الدكتور طارق الزيات
الدكتور طارق الزيات


«وكأنها 1» قصة قصيرة للكاتب الدكتور طارق الزيات

صفوت ناصف

الثلاثاء، 02 يوليه 2024 - 05:42 م

 

1-

كان صوت أبي يرج صالة الشقة وهو يستعجلني بعنف كي أتجهز للنزول للمدرسة، كنت حينها في الصف الثاني الابتدائي، وصوت أمي يرن في أذني وهي تطلب مني في توسل أن أمد قدمي الصغير كي أضعه على ركبتها وهي منحنية على الأرض كي تربط لي رباط الحذاء الذي لم ينفك أبي يؤنبني بسبب عدم قدرتي على ربطه ويصفني دوماً بأنني فاشل.

 

كانت أمي تبتسم وتقبلني وتربت على كتفي وتهمس في أذني وهي تدعوني "سامر أشطر ولد في الدنيا"، تضع حقيبة المدرسة على ظهري بعد أن وضعت الكتب وعلبة بها ساندوتش وثمرة فاكهة وتخرج بي من الغرفة وهي ممسكة برفق بكفي الصغير وتطلب من أبي الغاضب دوماً أن يترفق بي فلا تسلم من تعنيفه، أخرج مع أبي المتذمر من التأخير وهو يشدني من يدي كي أسرع ويجلسني في المقعد الخلفي في السيارة وينطلق إلى المدرسة في طريقه إلى الشركة الصغيرة التي يملكها والتي تعمل في توريد المواد الغذائية إلى الفنادق.

 

على صغر سني أدركت أمرين، الأمر الأول هو أن أبي لا يحبني، هذا أمر تأكد لي مع الأيام، لم تكن مجرد مشاعر طفل صغير منحته البراءة شفافية وإحساساً لا يخطئان، بل كان الأمر في حقيقته وعياً يتعمق مع الأيام.

أما الأمر الثاني فهو أن أمي لا تملك أي تأثير على أبي فقد كانت قليلة الحيلة لا صوت لها خاضعة في مواجهة تصرفات أبي العنيفة، ودوماً يتملكها الخوف منه، الخوف على والخوف على نفسها، كنت أظن أن كل الآباء والأمهات على هذا الحال ولكن عندما شببت بعض الشيء عرفت أن هذا هو حال بعض البيوت وليس جميعها وأن هناك أطفال وزوجات ينعمن بحياة تغلفانها العاطفة والمودة.

في كل الأحوال كانت أمي هي ملاذي وكنت دوماً أتحرك معها، كان هذا الأمر يثير حفيظة أبي وتنطق ملامح وجهه بالتبرم والتذمر ولا يخل الأمر أحياناً من بعض كلمات مسمومة تنالني أنا وأمي.

 

في المدرسة كنت طفلاً انطوائياً، تأتي أمي في نهاية اليوم الدراسي لتصحبني إلى المنزل، يدور دوماً حديثاً هامساً بينها وبين مدرسة الصف، تأتي أمي بعدها وتحمل عني الحقيبة وتمسك يدي ونمشي سوياً وتسألني عما دار في الصف، تسألني عن أصدقائي الذين ألعب معهم وماذا لعبنا، في أغلب الأحوال لم يكن لدي ما أقوله، لم يكن لي أصدقاء، نعم أعرف زملائي ولكني لا ألعب مع أحد منهم، في فترة الراحة أتناول الساندوتش وثمرة الفاكهة وأجلس أتابع زملائي وهم يلعبون ويجرون حول الملعب، لا توجهني أمي بشكل مباشر ولكنها تثني على اللعب وتقول أنه مصدر سعادة.

 

عندما كبرت قليلاً أدركت أن بين أمي وأبي فارقاً كبيراً في المستوى الاجتماعي، ورغم أن أمي متعلمة ومتخرجة في كلية الزراعة، إلا إنها لم تعمل أبداً، وبينما كانت أسرتها أقل من المتوسطة، كان أبي ينتمي إلى أسرة موسرة وكل إخوته إما يعملون في التجارة أو يشغلون مناصب هامة، كان جدي لأبي من كبار ملاك الأراضي الزراعية وله عزوة كبيرة في مسقط رأسه، ربما فسر هذا لي هذا طبيعة التعامل ما بين أبي وأمي، وهو ما جعلني أزدا حنقاً على أبي.

 

على العموم ورغم كل شيء فقد كنا نعيش في شقة فاخرة في مصر الجديدة ولدينا سيارة فارهة والبيت في بحبوحة وسعة، في الصيف نذهب أنا وأمي إلى مصيف العائلة في الإسكندرية حيث تجتمع عماتي وأبنائهن، وزوجات أعمامي وأبنائهن في الفيلا الكبيرة في العجمي والتي كانت بلا مبالغة تتسع لثلاثين شخصاً وكنا نقضي هناك أوقات طيبة، لا شك أننا ننتظر رحلة العجمي السنوية من العام إلى العام ونجد فيها الكثير من الراحة.

 

كنت ألمح عمتي الكبرى تنتحي بأمي أحياناً وتطالبها بالصبر والتحمل، وأحياناً تنساب دموع أمي وهي تتحدث إليها فتحتضنها عمتي وتربت على كتفيها، لم أكن بحاجة أن أسمع حديث أمي، لقد كنت مطلعاً على معانتها التي تزداد يوماً بعد يوم، ورغم ذلك كانت هذه أول مرة أسمع أمي تقول أن سامر لا ذنب له في كل هذا، وأصدقكم القول، لقد شعرت أن أبي كان يرسلنا إلى العجمي كي يتخلص منا، أو مني أنا تحديداً، لم تكن فكرة إسعادنا لتخطر على باله أبدا.

لسبب ما أجهله لم تنجب أمي غيري، كنت طفلاً وحيداً، سألتها مرة إن كانت تستطيع أن تنجب لي أخاً مثل زملائي بالمدرسة الذين يتحدثون دائماً عن إخوتهم وأخواتهم، ابتسمت أمي حينها وربتت على كتفي وقبلتني ولم تجب على سؤالي، ولكن ملامحها تغيرت قليلاً رغم محاولتها ألا يبدو عليها أي تعبير.

 

يتبع

 

2-

لم أكن متفوقاً في دراستي، كنت تلميذاً عادياً لا شيء يميزني، أنجح كل عام وأنتقل من صف إلى صف آخر، مع ذلك كنت موهوباً في الرسم، تحدثت مدرسة الصف مع أمي وطلبت منها أن تهتم بموهبتي، ونصحتها أن تشتري لي أدوات الرسم من دفاتر بيضاء وألوان، وكانت أمي تشتري لي دفاتر عليها رسومات بخطوط رفيعة وتجعلني ألونها وتحتفظ بها في دولابي.

لم يكن هذا الأمر يعجب أبي وتشاجر مع أمي كثيراً بسبب تشجيعها لي على الرسم ولم يفته في كل مرة أن يتحدث عن عدم تفوقي في الدراسة وعدم حصولي على أية علامة كاملة في أي مادة، تتحمل أمي كل هذا الشجار والتعنيف وبعدها تأخذني وتنفرد بي في غرفتي وتطيب خاطري وتنصحني أن أمارس هوايتي وألا أتوقف عن الرسم، وعلى حد قولها إن التلاميذ الذين يحصلون على الدرجات النهائية كثر ولكن الموهوبون والمبدعون نادرون.

 

تخطيت المرحلة الابتدائية وبقيت في نفس مدرستي، بعض اللوحات والاسكتشات الصغيرة التي رسمتها موجودة على لوحة الأنشطة في ممرات المدرسة واسمي مدون تحتها، في كل مرة تدخل أمي فيها المدرسة سواء في اجتماع أولياء الأمور أو عند وجود مناسبة يدعون لها فإنها تذهب إلى ممر الإدارة وتقف كي تتأمل هذه اللوحات ثم تأخذ صورة لنفسها بهاتفها المحمول واللوحات خلفها.

في إجازة نهاية العام ما بين الصف الأول الإعدادي والصف الثاني وفي المساء حيث كانت أمي تستعد كي تصطحبني إلى فيلا العجمي مثل كل مرة، نشبت مشاجرة كبيرة بينها وبين أبي، دخل أبي غرفتي بينما أمي تنظم ملابسي وترتبها وتضعها في الحقيبة، وأنا جالس أرسم على الطاولة وأدير موسيقى غربية على هاتفي، لم يكن من عادة أبي أن يدخل غرفتي، ربما هي مرات معدودة التي أذكر فيها أن دخل الغرفة ولم يستمر وجوده سوى لحظات معدودة.

يبدو أنه كان يناديها لسبب ما وهي لم تسمعه بسبب الموسيقى، أخذ أبي الهاتف ورطمه بالأرض ودهسه بحذائه حتى تهشم تماماً، وقفت مفزوعاً منه وتركت أمي ما بيدها وأسرعت تقف بيني وبينه، فرفع أبي ولطمها، لم أشعر بنفسي إلا وأنا أقفز من الأرض حتى تشبثت بملابسه وحلت بينه وبين أمي وركلته بقدمي فانهال على ضرباً وصفعاً حتى وقعت على الأرض وارتمت أمي على وهو لا يتوقف عن الركل الذي تلقته عني وهي تصرخ وتطالبه بالتوقف وهو مهتاج لا يملك نفسه حتى تعب من كثرة الركل والضرب وخرج من الغرفة وهو يسب أمي ويسبني.

كانت أمي تكتم ألمها وهي تبكي وتنتحب بينما لم تتندى عيناي بدمعة واحدة، حاولت أساعدها على النهوض فلم أستطع ولم تستطع هي وطلبت مني أن أحضر هاتفها واتصلت بجدي الذي حضر على عجل هو وخالي.

 

لم يكن أبي موجوداً فقد خرج من المنزل، وهال جدي ما كانت تعانيه أمي وكان يرتجف من الغضب وخالي يسب ويلعن ويتوعد فأمسك جدي معصمه ونظر إليه بحدة فصمت، رفعا سوياً أمي من الأرض وهي تعاني آلاماً مبرحة في بطنها وجنبها، وأرقداها على السرير بينما أمسك جدي ذقني ورفعه لأعلى وعاين كدمة دموية في صدغي وفكي، كان صامتاً آسيفاً يشعر بالغضب ويكتمه داخل قلبه، طلب من خالي أن ينزل إلى الشارع ويطلب سيارة أجرة.

استندت أمي بساعدها على كتف جدي الذي أحاط خصرها بيده اليمنى وخرجت معهما وخالي يفتح باب المصعد والتفت إلى أمي وطلب منها أن تتركني في المنزل حتى يعود أبي، وقبل أن تتمكن أمي من قول كلمة واحدة كان جدي قد نهره وطلب منه أن ألا يتفوه بكلمة واحدة.

 

لا يملك جدي المال اللازم لدخول مستشفى خاص، ولم تأخذ أمي معها أية نقود، ذهبنا جميعاً إلى أحد المستوصفات الملحقة بمبنى جمعية خيرية في عين شمس حيث يسكن جدي، عاين الطبيب أمي وطلب إجراء أشعة لها وناظرني وفحص عيني بكشاف ضوئي وطمأن جدي علي، بينما كانت نتيجة أشعة أمي مزعجة للغاية.

أظهرت الأشعة شرخ بالساعد وكسر بالضلوع العائمة ونزيف في الرئة نتيجة كسر الضلوع، عندما طالع الطبيب الأشعة صمم على إبلاغ الشرطة، حاولت أمي أن تثنيه ولكنه صمم على الإبلاغ ورأيت حينها علامات الرضا على وجه خالي والتسليم على وجه جدي الذي طلب من الطبيب أن يبدأ في العلاج أياً ما كان، استلقت أمي على الترولي ودفعتها الممرضات إلى غرفة العمليات الصغيرة لبذل الدماء وغلق الشريان المتضرر في الرئة وأرجأ الطبيب جبيرة الشرخ وأخبر جدي أن الضلوع العائمة لا يتم تجبيرها وسوف يلف على صدرها ضمادة خفيفة للتثبيت.

في هذا اليوم مرت علىّ كل لحظة فيه كما لو كانت دهراً، هكذا لازال محفوراً في عقلي ونفسي، هكذا اكتمل بنا السد المنيع بيني وبين أبي.

يتبع

 

 

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 

 

 

 

 
 
 
 


 

مشاركة