خزعل الماجدى
خزعل الماجدى


خزعل الماجدي: الأديان ستبقى زمنًا طويلاً لأنها تُشعِر الإنسان بالأمان| حوار

أخبار الأدب

السبت، 23 مارس 2024 - 01:40 م

عباس ثائر

ليس من اليسير أن تُجرى حواراً معه، فلا يمكن للمحاور أن يحيط بكل مؤلفاته، وتشعباتها، فهو شاعر ومفكر وفيلسوف ومؤرخ وباحث متخصص فى علم وتاريخ الأديان والحضارات القديم. ولد فى كركوك عام 1951، ثم أخذه شغفُ التحديث، فسعى جاهداً لخلق نماذج حديثة من الشعر، ليتصدر بعد ذلك جيله، جيل السبعينيات. حصل على شهادة الدكتوراه فى التاريخ القديم 1996 وعلى الدكتوراه فى فلسفة الأديان 2009. غاصت كتبُه فى المعتقدات والأساطير والحضارات القديمة والميثولوجيا. كتب فى المسرح وتفوق فيه. إنه الشاعر والباحث والكاتب المسرحى خزعل الماجدى.

عندما قررتُ أن أعد حوارًا معك، قلتُ لنفسى، هل أجعله حواراً مع شاعر، أو كاتب مسرحى أم مع مفكر وباحث، أم مع كل ما تقدم من صفات، أخيرًا، بعد الحيرة، صار لزامًا علىَّ أن أسألك: أنت ابن أية صفة؟

 كلها. لأنها ساهمت فى تكوينى وساهمتُ بتنفيذها سنوات طوال، ظهرت متدرجةً بسبب طبيعة العمر والظروف، فقد تهيأت لى فرصة أن أكون شاعراً فى سبعينيات القرن الماضى مع نخبةٍ طيبة من أبناء جيلى وخضنا صراعاً طويلا لما يقرب من عقدين من أجل بلورة وتثبيت أصواتنا الشعرية الجديدة ونجحنا فى ذلك، ومع بداية عقد التسعينيات خضتُ وحدى تجربة الكتابة للمسرح ولم يكن الأمر سهلاً فى بلدٍ ذى تاريخ طويل فى المسرح، كتابة وإخراجاً ونقداً، وقبل أن ينتهى العقد كانت قد ظهرت ما يقرب من 15 مسرحية على المسارح العراقية وحظيت باهتمام وجوائز وحضورٍ نوعى.

وفى منتصف التسعينيات أيضاً أكملتُ دراستى للدكتوراة فى التاريخ القديم وبدأت بالتأليف فى حقول الأديان والأساطير القديمة وأصدرت سلسلة فى تاريخ الأديان مكونة من 8 كتبٍ، وما يقرب من 10 كتبٍ فى الأساطير.

اقرأ أيضاً | مريم حسين: من يبحث عن الحقيقة فى الرواية يرهق نفسه سدى |حوار

ومع بداية العقد الثانى من القرن الحالى بدأت بكتابة منظمة وواسعة فى تاريخ الحضارات وقد صدر منها 10 كتبٍ، وأعزز معها كتاباتى فى الشعر والمسرح والأديان والأساطير.

وهكذا ترى أن الحقول التى خضت فيها جاءت بعد مخاضٍ طويل وأصبحت كلها جزءاً من تكوينى الثقافى والفكرى والروحى والنفسى، وليس أمامى إلا طريق التواصل فيها وإكمال مشاريعها. هذا التركيب لا يجوز أن يغيب منه أى لون فقد أصبح الأمر محسوماً. 



هل ثمة رابطة بين فعلك كشاعر وبين دورك كباحث؟ وهل ثمة اختلاف بين متعة الكتابة شعرًا وبين متعتها بحثًا وتنقيباً؟ 
لا شك، هناك رابط قوى جداً، لأن ثروة المعرفة بحضارات وأديان وأساطير العالم تنعكس وتتسرب إلى الشعر والمسرح فى عملى الإبداعى، وهذا يحصل، قبل كل شىء، فى اللاوعى، وهناك أيضاً التأثير الواعى الذى يحمله الاطلاع الواسع على ثقافات الشعوب، شخصياً بالنسبة لى كانت هذه الثقافات تصب فى شعرى وتُثريه وتخصبه، وقد ظهر تأثيرها بوضوح، لكن الأمر حصل عفوياً وتركته ينساب بسلاسة فى شعرى ولم أقصده.. ربما أعظم فائدة فى هذا المجال كانت فى التنوع الذى وفرته ثقافتى باتجاه الشعر، أصبحت أمتلك ألواناً شعرية متنوعة وكثيرة بسبب ثراء اطلاعى وعملى فى تلك الحقول الفكرية والروحية.

