حامد عز الدين
حامد عز الدين


آخر صفحة

حامد عز الدين يكتب: «إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون»

حامد عز الدين

الثلاثاء، 02 أبريل 2024 - 09:35 م

عندما يتحدث المولى سبحانه وتعالى في القرآن الكريم عن القضايا الكبرى ذات الأبعاد المفصلية، نجده يستخدم «إنا نحن» في إشارة إلى ذاته العليا وعظم القضية، وهو عكس ما يحدث عندما يتحدث عن الألوهية أو الربوبية، فهو يستخدم «إني أنا» في تأكيد يصل إلى اليقين عن وحدانيته كرب وإله، وفي الآية الرقم 9 من سورة الحجر: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ»، وهو ذاته في الآية 23 من سورة النساء حيث يقول تعالى: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنزِيلاً»، وذلك تكريما للقرآن الكريم باعتباره دستور الإسلام، وعندما يقول تعالى في الآية 12 من سورة يس: «إنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ»، أو الآية الرقم 40 من سورة مريم: «إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ»، أو في الآية 14 من سورة طه: «إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي»، وكذلك وهو يحدث نبي الله موسى في الآية 12 من سورة طه: «إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى». 

ونعود إلى قول الله سبحانه: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ»، لنتعرف على معنى الحفظ في اللغة العربية، (حَفِظَ) الْحَاءُ وَالْفَاءُ وَالظَّاءُ أَصْلٌ وَاحِدٌ يَدُلُّ عَلَى مُرَاعَاةِ الشَّيْءِ والحفاظ عليه من جانب الحفيظ وهو الله سبحانه وتعالى. 

والأمر المؤكد أن صحابة رسول الله صلى الله عليه لم يرتبوا القرآن حسب النزول لأن القرآن نزل جملة واحدة إلى السماء الدنيا في ليلة القدر، ثم تنزل منجماً حسب الوقائع والحوادث، كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية وابن حجر وابن القيم وغيرهم، وعن ابن عباس في تفسير قوله تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً «الفرقان:32») قال: أنزل القرآن جملة واحدة في ليلة القدر إلى السماء الدنيا وكان بموقع النجوم، وكان الله ينزله على رسوله بعضاً في أثر بعض، فقد كان تنزله بحسب الوقائع وكان الرسول يبين للصحب مواضع ما نزل، وكان جبريل يدارس النبي صلى الله عليه وسلم ما نزل من القرآن كل رمضان ويبين له ترتيبه، حتى كان العام الأخير من حياة النبي صلى الله عليه وسلم دارسه جبريل القرآن مرتين كما في الحديث: «إن جبريل كان يعارضني القرآن كل سنة مرة، وإنه عارضني العام مرتين ولا أراه إلا أجلي قد حضر»، رواه البخاري ومسلم، وقد ذكر ابن حجر في الفتح: أن جبريل كان يتعاهده كل سنة فيعارضه بما نزل عليه من الوحي من رمضان إلى رمضان وذكر أن زيد بن ثابت حضر العرضة الأخيرة، وقد قام زيد بن ثابت بتكليف من أبي بكر الصديق بجمع القرآن في المصحف، فجمعه رضي الله عنه على الترتيب الذي قرأه النبي صلى الله عليه وسلم على جبريل، ثم جمعه ثانياً عثمان فشكل له لجنة من الصحابة يرأسها زيد بن ثابت فجمعوه بنفس الترتيب، فقد روى أحمد والطبري وابن أبي داود من طريق عبيدة بن عمرو السلماني أن الذي جمع عليه الناس يوافق العرضة الأخيرة، وقال ابن الأنباري في كتاب الرد: إن الله تعالى أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا ثم فرق على النبي صلى الله عليه وسلم في عشرين سنة، وكانت السورة تنزل في أمر يحدث، والآية جوابا لمستخبر يسأل، ويوقف جبريل النبي صلى الله عليه وسلم على موضع الآية والسورة، وعن عثمان أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من يكتب له، فيقول: ضعوا هذه في السورة التي فيها كذا وكذا، وعليه فهذا الترتيب الذي عندنا اليوم أجمع عليه الصحابة نقل بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم.

وبالتأكيد فإن حفظ الله سبحانه وتعالى لكتابه الكريم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، لا يكون إلا من خلال المؤمنين أنفسهم، سواء من الحفاظ أو الدارسين والباحثين وكذلك القراء، ويكفي أن نعلم أن القرآن الكريم هو أحد أكثر الكتب المطبوعة في العالم، مع الوضع في الاعتبار عدد المؤمنين مقارنة بغيرهم، وكان لمجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف دور مهم للغاية، حتى أن عدد النسخ التي طبعها المجمع تخطت الرقم 375 مليون نسخة موزعة بين مصاحف كاملة وأجزاء وترجمات وتسجيلات وكتبٍ للسنة والسيرة النبوية وغيرها، وتم تبويب إنتاج المجمع من الترجمات لمعاني القرآن الكريم إلى مختلف اللغات وعددها 74 لغة، منها 39 لغة آسيوية و16 لغة أوروبية و19 لغة إفريقية.

وجاء الإنترنت والعالم الافتراضي، لكي نفاجأ بمواقع إليكترونية بعشرات الآلاف، كلها تتحدث عن الإسلام والقرآن الكريم ومعانيه وترجماته، لتتحول وسائل التواصل الاجتماعي إلى ما يقرب من الرسل الإليكترونية الفضائية، وكأنها توضح لنا معنى عظيما في الآية 165 من سورة النساء: «رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا»، فقد وصل القرآن الكريم إلى مناطق لم يكن أصحاب الخيال يتصورون أن يصل إليها بفعل التطور التكنولوجي. 

وهكذا يكون قد استقر في قلوب المسلمين وعقولهم أن القرآن الكريم محفوظٌ من الزيادة والنقصان، والتحريف والتبديل؛ وذلك لأنّ الله - وهو الحفيظ - قد وَعَد بحِفْظِه، ولن يُخلِف اللهُ وعدَه، وقد تحقّق مِن وَعْدِ الله بذلك ما تقرّ به عيون الموحِّدِين من حِفْظ القرآن في الصدور، وحفظه في السطور؛ وذلك لأنّ «ما حفظَ اللهُ تعالى فهو باليقين لا سبيل إلى أن يضيعَ منه شيء». 

ومع أنّ حِفْظَ الله القرآنَ الكريم «حقيقة يعلمها أولو العِلْم من خصوم الإسلام، كما يؤكّدها تاريخ القرآن الكريم»، فقد وجدنا أنَّ الحداثيين شكّكوا في هذه الحقيقة المتّفق عليها، ومن ثم حاولوا تقديم تأويلات خاصّة لآية سورة الحِجْر تتوافق مع رُؤاهم وتكرّس لعدم دلالة الآية على حِفْظ القرآن الكريم، وبِغَضّ النظر عن طبيعة أهدافهم من وراء ذلك إلا أنَّ هذه الدعوى حينما كانت تصدر من مستشرقين عُرِفوا بالعداء والحقد على الإسلام قيل: إنّ الشيء من معدنه لا يُستغرب، لكن الغريب حقًّا صدور مثل هذا الزَّعْم ممن يقول أكثرهم إنهم مجتهدون مسلمون أصحاب مشروعات تجديدية في تفسير القرآن الكريم، والرد عليهم بالحجة والمنطق سيكون إن شاء الله تعالى موضوع مقالنا الأسبوع المقبل إن كان في العمر بقية.


الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة