ما أسهل أن يجلس الصحفي على مكتبه، يكتب ما يريد، ويرجح سيناريوهات على حساب أخرى، بالاعتماد على ذلك الحل الجاهز والسهل، والمعروف باسم "قالت مصادر مطلعة" أو "قال مصدر مسئول" أو "قال مصدر رفض ذكر اسمه، لأنه غير مصرح له بالحديث لوسائل الإعلام".

حدث ذلك في واقعة سقوط الطائرة المصرية، والتي ذهبت أغلب التحليلات بعد ساعات من الحادث لترجيح "العمل الإرهابي"، لكن كان لشبكة "سي ان ان" الأمريكية، رأي آخر، ذهب في اتجاه التلميح بسيناريو انتحار قائد الطائرة.

ولا يستبعد الخبراء هذا السيناريو في تفسير سقوط أي طائرة، بغض النظر عن جنسيتها، ولكن ستة أسباب تجعله "مستحيلا" في الحالة المصرية.

مع بداية أي حادث من هذا النوع يكون السيناريو الأقرب للتفسير هو حدوث عطل فني، تسبب في سقوط الطائرة، ولكن هذا السيناريو تم استبعاده، لأن ترجيحه، يحتاج شواهد لم تتوفر في الحالة المصرية.

ووفق اللواء طلعت مسلم، فإن أكثر من 98% من الأعطال الفنية تسمح لقائد الطائرة بالتواصل مع أبراج المراقبة لطلب المساعدة، وهو ما لم يحدث في الحالة المصرية.

لكن مسلم وهو يتحدث عن هذه الفرضية، قال " قد يكون هناك عطل مفاجىء وكبير لم يسمح لطاقم الطائرة بطلب المساعدة، ولكن هذا السيناريو فرصته ضعيفة جدا".

ونسبة الـ 2 % المتبقية، هي تلك التي تتعلق بأعطال مفاجئة، لا تسمح لقائد الطائرة بالتصرف، وهو سيناريو استبعده اللواء مسلم، لأن الأعطال المفاجئة، التي لا تسمح بارسال استغاثة، هي تلك التي تتعلق بانفجار خزان الوقود الخاص بالطائرة، كما حدث مع طائرة شركة " تي دبليو إيه " الأمريكية التي انفجرت بسبب ذلك في عام 1996، وعلى متنها 218 راكبا و12 من أفراد الطاقم.

وقال مسلم: " طائرات الإيرباص، والتي منها الطائرة المصرية، ليس لها تاريخ مع هذا السبب".

سيناريو الصاروخ

ومع استبعاد هذا السيناريو، بدأ البعض يفكر في اتجاه آخر، وهو أن أحد التنظيمات الإرهابية استهدفت الطائرة بصاروخ من الأرض.

ويعتمد ترجيح حدوث ذلك على معرفة الارتفاع الذي كانت توجد به الطائرة، وقت آخر ظهور لها على أجهزة الرادار، وقادت تلك المعلومة إلى استبعاد هذا الاحتمال أيضا.

وتستخدم التنظيمات الإرهابية صواريخ أنظمة الدفاع الجوي الفردي، التي يتراوح مداها بين 4 و5 كيلو، بينما كانت الطائرة تطير على ارتفاع 37 ألف قدم، أي ما يزيد عن 11 كيلو، وفق اللواء مسلم.

وإذا كانت كل الإحتمالات السابقة تم نفيها، يتبقى احتمالين، أحدهما انتحار قائد الطائرة، والآخر زراعة متفجرات داخل الطائرة، وقاد تاريخ قائد الطائرة المهني إلى نفي الاحتمال الأول، وترجيح الاحتمال الثاني.

وبينما كانت أغلب التقارير الصحفية واللقاءات الإعلامية تسير في هذا الإتجاه، فوجئ المصريون بشبكة " سي ان ان " الأمريكية، تلمح بسيناريو الإنتحار، اعتمادا على مصادر مجهلة، نسبت لها هذا التلميح.

وتعاملت الخارجية المصرية مع هذا التلميح، برد عاطفي، لم يتضمن أي معلومات، وقال متحدثها الرسمي المستشار أحمد أبو زيد على حسابه بموقع "تويتر": " إيحاءات بأن قائد الطائرة المصرية انتحر، في وقت لا تزال فيه أسر الضحايا في حالة حداد أمر لا يبعث على الاحترام ".

أسباب فنية

فنيا، لا يبدو هذا السيناريو مستبعدا، ولكن حدوثه يحتاج إلى اتفاق القائد ومساعده على نفس الأمر، وهو الأمر الذي يبدو مستحيلا لستة أسباب فنية، وفق الخبير في شئون الطيران المدني أيمن طلال.

طلال، وهو طيار مدني أردني سابق، قال أن كابينة قيادة الطائرة تنقسم إلى جانبين، حيث يوجد القائد في الجانب الأيسر، ومساعدة في الجانب الأيمن، وتوجد أمام المساعد نفس الأدوات والوسائل المتاحة للقائد، حتى يستطيع التصرف إذا حدث للقائد ما يحول بينه وبين القيادة.

وبالتالي، فإن اقدام الطيار على الإنتحار، يتطلب أن يكون مساعده لديه نفس الرغبة، وهو أمر يبدو مستبعدا، وفق طلال.

ويذهب خبير الطيران المدني الأردني إلى ما هو أبعد من ذلك، ويقول: " نفترض أن قائد الطائرة عزم على الإنتحار، وأقدم على ذلك، دون أن يكون لدى مساعده نفس الرغبة، فإن الإمكانيات المتاحة للمساعد تسمح له بالتصرف، ويكون لديه بعض الوقت، لابلاغ برج المراقبة".

كما أن لمساعد الطائرة فرصة للاستعانة بطاقم الضيافة للسيطرة على قائد الطائرة، إذا كانت لديه الرغبة في ذلك، حيث أن باب غرفة القيادة يمكن فتحه من قبل طاقم الضيافة ، عبر رقم سري يتم الاتفاق عليه، بحسب الطيار الأردني السابق.

ثلاث شواهد

رغم أهمية هذه الأسباب الفنية، التي ذكرها الطيران الأردني السابق، فإن هناك ثلاثة شواهد ، أشارت إليها التقارير الإعلامية، وهي تنفي أيضا، سيناريو الإنتحار.

الشاهد الأول، جاء من هيئة الطيران المدني باليونان، والتي قالت أن الطائرة دخلت منطقة التحكم فى المرور الجوى اليوناني، الساعة 2:24 بتوقيت اليونان، وتم التعرف عليها والموافقة على دخولها المجال الجوى، وكانت حالة الطيار المعنوية جيدة للغاية، حيث وجه الشكر للمرقبين الجويين اليونانيين باللغة اليونانية.

معنويات قائد الطائرة المرتفعة، والتي لا تتسق مع شخص لدية نية في الإنتحار، يدعمها تاريخ الطيار المهني، وهو الشاهد الثاني الذي أشارت إليه التقارير الإعلامية.

ووفق بيان للشركة، فإن قائد الطيارة محمد شقير من الطيارين المتميزين بالشركة وسجل 6275 ساعة طيران، بينها 2101 ساعة على نفس طراز الطائرة المنكوبة.

أما الشاهد الثالث، فهو سؤال يبدو منطقيا، وينحصر في السبب الذي يجعل قائد الطائرة يقرر الانتحار في رحلة العودة من باريس تحديدا.

وكانت الطائرة قد أقلعت من القاهرة لتونس ثم إلى أسمرة في إريتريا قبل التوجه إلى باريس، فلماذا يقرر الإنتحار في رحللة العودة من باريس؟

سيناريو الإرهاب

الأسباب الستة الماضية، التي تجعل سيناريو "الإنتحار" أقرب إلى الاستحالة، تجعل من الضروري السؤال: لماذا تحاول "سي ان ان" إذن تحويل دفة السيناريوهات نحو هذا الأمر، واستبعاد سيناريو زراعة متفجرات داخل الطائرة؟

خبير مكافحة الإرهاب العقيد حاتم صابر، بدا منزعجا من هذا السيناريو، وأضاف للأسباب الستة الماضية سببان آخران يجعلان هناك استحالة في ترجيحه.

وقال: " قائد الطائرة إذا رغب في الإنتحار، سيظهر بشاشات الرادار سقوط الطائرة من أعلى وحتى هبوطها على الماء ، وهذا ما لم يحدث".

والسبب الثاني، الذي يطرحه صابر، هو أن " الطائرة وان قرر قائدها الانتحار، فستظل على سطح المياه لفترة، وستتمكن أجهزة الرادار من رصد ذلك".

ويرجح صابر سيناريو زراعة المتفجرات داخل الطائرة، وقال: " هناك محاولة لاستبعاده ، لأنه يمثل إدانة للإجراءات الأمنية في مطارات أوروربا".

وأضاف: " تفجيرات بروكسل ليست عنا ببعيد، فوصول الإرهابيين إلى مهبط الطائرات، يمثل فضيحة أمنية".