يرى أحد الباحثين أن وجود اللغة السومرية فى ميزوبوتاميا ليست دليلًا كافيًا على وجود السومريين، وهذا يشبه ما ذهب إليه طه حسين بأن ما يُنقل من شعر سابقٍ للإسلام ليس دليلًا على وجود الشعر الجاهلى، كيف ترى الرأيين؟

الأمران مختلفان، فالدكتور نائل حنون انتحل فكرة عدم وجود السومريين من المستشرق الفرنسى اليهودى الصهيونى (جوزيف هاليفى 1827 – 1917 ) الذى كانت فرضيته مبنية على أسس دينية وعرقية لأنه خاف أن يكون هناك شعب سومرى هو الذى أسس حضارات وادى الرافدين وكان يرى أن الساميين فيه وهم (الأكديون والبابليون والآشوريون والآراميون) هم من أسس حضارات الرافدين (بسبب عنصريته السامية اليهودية)، ولذلك قال إنه توجد لغة سومرية ولا يوجد شعب سومرى، وقال إنه توجد كتابة سومرية ولا يوجد شعب سومرى، وهذه الكتابة اخترعها الأكديون لأغراضٍ دينية، فسخر منه العلماء فى ذلك الوقت، وقام، بعدها، العالم (يوليوس أولبرت) بترجمة عشرات النصوص السومرية وآلاف الأثار السومرية التى دعمتها الحفريات الآثارية فى مواقع ومدن سومرية معروفة.



اقترح هاليفى سنة 1861 إنشاء جمعية باسم «مرپاى لاشون» لرفع شأن اللغة العبرية وتحديثها، وهو ما حققته إسرائيل فيما بعد باسم «أكاديمية اللغة العبرية».

د. نائل حنون أعاد بعث هذه الفرضية بحججٍ واهية، بل إنه لم يكتب إلا مقالاً واحداً وضعه كفصلٍ بـ29 صفحة فقط فى كتابه (حقيقة السومريين) ولم يواصل البحث العلمى المفصل فى هذا الأمر. إذا كانت اللغة السومرية قد ابتُكرت من قبل رجال دين أكديين أو بابليين كما يرى هاليفى وحنون، فلماذا تظهر لها لهجات متعددة؟ هل يعقل أن تنتج لغة قاموسية رمزية لهجات لوحدها؟ أليس هذا دليلاً على أنها قد استُعملت من قبل الناس وكتبوها على ضوء لهجاتهم المختلفة؟! ولماذا لها تأريخ متطور بحوالى سبع مراحل (تبدأ بـ3000 ق.م وتنتهى فى حدود 1500 ق.م) كما يذكرها الدكتور فوزى رشيد؟ لماذا تتطور وتتغير وهى موضوعة كلغة سرية لرجال الدين؟ وهناك أمور كثيرة يمكن أن تثار حول هذه الفرضية الفاشلة.

يتفق اليوم كل علماء الآثار على وجود سومر وشعبها السومرى الذى أنجز تأسيس أول حضارة فى التاريخ ولها آثارها وملوكها ومدنها ونصوصها المتفردة، وقد نشأ عن ذلك خلال ما يقرب من قرن ونصف علم خاص اسمه سومريولوجى (علم الدراسات السومرية) ولا توجد فيه فرضية تشكك بوجود سومر وشعبها، هذه الفرضية ماتت منذ قرن ونصف فى بداية اكتشاف سومر وماتت مع صاحبها جوزيف هاليفى، فلماذا انتحلها وأعادها للحياة الدكتور نائل حنون؟ لقد أنكر أول وأهم حضارات البشر (أقصد الحضارة السومرية) لكنه ناشط فى البحث عن حضارات مدن منسية ولا أهمية لها! هذه مفارقة محيرة فعلاً.

موضوع طه حسين وفرضيته عن الشعر الجاهلى مأخوذة هى الأخرى عن أستاذه المستشرق الإيطالى «كارلو ألفونسو ناللينو»، وكانت أفكار ناللينو هى المادة الخام التى نسج منها طه حسين فيما بعد نظريته المثيرة للجدل حول زيف أو انتحال أغلب ما وصلنا من الشعر الجاهلى. وموضوعها أن الشعر الجاهلى كُتب فى العصر العباسى بشكل خاص. فهى تختلف عن نظرية هاليفى.

مؤخراً صدر كتابٌ يتحدث عن إشارت مثلية تضمنتها ملحمة جلجامش، لا سيما فى علاقة جلجامش مع أنكيدو، وقد استدل الكاتب ناجح المعمورى ببعض المقاطع من الملحة الشهيرة، هل يدحض د. خزعل الماجدى هذا الرأى أم يؤيده؟ 
 لا يمكن لإشارات تأويلية سريعة لبعض الجمل الواردة فى الملحمة أن تكون دليلاً على أمر كهذا، التأويل لعبة افتراضية أكثر مما هى وقائع وحقائق. ثم إننا حين نبحث عن حقائق تاريخية يجب أن نفتش فى الآثار عنها وفى النصوص التاريخية، وليس فى عمل فنى كالملحمة أو الشعر، ليس هناك أية أدلة تاريخية أو مكتوبة تشير للموضوع، خصوصاً أن شخصية (إنكيدو) غير تاريخية ولا نعرف عنها أى شىء، إنه أحد أبطال ملحمة فنية ولا نعثر عليه فى الواقع، عكس جلجامش الذى نعرف أنه شخصية تاريخية معروفة حكمت فى أسرة أوروك الأولى فى حدود 2750 ق.م ولكننا لا نعرف عن أفعاله الحقيقية أى شىء، ولا يمكن اعتبار الملحمة مصدراً تاريخياً لهذه الأفعال. كثيرون يتحدثون عن أفعال الملحمة باعتبارها حقائق حصلت وينسون أنها عمل فنى مكتوب بصيغة الملحمة، وقد تلجأ لأساطير وأخيلة وشخصيات لا وجود لها من أجل تعزيز حبكة الملحمة وليس باعتبارها تاريخاً واقعاً. 



ما الذى يرمز إليه الرقم 7 فى الحضارات القديمة؟ 
 الأساطير هى التى جعلت من الرقم 7 مقدساً، وأصبح كذلك فى أغلب الأديان القديمة، ثم الأديان التوحيدية، وأعتقد أن الأمر بدأ مع الفرضية القديمة الخاطئة حول الكواكب السبعة، والكواكب عددها ثمانية بعد حذف الشمس باعتبارها نجماً عملاقاً وليس كوكباً وحذف القمر باعتباره تابعاً يدور حول الأرض، والكواكب حسب بعدها عن الشمس يبدأ بالكواكب الأربعة الصخرية عطارد والزهرة والأرض والمريخ، ثم الكواكب الغازية العملاقة المشترى وزحل وأورانوس ونبتون، أى أن القدماء لم يعرفوا أورانوس ونبتون، واعتبروا الشمس والقمر من الكواكب وهذا خطأ كبير، كذلك اعتبر القدماء كواكبهم هذه تدور حول الأرض وقالوا إنها سبعة، الأمر الذى أدى إلى تصور أن هناك سبع طبقات للسماء كل طبقة يدور فيها كوكب! وهو أمر خاطئ، ثم ترتب على ذلك أن مقابلها على الأرض سبع طبقات أرضية، وهو أمر لا وجود له. وصار الأسبوع عدد أيامه سبعة.. وأمور كثيرة لا حصر لها. مضى الأمر تحيط به هالة مقدسة وأصبحت كل الأمور سبعة لإضفاء البركة والتقديس عليها، وسرعان ما ظهرت أمور فى الحياة كانت فيه مكانة مهمة لهذا الرقم مثل طيف الألوان السبعة للضوء، عدد قارات العالم وغيرها، السلم الموسيقى. فصار الرقم سبعة دينياً وعلمياً مهماً. الأساطير والأديان أكثر من الحضارات احتفت بالرقم سبعة وقدسته، والحقيقة أن هذا وهم، ولا وجود لرقم معين أهم من غيره أو أكثر قداسة، وخصوصاً فى الأرقام بين الواحد والعشرة، لكن الإنسان مولع بمثل هذه الأمور وهناك مبررات نفسية وروحية تحقق له هذا.

