ألام وأوجاع وصرخات لا يسمع صداها إلا الله.. فبعد أن عشنا مأساة المرضى قررنا الكشف عما يدور خلف الأبواب المغلقة والبحث عن أماكن بيع أجهزة الغسيل الكلوي لنرصد مافيا تجارة المرض والمنتفعين من معاناة مرضى الفشل الكلوي.. غصنا بالتفاصيل لنعلم المزيد عن ذلك الجهاز الذي يودي بحياة الكثيرين بعد أن سلب صحتهم، وتسبب في تسلل الفيروسات والأمراض المعُدية إلى أجسادهم..

بدأت الرحلة من سوق الأجهزة الطبية بشارع القصر العيني، لم نترك باباً إلا طرقناه، ولم يكن من السهل الحصول على أي معلومة أو حتى الموافقة على أي حديث إذا تم اكتشاف هويتنا الصحفية، مما اضطررنا إلى تقمص دور بعض التجار الذين يبحثون عن صفقة أجهزة غسيل كلوي من أجل بيعها لبعض المستشفيات الخاصة وشحنة أخرى مُخصصة لإحدى الجمعيات الخيرية والتي بدورها ستوزعها على المستوصفات بمختلف الأقاليم والمحافظات.. وبالفعل أمسكنا بالخيط من بدايته، قمنا بسؤال أحد أصحاب محلات الأجهزة الطبية الكائنة بذات الشارع عن الأجهزة المستعملة وكانت المفاجأة مذهلة والحقيقة مريرة.. حيث اكتشفنا أن كل الأجهزة المنتشرة في سوق «الطب» كما يطلقون عليه التجار ما هي إلا أجهزة مستعملة من مخازن «الكهُنة« في أوربا، تدخل إلى البلاد بعد أن يستهلكها المرضى في المستشفيات بالخارج وتصبح غير صالحة للاستخدام الآدمي.


انتابتنا لحظات من الصمت لبضع دقائق، ولكننا استطردنا حديثنا مرة أخرى بسرعة كي لا تظهر ملامح الصدمة على وجوهنا.. وبعد إقناع عسير لصاحب المحل بأن كله « بيزنس»، أخرج لنا ورقة وقلم وكتب اسم شخص ورقم هاتفه، مؤكداً أنه يُعد أكبر تاجر للأجهزة المستعملة في مصر، وسرعان ما تحركنا متجهين نحو المحل الذي كان يفصل بينه وبين المحل الأسبق عدة شوارع، وبالفعل وصلنا فوجدنا أحد العمال ينظف المحل وبسؤاله عن اسم التاجر أجاب: «مولانا بيصلى إنتوا مش سامعين صوت الأذان ! «، فانتظرناه قليلاً حتى انتهى من أداء الصلاة وجاء إلينا، وأخذ يتأكد من هويتنا بأسئلة متكررة في حديث طال قرابة نصف ساعة حتى اطمأن قلبه، ثم قال لنا: «أنا مش أكتر من وسيط.. حالاً هوصلكم بالكبير.. ده اللي هتلاقوا عنده كل اللي بتتمنوه وزيادة وكمان بسعر حنين «، ثم حدثه عبر هاتفه وأخبره أسماءنا وبياناتنا واتفق معه على موعد للمقابلة.

سوق المستعمل

وبعد أن أجرينا معه اتصالا آخر، تم الاتفاق على اصطحابنا إلى بعض المخازن التي تعمل في بيع أجهزة المستعمل بل وتصليحها كي نرى كل شىء على أرض الواقع، وبين أزقة متشابكة ضيقة بمنطقة المنيب وجدناه ينتظرنا أمام محلات مفتوحة من الداخل على بعضها لنشاهد سوقا كاملة لأجهزة الغسيل الكلوى المستعملة والمُهربة من مختلف البلدان من بينها المتهالك والسليم و» النص نص» وفي الجانب الأيمن من المخزن شاهدنا عددا من العمال، تقبض أصابع كل منهم على آلة حديدية يسخدمها فى إصلاح جزء معين من الجهاز.. واتضح لنا بعد ذلك أن هذا الشخص يُعد من أكبر تجار الأجهزة الطبية المستعملة في مصر وأنه يربط بينه وبين كبار الشخصيات ورجال الأعمال والأطباء من ملاك المستشفيات الخاصة الكبرى « بيزنس» وعلى صلة مستمرة ببعضهم البعض.
اصطحبنا إلى إحدى الشقق التى يتوافر بداخلها عينات من الأجهزة والتى من المفترض أن يتم بها الاتفاق على كافة تفاصيل صفقة الشراء وعندما سألناه عن الأسعار، أجاب : « السعر على قد اللى معاكى.. مش هنختلف فى فلوس «، ثم طلبت من المختص أن يشرح لي تفاصيل أكثر عن ذلك الجهاز « الملعون»..!

« الجهاز أبو 100 ألف جنيه بنبيعه بـ 35 ألف بس، وعشان المحبة مش هنختلف كتير ونقول25 ألفا، وعندنا أجهزة لحد 7 آلاف جنيه».. هكذا بدأ التاجر يعرض بضائعه أمامنا في مزاد رخيص وبضمير أرخص والضحية هي صحة المواطن «الغلبان»، ومازالت تتوالى الصدمات علينا شيئاً فشيئا.. نتماسك أعصابنا ونكظم غيظنا بداخلنا ونستكمل حوارنا معه.

وعن أهم الماركات المنتشرة فى سوق المستعمل وأسعارها، علمنا أن أجهزة الغسيل الكلوي ماركة « فرزينيوس Fresenius « تحتل المرتبة الأولى بالسوق المصرية حيث يتم توزيعها بنسبة 88% وهي صناعة ألمانية ولكنها تُصدر إلى فرنسا عقب تصنيعها من أجل استخدامها في علاج المرضى بمستشفيات فرنسا، حتى تصبح غير صالحة ويتم الاستغناء عنها، وبعدها تدخل هذه النفايا إلى مستشفيات مصر، ومتوفر منها ثلاثة موديلات، الأول « 4008b « ويترواح ثمن الجهاز الجديد منه بين « 95 ألف جنيه و83 ألف جنيه»، ولكنه يبُاع مستعمل في مصر بسعر 35 ألف جنيه، والموديل الثاني هو « 4008s» وسعره مستعمل في مصر 45 ألف جنيه، بينما الموديل الثالث هو « 4008h «، وتحتل ماركة « جامبرو Gambro» المركز الثاني من حيث التوزيع في سوق المستعمل بنسبة 7 % ويبلغ ثمن الجهاز الجديد والمُصنع في دولة السويد 78 ألف جنيه ولكنه يُباع في مصر بـ 36 ألف جنيه، وبعد ذلك ماركة» نيبرو nipro « اليابانية ويبلغ ثمن الجهاز الجديد 80 ألف جنيه، بينما يُباع في مصر مستعمل بسعر 36 ألف جنيه، وبعدها ماركة « bbraun « الألمانية أيضاً وسعر الجهاز الأصلي يبلغ 65 ألف جنيه، لكنه يُباع مستعملا بثمن 35 ألف جنيه أيضاً، وآخر ماركات سوق المستعمل تأتي الأجهزة الصيني والتي قد لا يتعدى ثمن الجهاز 7 آلاف جنيه، وتترتب هذه الماركات وتنتشر حسب توافر قطع غيارها بالسوق وصيانتها.

فلاتر « مضروبة» !

أما « الفلاتر» فيقول أحد التجار: «كله موجود في السوق هناك فلاتر مُصنعة من مواد رديئة بس سعرها «على قد الإيد» هي التي تنال النصيب الأكبر من الإقبال، لأن كل المستشفيات تكون محتاجة أعدادا كثيرة وهناك فلاتر يُعاد تصنيعها وتُباع بأسعار أقل أيضاً وهناك فلاتر عالية الجودة وهذه يستخدمها الأغنياء فقط «
« عيشنى النهاردة وموتنى بكرة «.. هكذا أجابنا التاجر حين واجهناه بخطورة « الفلاتر المضروبة» رديئة الجودة وتابع :» المريض بيكون فى أشد الحاجة أن يغسل لأنه ممكن يموت في أي لحظة وبيختار الفلتر الأرخص لأنه ممكن يغسل في الأسبوع مرتين أو ثلاثة أو أكثر حسب حالته الصحية، ومن الصعب أن يتحمل كل هذه النفقات، وتتراوح أسعار الفلاتر بين 60 جنيها إلى 200 جنيه حسب طلب الزبون، وهناك فلاتر ألماني وصيني وأيضا فلاتر تصنيع سعودي، وتتوقف جودة الفلتر على مساحة التسطيح الخاصة به، ويُصنف حسب نوعه إما « hf «، « lf»، وهناك فلاتر بتتصنع في ورش هنا في مصر لأنها سهلة بالنسبة لأي حد يعمل بالمجال «. وكل فلتر له سعر يختلف عن الأخر، وطبعا كل هذا يتم للأسف بلا أي رقابة من الدولة. الطف بنا يارب.