د.محمود عبدالباري تهامي
د.محمود عبدالباري تهامي


مؤتمر مجمع الخالدين للغة العربية يواصل انعقاد جلساته لليوم الرابع على التوالي

حاتم نعام

السبت، 27 أبريل 2024 - 09:14 ص

واصل مؤتمر مجمع اللغة العربية بالقاهرة برئاسة أ.د.عبدالوهاب عبدالحافظ (رئيس المجمع) انعقاد جلساته يوم الخميس 25 من أبريل 2024م تحت عنوان "اللغة العربية وتحديات العصر: تصورات، واقتراحات، وحلول"؛ حيث ناقش أعضاء المؤتمر في جلسته المغلقة أعمال لجنة الألفاظ والأساليب، والمصطلحات المقدمة من لجنتي الجيولوجيا والحاسبات.

وفي جلسته العلنية التي رأسها وأدارها أ.د.محمد العبد (عضو المجمع) ألقى د.محمود عبدالباري تهامي (الباحث بالمجمع) بحثًا بعنوان " مستويات التواصل اللغوي بين القارئ والنص الروائي العربي: (لغة الإبداع الروائي وتحديات العصر - موازنة بين نجيب محفوظ وكتاب الربع الأول من القرن الحادي والعشرين" جاء فيه ما نصه:

تزايد الاهتمام بالفن الروائي على مستوى الإبداع، والتلقي، والدراسة المنهجية العلمية، خلال القرن الماضي، ومع انتهاء الربع الأول من القرن الحالي، وقد بلغ الاهتمام بفن الرواية ذروته مع نهاية العقد الثامن وبداية العقد التاسع من القرن الماضي، وهو ما يمكن أن نستدل عليه بوضوح عندما حصل الأستاذ الكبير نجيب محفوظ على جائزة نوبل للآداب في عام 1988م، وهو أيضا ما يمكن أن نعاينه في كثرة الدراسات التي تناولت هذا الجنس الأدبي تنظيرا، وتحليلا، ومع بداية القرن الحادي والعشرين تحديدا في عام 1999م، أصدر جابر عصفور كتابه "زمن الرواية"، معتبرا الرواية في عصرنا الحالي هي "ديوان العرب في العصر الحديث" ليعلن صراحة أن تراتبية الاهتمام بالنصوص الأدبية قد أزاحت الشعر عن قمة هرم الإبداع الأدبي.

من جهة أخرى مثلت إشكالية العلاقة بين اللغة العربية والإبداع العربي تحديا من التحديات الكبرى التي لفتت انتباه مفكر كبير مثل نبيل علي في كتابه "الثقافة العربية وعصر المعلومات"؛ فقد ذهب إلى أن العلاقة بين اللغة والإبداع علاقة تبادلية، فاللغة "أملنا في إحياء إبداعنا الفني، وإبداعنا الفني - بدوره - أملنا في إحياء اللغة، وفنوننا اللغوية من أدب وشعر، هي أهم فنوننا بلا منازع، ...، وحسم العلاقة بين لغتنا وإبداعنا، شرط أساسي لحسم العلاقة بين إبداعنا وديننا، وذلك لما للنص الديني من أهمية بالغة في منظومة العقائد والقيم، وتراثنا اللغوي هو أعلى مواردنا التراثية،...، وكما أشرنا سلفا، تعتمد فنون عصر المعلومات على إعادة استخدام التراث، ونجاحنا في هذه المهمة يتوقف - بصورة أساسية - على مدى فهمنا لعلاقة تراث اللغة بالإبداع الفني"()، ومن الناحية الأخرى يرى نبيل علي أن: "الإبداع الفني أملنا في إحياء اللغة: تحيا اللغة من خارجها لا من داخلها، تحيا باستخدامها، وبإبداع الجماعة الناطقة به".

وانطلاقا من هذين التصورين السابقين: زمن الرواية، وإشكالية العلاقة بين اللغة العربية والإبداع العربي، يأتي هذا البحث كاشفا عن بعض التحديات التي تواجهها اللغة العربية في عصرنا الحالي، ونظرا لما مثله الإبداع الروائي لنجيب محفوظ من نجاح، وشيوع، ونظرا لما انتزعه من اعتراف بأنه أيقونة ذلك النوع من الإبداع عربيا، وجد الباحث أنه يمكن أن يكون موضوعا للبحث والموازنة مع جيل من الروائيين الشباب في الربع الأول من القرن الحادي والعشرين الذي يمثل ذروة عصر تكنولوجيا المعلومات، وعصر العولمة الثقافية، ولأن الهدف هو محاولة الوقوف على الخصائص الأسلوبية في مستويات اللغة التي تشكل بها إبداع الجيلين على تباعدهما، فقد رأى الباحث أن فحص لغة الوصف، والحوار في افتتاحيات نماذج من النصوص التي اشتهر بها هؤلاء الأدباء قد يكون كاشفا من جهة عن طبيعة التغيرات التي طرأت على مستويات الأداء اللغوي من جهة، ومحاولة ربط ذلك التغير بطبيعة المتلقي الذي يتوجه إليه المبدع بإبداعه من جهة ثانية، ومحاولة رصد المسارات التي اتخذتها لغة الإبداع في عصر تكنولوجيا المعلومات، وثورة الاتصال من جهة ثالثة، وهو ما قد يعيننا على اقتراح حلول لما قد تكشف عنه هذه الدراسة من تحديات تواجه اللغة العربية في عصرنا الحالي، وربما في العصور القادمة.

وقد انتهى الباحث إلى عدد من النتائج والاقتراحات، جاءت على النحو الآتي: "لعل أهم النتائج التي توصل إليها البحث هي أن منجز نجيب محفوظ الإبداعي قد شهد نوعا من التطور على مستوى الأداء اللغوي على مستويي الوصف والحوار، فمن خلال المقارنة اتضح أن لغة نجيب محفوظ الإبداعية كانت تميل على مستوى التتبع التاريخي لها نحو التيسير والقرب من لغة الحياة اليومية دون أن تتماهى كليا معها؛ فقد ظلت محتفظة بفصاحتها، على الرغم من تماسها مع اللغة الدارجة في كثير من الأحيان، خاصة على مستوى الحوار، وأن رغبة نجيب محفوظ في الإبداع بالفصحى كانت تتصف بنوع من الانحياز لها، وتفضيلها على الدارجة وهو الأمر الذي دفعه أحيانا إلى أن ينطق الشخصيات بعبارات لا يتصور أبدا أن تنطق بها بناء على المستوى الثقافي الذي تنتمي إليه كما رأينا في لغة المعلم زيطة صانع العاهات في زقاق المدق، وكما رأينا في لغة الراوي حين اندمج صوته مع صوت أمينة زوجة السيد أحمد عبد الجواد في الثلاثية، فكل منهما لا يتصور أبدا أن يكون أداؤه اللغوي على هذا النحو في الواقع الذي يعد تجسيده مطلبا أساسيا من مطالب تشكيل النص الروائي خاصة.

أما كتاب الربع الأول من القرن الحالي، فإننا لاحظنا تفاوتا في مستويات الأداء اللغوي ما بين الفصحى المعاصرة واللغة العامية المصرية الدارجة، والهجنة بين الفصيح والعامي والأجنبي غير المعرب، ولاحظنا أن هذا التفاوت قد تحقق لدى كل واحد منهم على نحو خاص، كما وكيفا، فأحمد مراد على الرغم من كتابته بلغة فصيحة معاصرة على مستوى الوصف والسرد، ولكنها كان في الوقت نفسه يدخل الأجنبي غير المعرب في النص الفصيح، وعلى مستوى الحوار التزم نهجا واحدا هو استخدام العامية التي قد تتداخل معها بعض العبارات الأجنبية.

أما هاني القط فقد التزم الفصحى المعاصرة على مستويي الوصف والحوار، ولكنه لم يحقق الرواج الذي حققته روايات أحمد مراد بلا شك، ولعل الأمر يعود إلى أن القارئ النموذجي، أو الضمني الذي يخاطبه كل منهما له مواصفات اختلافية عن الآخر.

لجأ أسامة السعيد إلى اللغة الفصيحة المعاصرة على مستوى الوصف، وإلى المبادلة بين الفصحى والعامية على مستوى الحوار، وهو أمر يكشف عنده وعند هاني القط عن قناعة بقدرة اللغة العربية الفصيحة على تجسيد الشخصيات، وإن كان حرص هاني القط على التزام الفصحى أوضح مما جاء عند أسامة السعيد، أو ربما يمكننا القول إن لغة الحوار عند أسامة السعيد قد عانت نوعا من الارتباك على مستوى التزام مستوى لغوي واحد يجمع بين الشخصيات.

كانت الظاهرة المثيرة للتساؤل حقا هي لغة إيثار غراب في روايتها حجر في زغرب، فبدا حرصها على الكتابة بالفصحى مع وجود ما يبرر لها أن تلجأ إلى العامية، أو حتى الإنجليزية، خاصة أنها مصرية إنجليزية، لكنها بدت أشد ما تكون حرصا على الفصحى، على مستوى الوصف والسرد من جهة، وعلى مستوى الحوار من جهة أخرى، وهذا الأمر يمكن أن نفسره إلى أن القارئ الضمني لديها يتخطى حدود القطر المصري، فهي تريد أن تخاطب القارئ العربي أينما كان، بلغة يستطيع أن يفهما، ويتفاعل معها، فكانت الغلبة في نصها الروائي للغة العربية الفصى المعاصرة.

في النهاية يبقى التساؤل المركزي الذي انطلقت منه هذا البحث، وهو ماذا نتوقع للغة العربية في لغة الإبداع العربي الروائي خاصة، وهو تساؤل يفضي إلى إمكانية التنبؤ بمصير العربية، في ضوء العلاقة بين المؤسسات الثقافية من جهة، وبين المؤسسة النقدية من جهة أخرى، والعلاقة بين القارئ والمبدع من جهة ثالثة، فإذا كان استخدام العاميات، والتوجه إلى الهجنة أيضا مما يحقق لفئات من القراء لديها القدرة على اقتناء هذه النصوص التي تلبي حاجاتها الثقافية، وفق مواصفات لغوية معينة، تتناسب مع ميولهم، وثقافتهم، ومستوياتهم اللغوية، فإن الأمر بلا شك يمثل خطرا كبيرا على مستقبل اللغة العربية في الإبداع الروائي العربي خاصة، وفي لغة الإبداع العربي أيا ما كان الجنس الأدبي الذي يشكله عامة، فإذا استمر الأمر على هذا الحال، فإن اللغة العربية على هذا النحو ستتحول إلى عاميات، مصرية وخليجية وشامية، ومغاربية، وسودانية، ويمنية، وهو الأمر الذي سيؤدي مع مرور الوقت إلى حدوث قطيعة ثقافية بين المنتج الإبداعي العربي على المستوى الإقليمي، ومن ثم سينتج عنه قطيعة معرفية مع الإبداع العربي على مستواه التراثي، الذي ظلت اللغة العربية المعاصرة هي حلقة الوصل بينه وبين المستوى الدارج في كل بلد عربي، ولعل هذا الأمر هو ما حذر منه طه حسين حين ألقى محاضرته "مشكلة الإعراب" عام 1955م، محذرا من الاستجابة إلى الدعوة التي نادت باللجوء إلى العاميات لتكون بديلا سهلا عن الفصحى للتواصل على مستويي الإبداع، والمراسلة، والتحاور، تجنبا لمزالق الإعراب، والأخطاء النحوية؛ فيقول:

"ولكن الشيء الذي أحب أن أحذر منه المصريين خاصة، والعرب عامة، هو أن مثل هذه الدعوة إن استجيب لها في مصر، وفي غير مصر من البلاد العربية، فسيأتي يوم – وما أرى أنه سيأتي – تصبح فيه الصلة بين البلاد العربية كالصلة بين البلاد الفرنسية والإيطالية والأسبانية، يحتاج الفرنسيون إلى أن يترجموا إلى لغتهم هذا أو ذاك، ويحتاج الأسبانيون إلى أن يترجموا في لغتهم هذا أو ذاك، وسنحتاج نحن إلى أن نترجم عن السوريين، والعراقيين وإلى أن يترجم السوريون والعراقيون عنا!" مجلة المجمع ج9، ص99. 

عندما نقرن هذا التحذير الذي قدمه طه حسين منذ أكثر من خمسين عاما، مع ما اختتم به فندريس كتابه "اللغة" حين قال: "إن اللغة لا توجد خارج أولئك الذين يفكرون ويتكلمون، إنها تمد جذورها في أعماق الضمير الفردي؛ ومن هنا تستمد قوتها لتتفتح على شفاه الناس، غير أن الضمير الفردي ليس إلا عنصرا من عناصر الضمير الجمعي الذي يفرض قوانينه على كل فرد من الأفراد، وعلى هذا؛ فتطور اللغات ليس إلا مظهرا من مظاهر تطور الجماعات، فليس لنا أن نرى فيه سيرا في طريق متصل نحو غاية محددة، وإن دور اللغوي لينتهي حينما يعلم أن اللغة لعبة تتقاذفها القوى الاجتماعية وردود أفعال التاريخ."، فإننا يمكننا أن نستشعر خطرا داهما يهدد بقاء اللغة العربية، ويهدد ملامحها الأساسية، وينذر بتفتتها إلى لهجات، ومن ثم لغات منفصلة إذا استمرت السياسات التعليمية، والثقافية على النهج الحالي، ذلك النهج الذي يضع اللغة العربية في الهامش، ويقدم إلى متنه غيره من اللغات الأجنبية، وحين تدرس العربية في الهامش تقدم مصبوغة باللهجات المحلية التي تفقدها معظم خصائصها الصوتية والصرفية والنحوية، فضلا عن محصلة التفاعل بين هذه المستويات وما يتشكل منها على مستوى القيم الدلالية.

بناء عليه فإن كان هناك اقتراح يمكن أن يقترحه الباحث؛ فلن يبتعد كثيرا عما حذر منه عميد الأدب العربي، وهو اقتراح أن تقوم المؤسسات الثقافية والنقدية بدورها لحث المبدعين العرب على التزام اللغة العربية المعاصرة التي تمكن أبناء الوطن العربي جميعا من التواصل، والاطلاع على منجزاتهم الإبداعية، مع محاولة تجنب العاميات، وإن كانت هناك ضرورة فنية لكتابة الحوار بالعامية لتتناسب مع طبائع الشخصيات، فأقترح أن يكون النص الفصيح حاضرا على نحو يفسر العامي الذي ألجأت الضرورة الإبداعية الكاتب إليه، وليكن في هامش الصفحة، لأن كثيرا من النصوص الروائية العربية تمثل الآن لغة الحوار حاجزا بينها وبين القارئ العربي، ولعل روايات الطيب صالح تعد نموذجا واضحا يمكن الاستشهاد به في هذا الصدد، فكثيرا ما يلجأ الروائي إلى تفسير بعض العبارات أو الكلمات في الهامش لأنها تبدو صعبة الفهم للقارئ غير السوداني.

اقرأ أيضا | صراع ماركيز ومحفوظ في الفضاء الأزرق

 

 

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة