«الأستاذ» علامة استفهام كبيرة لأجيال متعاقبة.. تقرأ عن أدواره فى منتصف القرن الماضي تشعر أنك أمام رجل كبير بلغ من العمر عتيا..خبراته تشير إلى عبوره كثيرا من المراحل والحقب لكنك تتفاجأ انك أمام شاب صغير السن غزير العلم والثقافة والحنكة.



"الأستاذ" كنز معرفي عاش قرابة الـ74 عاما في بلاط صاحبة الجلالة رحلة عاصر خلالها الملك فاروق قبل ثورة يوليو ١٩٥٢، وستة رؤساء شاركهم تارة فى صنع القرار..وأبعدوه تارة عن دوائر صنع القرار..إلا أنه ظل فى المشهد الداخلي والعالمى بآرائه وكتاباته وتحليلاته.



«الأستاذ».. وهو ''صحفي''، ''مراسل حربي''، ''كاتب سياسي''، ''عضو مجلس إدارة ورئيس التحرير''، ''مستشار الرئيس''، ''وزير الإعلام'' وأيضا ''وزير الخارجية لمدة أسبوعين''، فضلا عن كونه مؤلفاً لكتب دمجت بين عمله الصحفي ومشاهداته للكواليس ومسرح الأحداث، ورؤيته التحليلية والنقدية.. كلها ألقاب التصقت بـ''هيكل'' على مدار أعوام عمله بالصحافة.



وللأستاذ حكايات وروايات بين دهاليز الرؤساء..بداية من الرئيس محمد نجيب مرورا بالرؤساء جمال عبد الناصر ومحمد أنور السادات وحسنى مبارك ومحمد مرسى وعبد الفتاح السيسي، نحاول الاقتراب منها خلال الفترة الذهبية ما بعد الثورة، مستنيرين بما كتب منه أو عنه وما دار من حوارات للدوائر القريبة منهما لإلقاء الضوء على جوانب من علاقته برؤساء مصر.



هيكل وطرد نجيب من جنة الضباط الأحرار
في عام 1953 قال محمد حسنين هيكل أن اللواء محمد نجيب لا يصلح للاستمرار في رئاسة مصر، لعدم تطابق صفات الترشيح عليه، خاصة فيما يتعلق بجنسية الأم التى قال هيكل إنها كانت سودانية.. لهذا فالتواصل بينهما كان يجرى على أرضية وعرة غير ممهدة.. يقول الكاتب الصحفي محمد ثروت مؤلف كتاب «الأوراق السرية لمحمد نجيب» إن «هيكل» صاحب مقولة الجنسية السودانية لوالدة «نجيب» بدعوى أن الإنجليز كانوا يبحثون عن رجل تجرى فى عروقه دماء سودانية أو تركية، لكى يضعوه على رأس السلطة فى مصر، بدلًا من الضباط الشبان أعضاء مجلس قيادة الثورة.
يضيف ثروت: كانت هناك حالة من عدم الود الشديد، بين كل من اللواء محمد نجيب، والكاتب محمد حسنين هيكل، ورحل نجيب عن الحياة قبل أن تصفو العلاقة بينه وبين الأستاذ.



هيكل وعبد الناصر.. الصديق المشارك فى صنع القرار
18 عاما دون انقطاع تلخص مشواراً طويلاً وعلاقة ممتدة بين الرئيس الراحل جمال عبد الناصر ومحمد حسنين هيكل، علاقة من نوع خاص تطورت من علاقة صحفي بمصدر إلى علاقة صداقة وتوافق فى الرؤى.. ويروى هيكل في حوار أجراه معه فؤاد مطر، وهو كاتب عربى قريب الصلة بكــــل ما كان يجرى فى مصر منذ 1962، وبعد رحيل عبـــد النــاصر جلس مع هيكل 20 ساعة وسجل معه إجاباته عـن كل الأسئلــة عـن عبد الناصر والثورة وأحداثها.



ويقول هيكل إنه رأى جمال عبد الناصر للمرة الأولى فى صيف 1948 خلال حرب فلسطين، وذات يوم من يونية 1948 كان هيكل متوجها من القدس إلى المجدل بسيارة جيب تابعة لقوات أحمد عبد العزيز توقفت السيارة قرب (عراق سويدان) بسبب معركة كانت دائرة، فنزل من السيارة وسار مشياً نحو (عراق المنشية) وعرف أن الكتيبة السادسة التابعة للقوات المصرية انتصرت بفضل قائدها الذى تمكن من صد هجوم يهودي مباشر كان يستهدف السيطرة على (عراق المنشية) و(عراق سويدان) وقال له الضباط والجنود الذين كانوا فى غاية السعادة إن الذى قاد العملية هو الصاغ جمـــال عبــــد النــاصـــر أركــان حرب الكتيبة السادسة.




وعن هذه العلاقة قال الأستاذ: أيضا أدركت وأنا أتكلم معه، أنني أتحدث مع شخص يفهم التاريخ والإستراتيجية جيدا، وملم بقضية فلسطين، ويفهم فى الأدب والشعر والثقافة، وكانت اهتماماته تتسع خارج حدود وظيفته»..فهذا الاتفاق كان أرضية جمعت صديقين وبدأت علاقتهما بثورة 23 يوليو التي كانت بمثابة ميلاد جديد لـ''هيكل''، واستطاع من خلال متابعته وتغطيته لتطورات حركة الجيش ورحيل الملك وتشكيل الوزارة، التقرب من العسكري ذى (الكاريزما) الطاغية ''جمال عبد الناصر''، لتنشأ بينهما علاقة وطيدة، بين عقل (هيكل) القريب من الجماهير وحكمة عبد الناصر، ليخرج في 1953 كتاب ''فلسفة الثورة''، والذي حرره ''هيكل'' بعد أن صاغه ووضعه ''ناصر'' وهو ما عرف بعدها بـ''الميثاق''.



لا يوجد دليل لبراعة ''هيكل'' وكيف استطاع تخفيف وتغيير المسارات، أقوى من ''خطاب النكسة''، وكيف استطاع بعد ساعات من الاجتماع المغلق بينه وبين ''ناصر'' تخفيف ألم ''الهزيمة'' لتخرج فى كلمة ''نكسة'' يمكن الشفاء منها وتداركها، وكيف استطاع ''قلم الصحفي'' كتابة كلمات لملمت الجماهير واستدرت تعاطفهم من ''قائد مهزوم''، لتخرج هذه الجماهير فى الشوارع مطالبة ''ناصر'' بعدم التنحى، وهو ما وصفه البعض بـ«المراهنة من ناصر وهيكل» على أعصاب وحب الجماهير.. علاقة الصداقة بين هيكل وعبد الناصر نقلته من خانة الصحفى الذى يبحث عن المعلومات، إلى خانة المشارك فى صنع القرار، والمحرك للعديد من الأحداث،وأحد صناع تاريخ مصر بعد ثورة يوليو.



هيكل والسادات.. «استئذان.. ثم انصراف»
رحل ''ناصر'' وبقى ''هيكل'' خزانة أسرار كبيرة، وتقرب السادات من ''هيكل'' باعتباره حلقة وصل واتصال جيدة مع الجماهير سواء من خلال مقالاته او منبر الأهرام.. و تعاظم دور الأستاذ خلال تغطيته لـ''الاستقالة الجماعية'' للوزراء فى بداية عصر السادات..وكتب هيكل ثلاثة مقالات حملت عنوان «السادات وثورة التصحيح» أشاد خلالها «الأستاذ» بالرئيس الذى لم يكمل عامه الأول وقتها فى سدة الحكم.



وقال فى أحدها: «كان السادات هائلًا فى هذه الساعة الحاسمة من التاريخ بأكثر مما يستطيع أن يتصور أحد.. كانت قراراته مزيجًا مدهشًا من الهدوء والحسم.. هذه المرحلة هي التي ستجعل من أنور السادات - بإذن الله- قائدًا تاريخيًا لشعبه وأمته، لأن القيادة التاريخية مرتبة أعلى بكثير من الرئاسة مهما كان وصفها».. ظلت علاقة هيكل بالسادات جيدة حتى حرب أكتوبر، فكانت ''حرب 73'' هى الأخرى فترة رواج لفكر وقلم ''هيكل''، ووصل الأمر أن قام ببعض التغطيات من الجبهة.



وكانت ''مانشتات'' الأهرام هي الأكثر متابعة وتوزيعا أثناء وبعد الحرب، لكن هيكل رفض طريقة تعامل الرئيس السادات مع انتصار حرب أكتوبر سياسيًا، وكان يرى أن السادات يعطى للولايات المتحدة دورًا أكبر مما ينبغى بعد انتصار تحقق بسلاح جاء من الكتلة الشرقية وعلى رأسها الاتحاد السوفيتى.



و توجه القلم إلى هجوم واستهجان لقبول ''السادات'' لقرار وقف اطلاق النار، وهو ما كلّـف ''هيكل'' تركه للأهرام (بقرار رئاسى شيك)، يعفيه من رئاسة التحرير مقابل أن يصبح ''مستشارا إعلامياً للرئيس''، وهو ما رفضه ''هيكل'' قائلا: ''إن الرئيس يملك أن يقرر إخراجى من الأهرام، وأما أين أذهب بعد ذلك فقرارى وحدى. وقرارى هو أن أتفرغ لكتابة كتبى... وفقط''.



هيكل: مبارك .. سلطة شاخت في مواقعها
العلاقة بين الرئيس الأسبق محمد حسنى مبارك والاستاذ محمد حسنين هيكل اشبه بالعلاقة مع السادات فبدأت بالتأييد ثم المعارضة وكان الرئيس مبارك يعرف جيدا قيمة وتاريخ هيكل لمعرفته المسبقة بعلاقة «الأستاذ» بالرؤساء السابقين، وتأثيره عليهم، لذلك دعاه إلى قصر الرئاسة بعد الإفراج عنه، بعد اغتيال السادات.



وكان قد تم اعتقاله ضمن نخبة من الرموز الوطنية فى قرارات سبتمبر ١٩٨١، ليمتد الحوار بينهما إلى 6 ساعات متواصلة، وفقا لما أورده هيكل فى كتاب «مبارك من المنصة إلى الميدان».. اعجب «الأستاذ» بمبارك فى بداية حكمه، وأعلن تأييده الشخصي له، بل تجاوز الأمر حدود الإعجاب، ودعا هيكل المواطنين لتأييد مبارك ومساعدته لينجح فى مهمته.



عقب أول لقاء جمعهما معًا، حصل هيكل من مبارك على رخصة مفتوحة للاتصال به فى أى وقت يشاء، لكن «الأستاذ» لم يستخدمها، إلى أن سافر إلى ألمانيا للعلاج، فاتصل به مبارك وعرض عليه العلاج على نفقة الدولة،لكن هيكل رفض.



كان مبارك يود أن يمد جسور التواصل مع هيكل، لكنه اختار أن يكون بعيدًا، وأن يتفرغ لكتاباته فقط، تلك التى تزعج مبارك وبعض رموز نظامه. كانت المحاضرة التى ألقاها هيكل فى الجامعة الأمريكية، عام 2002، بمثابة رصاصة فى قلب النظام، بعدما قال إن «السلطة شاخت فى مواقعها، وهناك مخطط واضح لتوريث الحكم، ومهما كانت الصورة حلوة، فلابد أن نقول كفاية».



هيكل ومرسى.. حذر وتساؤل



علاقة فاترة تلك التي كانت بين الأستاذ محمد حسنين هيكل ومحمد مرسى وإخوانه فلم ترتق ابدا لصداقة عبد الناصر وبعده مبارك..شابها حذر وتساؤل من الأستاذ وانتهت برد من الجماعة بقلم من متحدثها الرسمي أكد أن الفتور هو عنوان العلاقة بين الجماعة والأستاذ.



هيكل والسيسى.. لا معلومات
أحداث متلاحقة أعقبت (25 يناير 2011)، واتجهت الأنظار إلى الصحفي الكبير محللا للوضع ومتنبئا بالجديد، ثم رحيل المجلس العسكرى وقدوم رئيس منتخب، لا يلبث أن اختلف عليه الشعب، وتولد ''حركة تمرد'' تصرخ مطالبة برحيل ''مرسي''، لتقابل ''هيكل'' ويقدم لها (روشتة العلاج الصحيح) للوصول إلى ''خارطة الطريق'' لما بعد 30 يونيو، وهى المرة الأولى التي يقابل فيها شبابا محسوبا على الاتجاه الثوري منذ ميلاد 25 يناير..وهذا ينذر بطبيعة العلاقة بين الأستاذ والرئيس عبد الفتاح السيسي التى لم يعلن عنها شيء إلا أن ما يتطاير في الهواء يؤكد ان العلاقة بينهما لم تأخذ اى شكل من الأشكال التي اتخذتها مع سابقيه.