقيه الورع الذى لا يعرف فى الله إلا قول الحق، وأعلن ترك العزّ  فى منزله تحت الإقامة الجبرية ولا يجتمع بأحد ولا يفتى.

لكن الأمر لم يستمر طويلا إذ أدى انحياز فقهاء المذاهب الحنفية والمالكية فضلا عن الشافعية خلف العزّ ـ ثم تدخل السلطان الكامل محمد الأيوبى حاكم مصر ـ إلى انقلاب الكفة لصالح ابن عبد السلام وحزبه، إذ زار الكامل محمد - وهو رأس البيت الأيوبى فى زمنه - دمشق، وعنف أخاه الأشرف موسى، واجتمع بالعزّ بن عبد السلام، وطالبه بالانتقال إلى مصر، لكن العزّ  فضل البقاء فى دمشق خلال هذه الفترة، خصوصا أن الأشرف موسى تقرب منه وأخذ بفتاواه.

◄ خطيئة «الصالح»
بعد وفاة الأشرف موسى تولى أخوه الصالح إسماعيل حكم دمشق، والذى دخل فى صراع مع ابن أخيه الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل محمد، سلطان مصر، وهنا وقع الصالح إسماعيل فى خطيئة التحالف مع الصليبيين ضد ابن أخيه الحاكم المسلم، وهو الأمر الذى أثار استياء ابن عبد السلام، الذى رأى فى الأمر خيانة للإسلام والمسلمين.

لم يتردد العزّ  فى إصدار فتوى شديدة اللهجة، ردا على سؤال بمبايعة السلاح للصليبيين، فقال: «يحرم عليكم مبايعتهم، لأنكم تتحققون أنهم يشترونه ليقاتلوا به إخوانكم المسلمين». كان من الممكن أن يكتفى الفقيه الشافعى بهذه الفتوى التى بين فيها حكم الدين دون أن يصطدم مباشرة مع الحاكم الأيوبى،  لكنه لم يكن يعرف المداهنة، فصعد منبر الجامع الأموى بدمشق، وخطب فى الناس خطبة شديدة العنف ذم فيها موالاة الأعداء، وقبّح خيانة المسلمين، ورفض الدعاء للملك الصالح إسماعيل حاكم دمشق، فرد الأخير بعزل العزّ  من مناصبه واعتقاله هو والفقيه المالكى ابن الحاجب، لمشاركته فى الإنكار على الحاكم، وبعد أن خرج من السجن قرر العزّ  مغادرة دمشق والتوجه إلى القاهرة.

◄ ذروة المجد
فى القاهرة وقعت لابن عبد السلام أعظم المواقف والتحديات التى قد يتعرض لها فقيه، وفى هذه المدينة كتب الفصل الأعظم فى تاريخه، الذى حصل من خلاله على الخلود فى ذاكرة الجميع حكاما ومحكومين، وحصل بإجماع الفقهاء على لقبه الفخرى (سلطان العلماء) ولقبه الآخر الشهير (بائع الأمراء)، ففى مصر حظى ابتداء برعاية الصالح نجم الدين أيوب، الذى ولاه المناصب وترك له باب الفتوى مفتوحا، لكن الصالح نجم الدين أيوب لم يدرك أن العزّ  من نوعية خاصة من الرجال لا تشترى بالمناصب أو بالمال.

لما تولى العزّ  منصب قاضى القضاة، اكتشف أن المماليك الذين اشتراهم السلطان الصالح أيوب، لم يحصلوا على حريتهم بل إنهم لا يزالون عبيدا يسرى عليهم حكم الرق، وأنهم جميعا عبيد بيت المال، ولا يصح لهم ولاية ولا تصرف فى بيع أو شراء أو عقد نكاح، وحاول الأمراء التفاوض معه لكنه أصر على بيعهم لصالح بيت مال المسلمين، وقال لهم صراحة: «نعقد لكم مجلسًا، وينادى عليكم لبيت مال المسلمين، ويحصل عتقكم بطريق شرعى». ولما لم ير العزّ  تأييد السلطان لموقفه، قرر عزل نفسه ومغادرة مصر، فاجتمع أهالى القاهرة حوله فى مظاهرة حب، هنا اضطر السلطان الأيوبى إلى الخروج بنفسه واللحاق بالعزّ  وطيب خاطره، ووافق على طلب العزّ  بأن يتم بيع الأمراء بالمناداة عليهم، وبالفعل وقف ابن عبد السلام يبيع أمراء الدولة وينادى عليهم واحدا إثر آخر، ويغالى فى سعر البيع، والسلطان الصالح أيوب يشترى الأمراء واحدا تلو الآخر، ثم يعتق رقابهم ليجعلهم أحرارا، ويعلق التاج السبكى على الواقعة قائلا: «وهذا لم يُسمع بمثله عن أحد».

لم يتوقف ابن عبد السلام عند حد جهاد القول، بل نراه يشارك فى حروب المسلمين ضد الصليبيين أثناء غزوهم لدمياط، ثم يشارك فى الحروب ضد المغول الذين احتلوا معظم الشام وتقدموا صوب مصر، فأصدر العزّ  فتواه بضرورة توحيد الجبهة بتعيين حاكم قوى يقود الجيش، وهو ما تم بتولى المظفر قطز سلطنة مصر، كما اشترط العزّ  على الحاكم الجديد عدم فرض ضرائب على العامة لتجهيز الجيش لحرب المغول إلا بعد أن يتبرع السلطان والأمراء بأموالهم وكل ما يمتلكون من مال ومتاع لتجهيز الجيش، وهو ما استجاب له الجميع.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة