إحدى اللوحات
إحدى اللوحات


ازدهر منذ الحقبة العباسية وتفوقت به مصر الفاطمية

حكايات| سبق الصيني ونافس الذهب والفضة.. «الخزف الإسلامي» رسمٌ بالحبر على الثلج!

آخر ساعة

الخميس، 28 مارس 2024 - 04:42 م

■ كتب: رشيد غمري

في عام 1998 عثر صيادون محليون قرب جزيرة "بيليتونج" الإندونيسية، على حطام سفينة، اتضح أنها تضم حوالي سبعين ألف قطعة خزفية أنتجت في الصين، حوالي القرن التاسع الميلادي. وكان من المثير أن أغلب المنتجات حملت الطابع والطرز الإسلامية، والخطوط العربية. مما كشف عن قدم عادة ومهارة الصينيين في صنع المنتجات وفق أذواق الشعوب التي يتاجرون معها. وكان الأغرب اكتشاف أن بعض أنواع الخزف التي اشتهر بها الصينيون، قد أخذوها عن المسلمين.

اشتهر الصينيون بخزف "تشينج هوا" الأبيض المزخرف بالأزرق، والذي طوروه بين من عهد أسرة "تانج" إلى أسرة "يوان"، وجرى تصديره إلى أوروبا منذ القرن الرابع عشر في عهد أسرة "مينج". لكن أبحاثا حديثة تؤكد أن المسلمين كانوا من ابتكر تقنية الطلاء بالأبيض الناصع، ثم زخرفته بأزرق الكوبلت، وهي الأكاسيد التي استوردتها الصين من العالم الإسلامي، وصنعت بها الخزفيات التي اشهرت عالميا.

◄ الميلاد
تشير الدلائل الأثرية إلى إنتاج الخزف المذكور في البصرة مطلع العصر العباسي، تحت درجة حرارة عالية، ووفق تقنية معقدة، في بداية عصر ازدهرت فيه العلوم والفنون. وكان السائد أنهم نقلوها عن الصينيين، لشهرتهم الواسعة فيما بعد.

لكن حطام السفينة التي تنتمي للعالم الإسلامي، وكانت مخصصة للتجارة مع شعوب شرق آسيا، يشير إلى أن خزفها أنتج في أفران "جونجسيان" الصينية، مقلدا خزف البصرة، مع استبدال أكسيد المنجنيز المستخدم في اللون الأبيض بالكاولين، كما اعتمدوا على الكوبلت الإيراني للزخرفة، بالخط العربي والأسماك والزهور.

وكان بالسفينة أيضا صناديق مجوهرات ومرايا، صممت خصيصا للسوق الإسلامية، وخزف جمع بين الأنماط الصينية والإسلامية، كإبريق رأس التنين المزين بزخارف إسلامية وفارسية. وهي المقتنيات المعروضة بمتحف الحضارات الآسيوية بسنغافورة.

أما أصالة وسبق الصنعة الإسلامية، فهي ثابتة بالتواريخ وتوقيع الخزافين من أمثال "الأحمر"، و"بن خالد"، و"صالح"، و"أبو العون"، و"كثير بن عبد الله"، و"برهان" وآخرين ممن عثر على أسمائهم منقوشة على الأواني التي صنعت بالبصرة. وقد وصف المؤرخ الفني "أرثر لين" جمال عملهم بأنه أشبه بالرسم بالحبر على الثلج. ولكن لماذا اعتمد المسلمون على الصينيين في صنع طراز أبدعوه وبرعوا فيه؟

◄ اقرأ أيضًا | بدأ بـ100 جنيه وانتهى بـ100 ألف.. تفاصيل مزاد لبيع وعاء صيني تاريخي

◄ هجرات فنية
وفق دراسة بعنوان "دور الخزافين في نقل الأساليب الفنية" للباحث عبدالخالق الشيخة، بقسم الدراسات الإسلامية بكلية الآثار بجامعة القاهرة، فقد اتسمت حياة العديد من الخزافين في العصور الإسلامية بالتنقل بين البلدان، وساهم هؤلاء في انتقال الأساليب الفنية من أماكنها الأصلية لمناطق أخرى ضمن نطاق العالم الإسلامي. ويضرب مثلا بالخزاف "أبي نصر البصري" الذي ظهر توقيعه على عدد من الأعمال بين العراق ومصر، ويرجح أنه ضمن آخرين هاجروا بسبب ثورة "الزنج" التي شهدها الربع الثالث من القرن الثالث الهجري ضد الخلافة العباسية.

كذلك الخزاف "محمد الصيني"، الذي ظهر اسمه في العراق ثم الفسطاط. وتشير الدلائل إلى انتقال عدد كبير منهم لمصر استمر حتى بدايات الدولة الفاطمية. وربما يكون بوسعنا استنتاج أن الاضطرابات السياسية هي ما أدت لتذبذب إنتاج البصرة، وربما توقفه في بعض الفترات، بالتالي يمكن تبرير الاعتماد على الصينيين الذين عرفوا كيف يصنعون المنتج بالمواصفات المطلوبة، ومزخرفا بالخطوط العربية والزخارف الإسلامية.

ولم تكن البصرة وحدها التي اشتهرت بصناعة الخزف، ففي العراق مثلت مدينة "سامراء" أيضا إحدى أهم محطات تشكل الخزف الإسلامي، حيث جلب لها العباسيون فنانين من كل أنحاء الدولة. كما ازدهر الخزف الطولوني في القاهرة، وتميز بالدقة. ومعظم ما عثر عليه يميل للون الأحمر، وكان الكثير منه يزين بصور حيوانات وطيور عكس الشائع عن تحريم هذا النوع من التصوير. وحتى خزف البصرة المبكر وجد عليه صور لبشر وحيوانات. كذلك توجد دلائل على انتقال تقنيات وأنواع من الخزف الإسلامي من العراق لإيران، وبعضه انتقل لأذربيجان خلال هجرات الفنانين المتتالية، إثر الاضطرابات السياسية.

◄ خزف الشرق
عرف السامانيون بالازدهار في الآداب والفنون، وآل سامون سلالة إسلامية سنية حكمت إيران، وأجزاء من آسيا الوسطى خلال القرنين التاسع والعاشر، وازدهر الخزف في عصرهم، واشتهروا بتقنية الزخارف المنزلقة التي تتم بغمس الخزف في طين سائل، لعمل أرضية موحدة ثم وضع لون آخر، وحفر الطبقة العلوية بالزخارف. وهي تقنية انفردوا بها خلال القرن العاشر، وضمنوها كتابات معقدة، ورسوما نباتية وحيوانية ومجردة. وقد ورثت "كاشان" الإيرانية عرش الخزف الإسلامي ما بين القرنين العاشر والثاني عشر الميلاديين، بتقنيات يرجح أنها وصلتهم عبر سوريا التي كانت أحد معاقل الصناعة في عديد من الفترات.

ولكنهم استخدموا تقنية جديدة عرفت بالمينا، وتضمنت طبقة تزجيج يجري حرقها قبل الطلاء بأصباغ ملونة للزخرفة، وإعادة الحرق. وهي التقنية التي تطورت خلال حكم "السلجوقيين" الذين حكموا مناطق شاسعة امتدت من تركيا إلى إيران وآسيا الوسطى بين القرنين الحادي عشر والثاني عشر. وضمت تصويرا لأشخاص بملامح منمنمة في حالة حب أو ضمن مشاهد صيد أو تحاكي أبياتا من الشعر. ومن حسن الحظ أنه توجد مخطوطة يرجع تاريخها إلى عام 1300 كتبها "أبو القاسم الكاشاني" الكاتب في البلاط والمؤرخ. وهي تصف بالتفصيل مراحل صنع الخزف، والأصباغ، وتقنيات البريق والطلاء الزجاجي. ومن المحتمل أنها اعتمدت على وثيقة أخرى كتبها "محمد الجوهر النيسابوري" قبله بمائة عام، وتسمى "جواهر نما النظامي". وقد كتب "أبو القاسم" وثيقته بداية الحكم المغولي الإسلامي، حيث سيبدأ تغيير جوهري في صناعة الخزف -باهتمام خاص من أباطرة المغول الذين دخلوا الإسلام- سيتسم بتلاقح شديد بين الإسلامي والصيني، وستزدهر الفنون البصرية بشكل عام.

◄ إسلامي مصري
تألقت مدينة الفسطاط في فنون الخزف كما الزجاج والكريستال الصخري ونحت الخشب، والمنسوجات. وعثر بها على حفائر لأوانٍ زينت برسوم بشر وحيوانات. وبعضها كان موقعا بأسماء الفنانين الذين صنعوها مثل "أبو العز" و"غزال" و"الهرمزي" و"الشاكي" و"المصري" و"الغيبي". ووفقا للمؤرخ البريطاني "جي إيتونز"، فقد شاركت النساء في صناعة الخزف الإسلامي. وعرف الخزف ذو البريق المعدني في الفسطاط منذ الحقبة الطولونية، وعثر على الكثير منه ضمن حفائر الفسطاط. وكان بها زقاق يسمى "زقاق الغضارين"، يضم صانعي وبائعي الخزف والفخار.

ومع أفول نجم الخزف العراقي منذ القرن الرابع الهجري صعدت صناعة الخزف الإسلامي في مصر طوال الحقبة الفاطمية، واشتهر من معلميها "مسلم بن الدهان" و"جعفر" و"سعد".

وظهرت أنماط تصويرية دمجت الفن القبطي، وحتى اليوناني والروماني، وبعضها صور مشاهد رقص، وصيد، مع زخارف إسلامية، مما جعل الخزف المصري يصبح أكثر حيوية مقارنة بالخزف الإسلامي في الشرق، والذي جنح في تلك الحقبة للزخارف التجريدية. وإذا كان الخزف المبكر قد انتقل من الشرق، وطوره الطولونيون والإخشيد، فمنذ القرن التاسع الميلادي، صارت مصر تصدر حرفتها شرقا باتجاه العراق. وكانت تقنية البريق المعدني تتم وفق طريقة معقدة، ومكلفة جرى تطويرها، بطلاء أكاسيد النحاس والفضة وغيرها، على الخزف المزجج بالقصدير، ثم حرقها مرة أخرى في أفران منخفضة الأكسجين، فيجري اختزال الأكسجين وتبقى المعادن لامعة ومتداخلة بدرجات ألوان وبريق مغلف بالمادة الزجاجية.

◄ أفول الصنعة
وذكر الرحالة والشاعر "ناصر بن خسرو" في كتابه "الرحلة" أن البائعين كانوا يستخدمون الأواني الخزفية والزجاجية لبيع بضائعهم. ولأن الأيوبيين اعتبروا الفاطميين زنادقة، فقد دمروا قصورهم والعديد من أعمالهم الفنية، ومنها الخزفيات. وبدأت تقنية البريق المعدني تضمحل وتتلاشى تدريجيا، وانتقلت إلى سوريا و"كاشان" الإيرانية، والأندلس على يد الحرفيين المهاجرين والفارين، حتى أصبحت من علامات عصر النهضة الأوروبي. كما أسهم الغزو الصليبي واحتراق الفسطاط بمصانع خزفها، في أفول الصنعة.

وانتقل بعض خزافيها باتجاه سوريا، كما تشير حفائر "تل مينيس" بالشام، حيث عثر على توقيع الخزاف "سعد" وغيره من خزافي مصر هناك. كما ظهرت أساليبهم في "الرقة" على أثر ذلك النزوح. ومما يحسب أيضا للخزف الفاطمي إضافة مسحوق الكوارتز للطين، مبتكرين ما يعرف بالخزف الحجري الفاخر، والذي اجتاح العالم الإسلامي وأوروبا، وكان الأثرياء يستخدمونه أحيانا بديلا عن أواني الذهب والفضة.

ويضم متحف الخزف الإسلامي بالقاهرة 315 قطعة تمثل أنماطا مختلفة، منها 116 قطعة من مصر أنتجت خلال الحقب الإسلامية المختلفة. ويقع في قصر الأمير "عمرو إبراهيم" بالزمالك، ضمن مركز الجزيرة للفنون. ويعتبر من المتاحف المتخصصة النادرة في الشرق الأوسط. وبالطبع لم يتسع المجال هنا للإحاطة بكل أنواع الخزف الإسلامي كالأندلسي والتركي والمغربي وغيرها.

الكلمات الدالة

 
 

 

 

 

 

مشاركة