بات الحديث عن أسعار السلع فى مصر رهنا بعبارات صارت محفوظة، مثل «أسعار النقل»، «ارتفاع أجور العمال»، « سعر الدولار»، وهى الأسباب التى كشفت جولة قامت بها «الأخبار»، أنها أشبه بـ «ورقة التوت» التى يخفى خلفها التجار سوءات الجشع والنهم لجمع المال.

ليس صعبا أن تصل إلى هذه النتيجة، فيكفى أن تقوم بزيارة لسوق الجملة بمدينة العبور، لتشاهد الفارق الكبير بين سعر السلعة فى سوق الجملة، وبين سعرها فى أسواق التجزئة، لتصل إلى نتيجة مؤداها أن «التجار لا يأكلون بالمعروف».
و«الأكل بالمعروف»، هى الجملة التى استخدمها أحد تجار الجملة خلال جولتنا، وحرص على تفسيرها لنا،بأنها تعنى المكسب المعقول، الذى يحققه تاجر التجزئة بعد خصم تكلفة النقل والعمال.
العرض والطلب
وتخضع الأسعار فى أسواق الجملة لآلية «العرض والطلب»، ومن ثم فإن السعر الذى يوضع على السلعة هو ترجمة لحجم المعروض منها وكمية الطلب على هذا المعروض.
ويصبح السؤال المثير للدهشة: إذا كان الأمر كذلك، فلماذا يصل ثمن السلعة التى تباع فى سوق الجملة بجنيه للكيلو، إلى ثلاث جنيهات وأكثر فى أسواق التجزئة؟!
استوقفنى هذا السؤال مع بداية الجولة فى السوق، وقد شاهدت أحد التجار يبيع قفص طماطم يبلغ وزنه 20 كيلو جراما بـ 20 جنيها، أى أن الكيلو الواحد يعادل جنيها.
تحمس الرجل للحديث، وكأنه يريد أن يزيل عن نفسه تهمة المشاركة فى مشهد ارهاق كاهل المواطن المصرى بارتفاع الأسعار.
قال الرجل، ويدعى محمد سعد، بعد أن قبل مبلغ العشرين جنيها، وحمد الله عليها: « المعروض من الطماطم دلوقتى كتير، عشان كده هى تعتبر ببلاش».
ببلاش؟!.. قلتها وقد ارتسمت على وجهى علامات الدهشة، تأثرا بسابق شرائى لها من أحد المحال بمدينة الشيخ زايد بـ «أربعة جنيهات للكيلو»، فأصر الرجل على قوله:» أيوه ببلاش.. ممكن ييجى وقت على الطماطم تتباع بعشرة جنيه للكيلو، لكن دلوقتى هى ببلاش».
وقبل أن استأنف الحديث معه، يبدو أن الرجل قرأ فى ملامح وجهى المقارنة بين السعر فى سوق الجملة والسعر فى الأسواق التى نرتادها بالقرب من مساكننا، فبادر إلىّ بالقول: « ما تقارنش بين الأسعار هنا، والأسعار تحت (يقصد أسواق التجزئة)، هما الله يسامحهم، بيغلوا كتير قوى فى السلعة».
ووفقا لسعد، فإن نصف جنيه، زيادة عن السعر فى سوق الجملة، ثمن عادل جدا لبيع الطماطم، لكنه وما إن كان يدافع باستماتة عن تلك القيمة التى قدرها، حتى فوجئنا بطرف ثالث يدخل فى الحوار مقترحا أن تكون تلك القيمة جنيها، أى يباع الكيلو بجنيهين.
الطرف الثالث
والطرف الثالث الذى دخل فى الحوار، لم يكن سوى أحد تجار التجزئة بشبرا الخيمة، الذى استخدم عبارات تكلفة النقل وأجور العمالة لتبرير هذا المبلغ.دخل الرجلان فى مناقشة حامية كل يحاول فيها إثبات وجهة نظره، وبقيت أنا واجما، لأنه ومع مبلغ الجنيهين الذى يدافع عنه تاجر شبرا الخيمة، لا يزال هناك فارق جنيهين عن الشيخ زايد.
ويبدو أن حالة الصدمة من الفارق الكبير بين الأسعار فى الشيخ زايد، وما أشاهده فى سوق العبور، كانت مغرية لنفس التاجر، الذى قال مبتسما: « أمال هتعمل ايه لو عرفت ثمن الباذجان».
كان شكل الباذنجان بسمرته الجميلة فاتحا لشهية السؤال، حتى ولو لم يبادر الرجل بالإشارة إليه، وقال وقد أمسك بثمرة منه: « ده بقى ثمنه 90 قرش للكيلو!».
«هو بقى فيه حاجة دلوقتى بـ90 قرش؟».. سألت مستنكرا، فكانت الإجابة الجاهزة لدى الرجل: « المسألة عرض وطلب.. النهاردة معروض كتير من الباذنجان، عشان كده سعره 90 قرش، امبارح كان سعره 2 جنيه، لأن المعروض مكنشى زى النهاردة».
وقبل أن اسأله عن السعر العادل لبيعه فى أسواق التجزئة، بادر الرجل بالإجابة عن السؤال المتوقع، قائلا: « يعنى ده المفروض يتباع تحت (يقصد فى سوق التجزئة)، بحوالى جنيه ونص، وده عدل ربنا».
ومجددا يتدخل تاجر شبرا الخيمة فى الحوار محتدا هذه المرة، قائلا: «جنيه ونص ايه.. حرام عليك يا عم.. مش لسه فى تكاليف نقل وأجور عمال بتشيل وتحط، باتنين جنيه ممكن تبقى المسأله جايبه همها».
ويعود الوجوم مرة ثانية إلى وجهي، فجنيهان للكيلو من الباذجان، ورغم أنه سعر مبالغ فيه بالنسبة لتاجر الجملة محمد سعد، إلا أنه أقل بكثير من ثمنه فى منطقة الشيخ زايد، التى وصل فيها إلى أربعة جنيهات.
الفارق أكبر
تركت محمد سعد، وأنا أحسب كم من الجنيهات الإضافية يمكن أن تتحملها ميزانية الشخص الذى يقيم فى منطقة الشيخ زايد، فقط فى سلعتى الطماطم والباذنجان، ولكن يبدو أن الحساب سيكون كبيرا، عندما يضاف له عنصر آخر، وهو الفاكهة.
حسن فتحي، أحد تجار الفاكهة بالسوق، هو من تكفل هذه المرة بصدمتي، أثناء حديثه عن أسعار الفواكه فى سوق الجملة.
كانت أكوام البرتقال وأقفاص الخوخ والمشمش المتراصة أمام المحل الخاص به، مغرية للسؤال، وكان الرجل كريما فى الحديث باستفاضة.
وبينما كان يتابع تعبئة البرتقال فى أقفاص، أمسك فتحى ببرتقاله قائلا: « شايف شكلها عامل إزاي.. تتاكل بقشرها، دى بقى سعر الكيلو منها 1.5جنيه».
عاد الوجوم إلى وجهى مرة أخرى، وأنا اتذكر لافتة الأربعة جنيهات التى وضعها البائع فى مدينة الشيخ زايد على البرتقال، ولم أسترد انتباهى مرة أخرى، إلا بسؤال التاجر: تحب تسأل عن حاجة تانية يا أستاذ؟
أومأت متحمسا: طبعا، فاستمر الرجل فى إطلاق الصدمات واحدة تلو الأخرى، مضيفا: «كيلو المشمش بـ 5 جنيهات، والخوخ من 2.5 إلى 3 جنيهات».
يلحظ الرجل هذه المرة ملامح الصدمة على وجهي، والتى كان سببها أن ما يباع بخمسة جنيهات، يباع فى مدينة الشيخ زايد بمبلغ يتراوح بين 10 و12 جنيها، والخوخ الذى يباع بثلاث جنيهات على حد أقصى، يتراوح ثمنه بين 7 إلى 8 جنيهات.
ولم يسألنى الرجل عن سبب هذه الصدمة، وبادر بتفسيرها قائلا:» أكيد أنت بتقارن بين السعر هنا والسعر تحت ( يقصد فى أسواق التجزئة)».
أومأت بالإيجاب، فاستطرد قائلا: «يا ريت الكل ياكل بالمعروف، يعنى يكسب بس فى المعقول يعني».
وقدم الرجل تصوره للسعر العادل لبيع السلعة مضيفا: « المفروض لما يشترى المشمش بخمسة يبيعه تحت بستة ونص بالكتير، والخوخ المفروض يبقى بأربعة ونص بالكتير، والبرتقال من 3ونص إلى 4 بالكتير».
مبررات واهية
هذا التصور الذى قدمه التاجر حسن فتحي، ينطبق على الخضراوات والفواكه، التى يتم نقلها من سوق العبور للبيع فى أسواق القاهرة والجيزة، ولكن ماذا عن أسواق التجزئة التى توجد فى مدينة العبور نفسها؟
لم نتجه بعيدا، فما أن تغادر بوابات سوق الجملة بالعبور حتى تجد سوقا للتجزئة، ستفاجأ عندما ترى السلع فيه قد أخذت أسعارا مضاعفة لسعرها فى سوق الجملة، فالطماطم حملت لافتة تشير إلى جنيهين، والخوخ حمل لافتة «6 جنيهات»، المشمش «10 جنيهات»، البرتقال «جنيهان».
ورغم أن اقتراب مسافة هذا السوق من سوق الجملة، لا تجعل هناك مبررا لأن تكون تكلفة النقل، أحد أسباب ارتفاع الأسعار، إلا أن رضوان فوزي، البائع فى السوق، صدرها كأحد الأسباب.
وشكك فوزى فى الأسعار، التى قالها تجار سوق الجملة لنا، وقال:«عشان انتم صحافة، منقلوش الحقيقة، لكن خليكو زباين عاديين، هتعرفوا الأسعار بجد».
اعتراف ودفاع
قد يكون حديث فوزى صحيحا، ولكن اخضاعه للاختبار فى سوق آخر، كشف عن أنه غير دقيق.
كان الاختبار فى سوق إمبابة الشعبي، حيث كشفت جولتنا عن أن الأسعار التى شاهدناها فى سوق التجزئة الملاصق لسوق العبور، هى ذاتها الأسعار فى سوق إمبابة.
ولم ينكر أيمن مسعد، أحد التجار فى سوق إمبابة، الأسعار التى قال فوزى إن تجار العبور ربما قالوها لنا بحكم هويتنا الصحفية، لكنه لم يجد مشكلة فى تبريرها، عبر الاستعانة بنفس المبررات الجاهزة، وهى أسعار النقل، أجور العمالة، رسوم الدخول والخروج من سوق الجملة.
ومع الاعتراف بأن هذه التكاليف التى يشير إليها فوزى تضيف إلى سعر السلعة، إلا أن الحل الذى يقترحه وليد عبد الفتاح، أحد تجار سوق الجملة بمحافظة أكتوبر، هو فرض تسعيرة جبرية، كما كان يحدث فى الماضى بأسواق الجملة.
وقال: « كانت المحليات تصدر أسبوعيا نشرة بأسعار السلع، يجب على الجميع الالتزام بها، فما المانع لو تم العودة لهذه التجربة فى أسواق الجملة وكذلك فى أسواق التجزئة؟».
وجاءت الإجابة عن سؤال فوزى من تجربة طبقتها حكومة د.حازم الببلاوى فى عام 2003، وهى إصدار تسعيرة استرشادية بأسعار السلع، لكن هذه التجربة لم يكتب لها النجاح.
ويبدو أن هذا الحل غير مطروح على الإطلاق، وهو ما أكده د.خالد حنفى، وزير التموين، فى شهر فبراير الماضي، على هامش افتتاح المركز القومى لحماية المستهلك بالإسكندرية.
وقال د. حنفى: التسعيرة الجبرية غير مطروحة على الإطلاق لأنها تتعارض مع الدستور المصرى، مشيرا إلى أن مصر تقوم على اقتصاد السوق الحر. والحل الذى شدد عليه د.حنفي، هو أن تقوم الحكومة بالمنافسة بقوة بطرح السلع الغذائية لخفض الأسعار من خلال تفعيل دور المجمعات الاستهلاكية والقوافل الغذائية فى أماكن الاحتياج وبأسعار مناسبة.
د.حنفي، ألقى الكرة بهذا التصريح فى ملعب الحكومة، فهل الحكومة على قدر هذه المسئولية، أم أنها ستترك المواطن فى مواجهة التاجر «وهو وضميره؟».. من خلال جولتنا يبدو أنها اختارت الخيار الثانى.