تحتفل كثير من القوميات بعيد النيروز، وكل قومية تسحبها لضفتها، وهذا ما فعله الكرد والفرس وغيرهم، لكنك قلت إنه عيد سومرى، هل هناك حقائق أثرية تدل على ذلك؟ 
 كان بحثاً ظهر فى أكثر من كتابٍ لى، فقد تقصيت أعياد رأس السنة عند الشعوب القديمة والوسيطة والحديثة، وتوصلت إلى أن أقدمها كلها هو عيد رأس السنة السومرية الذى كان يبدأ فى 21 مارس من توقيتنا الحالى بسبب الاعتدال الربيعى فى هذا اليوم فأخذت به كثير من الشعوب، ولا شك أن الآثار هى التى دلتنا على هذا الأمر فى وجود هذا العيد فى مدن سومرية كثيرة وتفاصيل أيامه وطقوسها.

هل الغجر قومية واحدة، دم واحد، وتجمعهم لغة واحدة؟
 الآراء الأنثروبولوجية العلمية الحديثة تشير إلى وجود أصل مشترك للغجر، وهناك عدة آراء فى هذا الموضوع، لكن هناك أرجحية إلى أن أصل الغجر هم من الدرافيديين، أى سكان الهند الأصليين قبل وصول الآريين إلى الهند، وحين وصل هؤلاء بطشوا بالدراقيديين الذين نزل بعضهم إلى النصف الجنوبى للهند ويسمى (الدكن)، والبعض الآخر هاجر خارج الهند فى كل الاتجاهات وأصبحوا غجراً لأنهم لا يستقرون فى بلد معين وكانوا يمتهنون الغناء والفنون وصياغة الفضة والذهب وركب الخيول وغيرها، ويقال إن أكبر حاضنة لهم آسيوياً هى فى إيران فى (لورستان)، وأوربياً فى رومانيا. لهم ثقافاتهم الخاصة بهم ولكن ليس لهم حضارة، ولا يجوز أن تعتبرهم متشردين لأنهم رعاة فنون ولهم حياة خاصة لا بد من احترامها، والأفضل دراسة الغجر فى البلدان أنثروبولوجيا حسب البلدان التى يتواجدون فيها لتمييز المشترك والمختلف من عاداتهم وتقاليدهم من أجل الدقة المنهجية.

هل الإيزيدية ديانة فحسب أم أنها قومية وديانة، بما أن جلهم يتحدثون الكردية وما لغتهم الأم؟ 
هذه مشكلة تنشأ مع الديانات المغلقة دائماً كالإيزيدية، فعندما تكون الديانة مغلقةً لا يدخل لها أحد غريب عنها ولا يجوز قبول شخصٍ كهذا أصلاً، حينها ينتاب هذه الجماعة الدينية شعورٌ بوحدتهم العرقية، لكن مفهوم القومية أمر مختلف فهو: نظام سياسى واجتماعى واقتصادى يكرس مصالح أمة معينة وسيادتها الكاملة على وطن الجماعة. وهذا لا ينطبق على الكثير من هذه الجماعات المغلقة ومنها الإيزيدية، ولذلك أفضل وصفها بالديانة.

مرت الإيزيدية بمراحل تاريخية طويلة فقد تكلمت، فى بداية ظهورها، باللغة الفارسية ونشأت فى جو الديانات الإيرانية القديمة وتفرعت عنها بمميزاتها الخاصة وبكونها ديانة خاصة مغلقة. ثم عاشت فى ظل الثقافة العربية الإسلامية وكان للغة العربية أثرها الكبير عليها. كانت محاطة بالأكراد، وحين حاصرهم المسلمون العثمانيون وحاولوا إيذاءهم، وجدوا الكردية هى الأقرب لهم ولجذورهم.. وهكذا ترى أن الأمر متعدد المحطات ومتداخل مع بعضه بسبب الخوف والسرية وهيمنة الأديان والقوميات حولها. أما عن الشعوب العراقية القديمة، كالآشوريين والبابليين والآراميين، فأرى أن هؤلاء قد اختلطوا ببعضهم وبالشعوب التى حولهم بعد زوال دولهم ومدنهم، وحين جاءت المسيحية جمعتهم اللغة السريانية، وكانت أصولهم القومية القديمة قد بدأت بالتلاشى، وظهروا بهذه المسميات الحديثة كما لو أنهم استمروا بسلام كما كانوا، وجهة نظرى ألا يصح ادعاء أى منهم لانتسابه (الخاص والنقى) لقومية قديمة، والأفضل أن يجتمعوا على تراث رافيدينى واحد قديم وتراث مسيحى وسيط بكل مذاهبهم، وعلى حاضر له معطياته الخاصة الجديدة. زالت حضاراتهم القديمة وتحولت لثقافات يجب الاعتزاز بها جميعها دون تعصب أو تنابز، ودون دعوات عرقية نقية بأنهم ينحدرون منها.

كيف تعامل السومريون مع التقويم، وكيف حددوا الوقت وقسموه؟ 
 أقدم تقويم سومرى عثر عليه هو (تقويم الفلاح السومرى) ويسمى (لوح نيبور) يرجع تاريخه إلى حوالى 1700 - 1500 قبل الميلاد. تم اكتشافه فى عام 1949 من قبل بعثة أمريكية فى العراق برعاية من المعهد الشرقى لجامعة شيكاغو ومتحف الجامعة بجامعة بنسلفانيا. تم العثور عليها فى موقع مدينة (نيبور) وهى العاصمة الدينية السومرية الأقدم للسومريين، وهو تقويم أرضى زراعى وليس فلكيا يتضمن التعليمات الخاصة بغمر الحقول فى الربيع وتنتهى بتنظيف وتذرية المحاصيل المحصودة حديثًا. أما التقويم السومرى الفلكى فقد تضمن تنظيم الوقت (اليوم، الأسبوع، الشهر، الفصل، السنة) على أسس ستينية تقريباً، وقد وضع السومريون أساساً واضحاً للوقت أصبح فيما بعد الأساس الذى سار عليه البابليون وغيرهم من الأقوام فى المنطقة بل والعالم كله. كانت كلمة يوم فى السومرية تمثل غروب الشمس فاليوم يبدأ من غروب الشمس ثم شروقها صباحاً ثم غروبها. ولكن الشمس لم تعطِ انطباعاً متغيراً بالوقت لأنها تشرق كاملة وتغرب كاملة فانتبه السومريون للقمر لأنهم رأوه يتغير فهو يبدأ هلالاً ثم يكتمل بدراً ثم يصبح محاقاً ويختفى ثم يعود من جديد وهكذا.. فأوحت لهم أولاً عودة القمر المتكررة بالشهر، ثم انقسم الشهر إلى قسمين حيث لاحظوا أن اكتمال البدر يستغرق نصف شهر وأن اختفاءه يستغرق النصف الآخر، أما السنة فكانت تنقسم إلى فصلين متساويين هما الصيف (إيمش) الذى يبدأ من فبراير إلى مارس، والشتاء (إنتين) الذى يبدأ من سبتمبر إلى أكتوبر. وكانت السنة تقاس على الأشهر القمرية وتسمى السنة القمرية، وتقاس السنة نفسها على الأشهر الشمسية، أما فرق الأيام بينهما فينتظر عدة سنوات (حوالى ست سنوات) لإعلان شهر كبيس يضاف إلى السنة القمرية.

كانت السنة الجديدة فى سومر تبدأ فى مارس وتحديداً فى 21 مارس (من تقويمنا الحالى) وهو بدء الانقلاب الربيعى حيث يتساوى فيه الليل مع النهار وكان هذا اليوم بمثابة عيد رأس السنة السومرية Ezen) إيزن ومعناه (سنة) كما يوحى لفظها والذى هو عيد الزكمك الأول. عيد الحصاد والربيع والزواج الإلهى، فقد كانت بداية السنة إعلاناً لمجىء الربيع وهو تقليد زراعى ارتبط بقران دموزى (إله الحظائر) مع إنانا (ملكة السماء) فهى مراسيم زواج إلهى تحول فيما بعد إلى زواج ملكى كانت فيه الكاهنة العليا تنوب عن إنانا وكان الملك ينوب عن ديموزى. 

ألا يهدد البحث الآثارى حقيقة الأديان وما قامت عليه؟
 الأديان لا تهدد البحث الآثارى ولا تهدد العلوم لأن مسيرة العلم قطعت شوطاً مثمراً ولن تتوقف، لكن الأديان يجب أن تنفتح على معطيات الآثار والعلوم فى تحليلها وفى تحليل ظواهر الطبيعة والتاريخ. كما أنها نشأت بسبب حاجة ضرورية للإنسان تعمل على توازنه وتُشعرهُ بالأمان وبوجود إله بجانبه يرعاه وستبقى ضرورية لزمن طويلٍ قادم. حقيقة أن الأنبياء غير موجودين فى الآثار لا تؤثر على الأديان، فليس كل ما عرفناه من الماضى له آثار عُثر عليها، ولذلك ستستمر الأديان لأن تكوينها أصبح مؤسساتياً ولم تعد تعتمد على حقيقة واحدة أو اثنتين أو حتى مائة، المؤسسات الدينية لها تشكيلات فكرية ومجتمعية واقتصادية وثقافية ولا أعتقد أنها تتأثر كثيراً بحقائق التاريخ والآثار.

فى محاضرة لك ترى أن هدف إسرائيل لم يكن احتلال الأرض فقط، بل تزييف التاريخ بما يخدم مصالحها الاستعمارية، كيف يمكن حماية التاريخ من التزييف؟ 
كان التاريخ قبل ظهور علم الآثار يُكتب على شكل مرويات لا ضابط لها ولا قانون، وكان يبدو كما لو أنه أدبٌ أو فن، لكن منجزات علم الآثار العلمية الرصينة حين دخلت فى التاريخ وبدأت تؤسسه من جديد حولت التاريخ إلى أحد العلوم الإنسانية التى يجب أن تنضبط وفق طرقٍ ومناهج علمية دقيقة، لكن هذا لم يرق للذين بنوا تاريخهم على المرويات (سواء كانت هذه المرويات مقدسة أو تاريخية كاذبة)، فأصروا عليها بل ووضعوا علماً مزيفاً للآثار يخدم غرضهم هذا. التاريخ الحقيقى للشعوب الآن هو التاريخ المعتمد على الآثار والوثائق المحققة الصحيحة، وتأريخ فلسطين الآثارى ناصع وصريح وينفى كل المرويات التوراتية واليهودية والإبراهيمية بشكل عام. لقد احتلت المرويات اليهودية المزيفة عقول الناس قروناً وهى التى مهدت لاحتلال فلسطين، ولذلك أقول لا بد من تفنيد وفضح أكاذيب المرويات وأكاذيب التاريخ المزيف من أجل التمهيد لاستعادة الأرض وسيادة الحقيقة. علماء التاريخ من الأكاديميين الذين يعتمدون على علمى الآثار والوثائق هم الذين يضعون حداً للتزييف ويقفون بوجه الهواة والعابثين الذين يكتبون ما يحلو لهم فى هذا المجال.

فى ديوانك «أحزان السنة العراقية» قصائد يومية، هل هناك ضرورة شعرية لكى تَعبرَ القصائدُ اليومية زمانها أم أن ضرورتها فى بقائها يومية وتُقرأ وفق سياقها التاريخى؟
اليومى أقرب إلى الواقعى دائماً، ولذلك حين تكون القصائد اليومية قابلة لعبور زمنها فلأنها مست الواقع بطريقة ذكية ومُلهمة، وهو نجاح يُحسب لها، الضرورة الشعرية الوحيدة التى تعمل على حصول هذا هو أن تكون القصائد اليومية شعرية المضمون.

«أحزان السنة العراقية» أحد أكبر أعمالى الشعرية التى حققت هذا الأمر بقوةٍ، فقد خضتُ قبلها تجارب شكلية وجمالية لا حصر لها، ما زلت أعتز بها، لكنى أمسكت حرارة ووحل الواقع فى «أحزان السنة العراقية».

حضرت معى خبرتى الشكلية والجمالية فرفعت هذا الواقع وجعلته شعرياً، هذا أمر قد لا يراه كثيرون لكنى أعرفه بشكل جيد، حين يلتقى الواقع بخبرة جمالية طويلة فسيرتفع الواقع شعرياً.

بعد كتابيك «عكازة رامبو» و«حية ودرج» اللذين ينتميان إلى نمط الكتابة المفتوحة جاءت كتبك الشعرية الأخرى مختلفة عنهما، لماذا؟ 
كنتُ أتنقل بين الأساليب التى أكتب فيها وأبتكر غيرها، وأعود لها لكى أثرى أسلوباً سابقاً كتبت فيه وهكذا.. صارت طريقتى فى الكتابة الشعرية معروفة للكثيرين، فأنا لا أهدأ ولا أركن على حالٍ وأتجمد فيه، دائم البحث عن أساليب وطرقٍ جديدةٍ فى كتابة الشعر. أحياناً يستهوينى نمط شعرى أجده، فى تراثنا أو فى تراثات شعوبٍ أخرى، وقد اندثر فأقوم بإحيائه بطريقة جديدة تناسب عصرنا وأجد متعة جديدة فى ابتكار هذا اللون وأضيفه لمبتكراتى السابقة. أما فيما يخص البيانات الشعرية، فأنا أنظر للبيان الشعرى باعتباره نصاً إبداعياً عن طريق الفكر، لأنه طريق إبداعٍ خاص ينطلق من العقل الشعرى ليفتح طرقاً جديدة فى الوعى الشعرى. الأمر معقد ولا يمكن أن يؤخذ بالبساطة التى عرضتها أنت. البيانات الشعرية يجب ألا  تكتب قبل التجربة الشعرية التى تنظر لها بل لا بد أن تأتى بعدها.

هل تختلف البداية عندك بصفتك شاعرًا وأديبًا عن البداية العلمية أو البحثية، وأى البداية أعقد من غيرها؟
كل البدايات العاطفية طارت من يدى وتوارت.. أصبحت حزيناً وأنا أرى أوراق البدايات، التى كنتُ أصنعها وأنحتها بصبرٍ ومسئولية لأعيش ثمارها، تتطاير حولى وتتوارى بعيداً، أصبح تأريخى بدايات مهاجرة عنى وواقعاً حزيناً ومكرراً ترتاده أشباحٌ تنزفُ، ربما هذا هو قدرى كشاعر، ولا أعرف شاعراً إلا وكان جريحاً. حتى الشعر كانت بداياته ترحل لتحل بعدها بدايات جديدة، وهذا أهون من غيره، ربما لأن فيه تجديداً متواصلاً لا يتوقف.

البدايات العلمية والفكرية هى الأكثر ثباتاً واستمراراً، فهى تزداد غنىً وتكتنز، قد تتغير صياغتها لكنها لا ترحل. المثير فى كل هذا أننا نرحل أيضاً وكأننا بداية من البدايات، وعزاء المبدعين فى العلم والشعر والفن والأدب والحقول الأخرى أنهم سيسلمون منجزاتهم لمن يمضى بها أبعد ويسلمها لغيره وهكذا، ربما فى هذا عزاء مضاد للغياب.

السبعينيون عملوا على التجريب ناهيك عن كتابتهم للبيان الشعرى الخاص بهم، مثلهم مثل الستينيين، ولكن أراءً كثيرة ترى أن ما سعى له الجيلان ليس سوى تنظيرات، وأنت عدت فى كثير من دواوينك المتأخرة لكتابة قصيدة النثر وحتى التفعيلة دون النص المفتوح، كأنها ردة، ما تعليقك؟ 
 هذا غير صحيح على الإطلاق، الستينيون أنتجوا نصوصاً مهمة جداً لم تكن مألوفة فى الشعر العراقى والعربى الحديث قبلهم، امتازت بالفانتازيا والغرائب، وكذلك السبعينيون أضافوا نكهة روحانية ورمزية واقعية عالية فى الشعر العراقى، وتنوع فيها إنتاج شعرائه وكان للمتميزين منهم تجارب ونصوص استثنائية. وكما قلت لك أنى كنتُ وما زلتُ مولعاً بتنويع تجاربى الشعرية وهذا لا يعنى مطلقاً أنى حين أبتكر أو أسير فى طريق شعرى جديد أكون قد تركت الطرق السابقة التى ابتكرتها، بل على العكس تماماً أجدها كلها طرقاً جديداً أغنيها وأثريها كلما رغبت بذلك.

والمثال الساطع على هذا هو القصائد القصيرة والتى أسميتها (القصيرة) بدلاً عن (القصيدة) فقد كتبت أكثر من ألفى قصيرة نُشرت فى المجلد السابع من أعمالى الشعرية، وهناك ألف قصيدة قصيرة جديدة تنتظر. النص المفتوح يحتاجُ لفضاءٍ وتجربةٍ واسعين ولا يُكتَبُ سريعاً، وهو أقرب إلى مشروع كتابةٍ شعرية وليس قصيدة واحدة أو عدة قصائد، إنه مصهور شعرى كبير ومنجم لا حدود له فيه كل المعادن. ربما سيشهد الوقت القادم ظهور عمل جديد لى من النص المفتوح.

مجموعاتك الشعرية الأخيرة ظهرت كقصائد نثر، فهل صارت بديلًا حقيقيًا عن قصيدة التفعيلة؟ أم أن الشاعرَ مثل الشيخ تعود به الذاكرة لطفولته، أو بداياته الشعرية، فيكتب قصيدته بالشكل الأول؟ 
أنت ما زلتَ مصراً على فكرتك فى كونى أرتد وأتراجع عن مشاريعى الشعرية، وهذا سوء فهم كبير فعلاً، أنا أكتب أنماط مشاريعى وتجاربى الشعرية ولا أهجرها بل أعززها بالعودة لها كلها حتى وأنا أفكر بمشروعٍ جديد. لاحظ تسلسل صدور مجموعاتى الشعرية وتستجد أن قصائد (التفعيلة، النص المفتوح، القصيرة، قصائد النثر) تتداخل وليس هناك حد فاصل نهائى لتوقف أحدها، وهذا دليل مصداقية ما ذهبتُ له فى توضيح الأمر.

فى الجزء الأول من أعمالك الكاملة المعنونة مقدمتها: «الشعر الشرقى» أساطير الشرق لا تنفك تفارقها، كأنك تصر على القول: إننى آثارى يبحث حتى فى شعره عن آثر الشرق وأساطيره، هل تسرب هذا إلى قصائدك من حيث لا تشعر؟
لم يكن الأمر مقصوداً كما تصورته، فقد كانت ثقافتى، حين كتبتُ تلك النصوص، واسعة فى معرفة الشرق وفنونه الشعرية والدينية، وقد تسربَ هذا لشعرى. لم يكن اهتمامى العلمى بالتاريخ والأديان والحضارات قد تكون بعد، كنتُ هاوياً أستمتعُ بما أقرأ فقط. وبالمناسبة لم أكن آثارياً حتى يومنا هذا لأن هذا تخصص دقيق يتطلب دراسة أكاديمية متخصصة لم تكن من نصيبى مع الأسف.

أما الأساطير فكنتُ مولعاً بها قبل كل هذا، ولم أستعملها يوماً بقصديةٍ فى الشعر، بل تركتها تتسرب كشحنات فى شعرى. والفرق كبير بين هذا وذاك، شعرى كله قائم على بناء أسطورتى الشخصية التى تنبنى مع الزمن وتسرى كالروح فى شعرى، الأمر أبعد بكثير عما طرحته للأسف.

فكرة التجييل الشعرى، أما زالت صالحة حتى الآن؟ 
فكرة التجييل كانت ضرورية، فى حينها، لفرز شعراءٍ جدد عن غيرهم بسبب طريقتهم الشعرية الجديدة، وبلا شك فإن ذلك يترافق مع كونهم بأعمار أصغر من الذين سبقوهم، وهى طريقة ضرورية لتأريخ الشعر فى بلدٍ ما، أى أنها طريقة تاريخية تستعمل عادة. ففى الغرب كانوا يصفون التيارات الفنية (الرومانسية، الواقعية، الانطباعية، البرناسية، الرمزية... إلخ) لأنهم يعيشون عافية التواتر والنمو لظواهر الأدب والثقافة والفنون، أما نحنُ فلا نملك شيئاً من هذا فنلجأ للتجييل العقدى. وهناك عامل آخر وهو أن الأدباء الأكبر عمراً يستعلون على من بعدهم ولا يقبلون أن يكونوا فى صفوفهم وهو ما يضطر الأصغر سناً للتراصف فيما بينهم وتشكيل جماعةٍ أو جيل.

أكان النقد مواكباً لجيلكم أم أنه تخلف عنكم كما هو الحال مع الأجيال التى ولدت بعد 2003 فى العراق؟ 
النقد العراقى ركز على جيل الرواد، بشكلٍ خاص، لأن النقد العربى اهتم بهم ودرسهم، واهتم بشعراء الستينيات لأن من تبقى منهم فى العراق أصبح فى مسئولية ثقافية ولا بد من مجاملته، أما من رحلوا خارج العراق فكان أغلبهم فى المعارضة وكان هناك من النقاد من يهتمون بهم لسبب سياسى أولاً. السبعينيون والثمانيين والتسعينيون شعراءٌ عُزل، لم يهتم بهم أحد، ومن جانبهم كانوا لا يحتاجون لاهتمام أحد، فقد كانت غايتهم جودة شعرهم وحداثته.

أما أن تمضى 20 سنة على التغيير فى العراق ولا نلمحُ دراسات عميقة عن ماضيه القريب وعن مرحلته هذه فهذا دليلٌ على عجز النقد العراقى عن مهمته.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة