أسامة الأزهرى
أسامة الأزهرى


«وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا»

أخبار اليوم

الجمعة، 03 مايو 2024 - 07:06 م

أرسل النبى -صلى الله عليه وسلم- بعض أصحابه إلى الحبشة ليعيشوا فى كنف النجاشى، وهو حينئذ ملك مسيحى عادل، وسجل له -صلى الله عليه وسلم- هذا الوسام الخالد حينما وصفه بقوله: (إنه ملك لا يظلم عنده أحد).

ثم صنعنا الحضارة معا، مسلمين ومسيحيين، وسجلنا نحن المسلمين فى كتب تاريخنا -بجوار عباقرة علمائنا المسلمين- سير عدد كبير من عباقرة العلماء الأطباء البارعين المسيحيين، منهم جورجيس بن بختشيوع ، الذى استقدمه أمير المؤمنين الخليفة المنصور فجعله طبيبه الخاص إلى أن توفى.

فهذا أمير المؤمنين الخليفة المنصور، أى حاكم المسلمين الأكبر ورئيسهم، مما يمثل المسلمين فى قمة طبقات مجتمعهم، وبحضور كافة وزرائه وأعيان دولته وفقهائه وقضاته، يصادق الطبيب البارع جورجيس، ويأتمنه على حياته، ويحرص على شعوره وخاطره، رغم اختلاف العقائد، ومعنى أنه طبيبه الخاص أن المعاملة بينهما فى غاية الرقى والاحترام والثقة المتبادلة، وهكذا كنا وهكذا عشنا وهكذا سنبقى.

ثم من بعد الطبيب البارع جورجيس جاء ابنه بختشيوع بن جورجيس، الذى كان كأبيه جليلا فى صناعة الطب وعلومه، وكان موقرا فى بغداد لعلمه الواسع، حتى استقدمه أمير المؤمنين الخليفة المهدى، فظل فى خدمة الخلفاء: أمير المؤمنين المهدى طوال عمره، ثم أمير المؤمنين الهادى إلى أن توفى، ثم أمير المؤمنين هارون الرشيد إلى أن توفى، فهؤلاء حكام المسلمين، جيلا من وراء جيل، مع امتلاء دواوينهم بالوزراء والعلماء والقضاة، يكون من بين خواص حاشيتهم هذا الطبيب البارع الواسع العلم، فتستقيم الحياة بينهم مع اختلاف عقائدهم، وهكذا كنا وهكذا عشنا وهكذا سنبقى.

ثم يأتى الجيل الثالث من هذه الأسرة الطبية: فيأتى من بعده ابنه جبريل بن بختشيوع بن جورجيس بن بختشيوع، وكان طبيبا حاذقا نبيلا، وكان طبيبا للوزير جعفر بن يحيى البرمكى، حتى قدمه إلى الخليفة الصالح هارون الرشيد، فجعله رئيس الأطباء، وظل كذلك عند من جاء بعده من الخلفاء، ومعنى أنه جعله رئيس الأطباء أى جعله وزير الصحة مثلا بالتعبير المعاصر.

وانظر أخبار هؤلاء الأطباء وسيرهم فى كتاب: طبقات الأطباء والحكماء (ص63-64)، لأبى داود سليمان بن حسان الأندلسى، المعروف بابن جُلجُل، ط: مطبعة دار الكتب والوثائق القومية، القاهرة، سنة 1426هـ-2005م..

وكذلك الطبيب يوحنا بن ماسويه الذى كان طبيبا أيام الخليفة الأمين، والخليفة المأمون، وبقى إلى أيام أمير المؤمنين المتوكل، وكانت ملوك بنى هاشم يكرمونه ولا يأكلون إلا بوجوده، وتأمل جيدا هذه العبارة: كانوا يكرمونه، أى أن اختلاف العقائد لم يقف عائقا يوما من الأيام بينهم وبين جمال المعاملة، وطيب العشرة، بل بلغ من كمال الثقة والبر بينهم وطيب العيش بينهم أنهم لا يأكلون إلا بوجوده، فانظر كيف كانت مشاعرهم نحوه ومشاعره نحوهم، وكيف نجحوا جميعا فى نسج العيش المشترك المفعم بالتقدير والاحترام، فهكذا كنا وهكذا عشان وهكذا صنعنا الحضارة معا وهكذا سنبقى.

وقال المؤرخون المسلمون لعلوم الطب فى تاريخ المسلمين عن هذا الطبيب الكبير القدر يوحنا بن ماسويه: (وله فى الطب أسرار خلدها منافع للناس) كما فى كتاب: (طبقات الأطباء والحكماء ص65).

وهؤلاء الأطباء وغيرهم كثير يُذكرون جنبا إلى جنب مع عباقرة الطب من المسلمين كابن النفيس، وابن سينا، والإمام فخر الدين الرازى، وأبى القاسم الزهراوى، وابن الهيثم، وعلى بن رضوان المصرى، وغيرهم، وعلى يد هؤلاء جميعا معا مسلمين ومسيحيين نسج التاريخ، واستفاضت العلوم، وصنعت الحضارة، واستقرت الحياة.

واليوم ننسج على منوال هؤلاء، ونكمل مسيرتهم، فأتوجه إلى كل أخ وشقيق مسيحى كريم على أرض مصر بالتهنئة فى يوم عيدهم، وأرجو من الله تعالى أن يشمل المصريين جميعا بالأمان والسعة، وأن ينشر بينهم السلام والرحمة، وأن يجعل بعضهم سندا لبعض على صناعة العلوم والمعارف والحضارة، وعلى صناعة الحياة وإكرام الحياة، وعلى حمل مشعل الإحياء لكل شيء فى الوجود حولنا، وأن يجعل الله لنا شفاعة من سيدنا المسيح عيسى بن مريم وأمه العذراء البتول، عليهما السلام، ومن سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم فى أن يكون شأننا كله جمالا ورقيا وبصيرة وأمانا.

 

 

الكلمات الدالة

 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة