لم تكن المناسبة، إحياء ذكرى إحدى الحروب التي خاضتها الدولة العبرية، إنما كان مقال تسيڤي كفتوري المنشور في باب الرأي بالموقع الإلكترونى لصحيفة هاآرتس نوعًا من الإسهام في الجدل الدائر فى إسرائيل حول المعايير الأخلاقية المفقودة عند تعامل جيش الاحتلال مع الفلسطينيين العزل.

يأتي ذلك على إثر الجريمة التي ارتكبها أحد جنود الاحتلال بقتل فلسطينى أعزل عاجز عن الحركة بسبب اعتداء الجنود عليه وملقى على الأرض، ولم يكن يمثل أي تهديد أو خطر يستدعى قتله.

المقال استغل حالة الجدل الدائر ليكشف عما تنكره إسرائيل على مدى عقود، ويعترف فيه الكاتب بأن إسرائيل قتلت الأسرى المصريين فى 1967.

معلومات غامضة

أول ما لفت الانتباه للمقال عنوانه: «وقتها أيضًا قتلنا العزل.. ولكن!». أما ثانى ما يلفت النظر فكان تلك الصورة الصماء التى أرفقتها الصحيفة بالمقال بلا تعليق أو تعريف، لكننا نحن المصريين نعرفها جيداً لأنها تعود لأيام حرب 67 والصورة لأسرانا لدى العدو الصهيوني.

إشارة الصحيفة إذن واضحة لكن دون إفصاح قد يورطها أو يورط الكاتب فى اعتراف أحد المشاركين فى تلك الحرب بقتل الأسرى المصريين، أما ثالث الملاحظات فكانت تعريف الصحيفة المقتضب للكاتب فى ذيل المقال بأنه محامٍ.. وفقط!.. ولأن الكاتب بدأ مقاله بجملة مبهمة كتب فيها: «في إحدى الحروب شاركت كعنصر احتياط في لواء استطلاع» دون أن يفصح عن تلك الحرب ولا عن رتبته العسكرية أثناءها، كان لا بد من البحث في سيرته الذاتية والتنقيب عن حقيقة تلك الحرب التي يقصدها في مقاله.

كانت المفاجأة أن كاتب المقال كان رئيسًا لوحدة عمليات فى جهاز الشاباك لكنه لم يشر لهذا ولا أشارت له الصحيفة.

كان الكاتب أكثر صراحة وتفصيلاً فى صفحته على الفيس بوك، فقد اتضح أنه كان قد نشر في ديسمبر 2015 نفس نص مقاله المنشور في هاآرتس ولكن مع الإفصاح بأنه كان يخدم فى المجموعة 14 بوحدة استطلاع فى سيناء إبان حرب يونيو 1967، كما أعاد نشر المقال على صفحته يوم نشره في هاآرتس مع تعليق بأن الرقابة تدخلت وحذفت بعض التفاصيل.

لا وقت للعبث

يحكى كفتوري: «بعد عدة أيام من القتال تم إرسالي مع سيارتين «چيب» فى مهمة، فجأة ظهر عشرات من جنود العدو، بالغين، عاجزين، يعلوهم الغبار، عزّل من السلاح.

«على صفحته يذكر بالتفصيل انهم فوجئوا بظهور 14 مقاتلا مصريًا من على جانبى الطريق، مرهقين عاجزين» فوجئنا، تقاسمنا معهم علب الطعام المخصصة للقتال خاصة البازلاء.

أبلغت قيادة اللواء، رد شخص عرّف نفسه بأنه ضابط العمليات قال انه لا وقت لديه للعبث معي، وأمرنى بالاستمرار فى المهمة. سألت: كيف؟ وكانت الإجابة: قم بما تفهمه.

أدركت انه عليّ أن أقودهم إلى مقر القيادة، «على الفيس بوك يرد تفصيل أكثر إذ يقول: أدركت أننى لا أستطيع تركهم فى الصحراء لأنهم بعد ان يستفيقوا قد يستعيدون سلاحهم المتروك ويشكلون تهديدًا للدرجات العليا من الإمداد وقررت العودة معهم إلى قيادة الكتيبة»، حين وصلنا قام جنود القيادة بتطويقنا غاضبين متوعدين، أشهرت سلاحي وقلت سأطلق النار على من يؤذى الأسرى، فجأة ظهرت طائرتان حربيتان «ستارتكروزر» عملاقتان فى مهمة إنزال للامدادات، صرخ الجنود طائرات «ميج» «ميج» وفروا هاربين.

يواصل الكاتب ذكرياته ويكتب: «إن لحظة أن أشهرت سلاحى فى وجه جنودى لا تنسى، وهي استثنائية من بين كل ما مر بي من أحداث فى تاريخى العسكرى و«الأمني»، لست أدرى إن كنت فعلا قد أنفذ تهديدي، لكنى أذكر بوضوح أنني كنت مستعدًا لذلك».

الرصاص فى الظهر

وصل ضابط العمليات مصحوبًا بجنديين وحدقنى بنظرة وأمرنى بإتمام المهمة، "على فيس بوك"، يقول إن القائد توسل إليه ألا يتركهم عنده، مضيفا: "في طريق العودة رأيت كومة من الجثث كلها مضروبة بالنار من الظهر - على فيس بوك يحدد أنها كانت 14 جثة - عدت غاضباً لاقتحم مقر القيادة شحب وجه القائد وأقسم له أنه لا يدرى شيئًا عما حدث لكن الأمر سيتم معالجته!.

يقول كفتوري: «صدقته» ويواصل: لقد ظلت هذه القضية تلازمني كنت أصارع نفسى وأصمت فقد خشيت أن يتسبب كشفي لها فى مقتل الجنود الإسرائيليين، ربما هي السذاجة. إن قتل الأسرى الذين لا حول لهم ولا قوة كان مستمرًا دائمًا.

بين الأمس واليوم

ويواصل: «الجيش والأخلاق متعارضان، فما الذى استجد؟ في الواقع لم تتخذ إجراءات ضد المعتدين لكن فى المقابل لم تمنح الشرعية للأعمال الرهيبة، وفي الواقع لم تطرح هذه المسائل لنقاش جماهيرى متعقل، فكل زانٍ اليوم يبدو أمام الجمهور ملكًا». وتبدو في هذه العبارة الأخيرة إشارة من الكاتب للمحاولات الإسرائيلية لتبرئة الجندى قاتل الفلسطيني الأعزل.