تحدث عن المجاعات في الصومال.. اذكر انتهاكات حقوق الإنسان في اريتريا.. أسرد قصصا لمعاناة الجفاف في جنوب السودان.. احكي عن الأمراض المستعصية في دول غرب أفريقيا.

مهما تتحدث عن تجسيد فصول الألم في أي من بقاع الأرض .. فلن تقدم شيئا مقارنة بما يحدث في مخيمات اللاجئين السوريين في لبنان والتي يتواجد بها أكثر من مليون ونصف المليون نازح سوري.

البؤس هناك يسير على قدمين.. التشرد والضياع والفقدان والحرمان حفروا ملامحهم داخل تلك المخيمات.. لم أكن أعرف ما هو المخيم إلا عبر شاشات التلفزيون.. ولكن بعد زيارتي لمخيم "كترمايا" للاجئين السوريين بجبل لبنان بالجنوب أيقنت أن المخيمات ما هي إلا مقابر جماعية تعيش بها كتل من البشر هربت من جحيم الحرب واختارت العيش في مخيمات بها جحيم من نوع آخر.. جحيم نقص الطعام والدواء والمياه والكهرباء.

"الأخبار" زارت المخيم ورصدت بالكلمة والصورة معاناة السوريين الذين تركوا ديارهم وبيوتهم قسوة، وفروا إلى حياة أخرى داخل "خيمة"، قد تكون هي الفصل الأخير في حياتهم.
عقارب الساعة كانت تشير إلى التاسعة صباحا.. السيارة بدأت تتحرك من وسط بيروت في اتجاه الجنوب.. فعلى بعد 40 كيلو متر تتواجد الواجهة المقصودة وهى إقليم "الخاروب" والذي بين جنباته مخيم "كترمايا" للاجئين السوريين، ويضم المخيم 200 خيمة يقطن بداخلها ما يقرب من 1000 سوري نازح من مختلف بقاع سوريا.

تتحرك السيارة مسرعة وكأنها تعرف ما يدور بخاطري من مشاعر تجاه قضية عربية، وأحاسيس صاحبة الجلالة لرصد أوضاع بشر ليس لهم أي ذنب في الحياة غير أنهم سوريون.

شخصان من لبنان يعملان في مجال الإغاثة الدولية لشؤون اللاجئين السوريين بصحبتي داخل السيارة لإرشادي على الطريق إلى المخيم.. مع اقتراب السيارة تبدأ الأفكار تنهال على رأسي.. ماذا يدور داخل المخيم؟، هل المخيم هو نفس المخيمات التي نشاهدها على شاشات الفضائيات أم لا ؟، ما هو حال السوريين القاطنين هناك؟، كيف سيستقبلوننا؟، هل لديهم وقت للحديث مع الصحافة؟، وهل مقتنعين أن للصحافة دورا في توصيل رسالتهم للعالم ومعاناتهم لكل بقاع الأرض؟.

هل لا تزال تسيطر عليهم أحلام الحياة والعيش رغم ما شاهدوه بأعينهم من قذائف بشار ورشاشات شبيحته وإرهاب داعش؟، أفكار وأفكار تطل برأسك كلما اقتربت من المخيم، وهاهو تفكيرك يتشتت مع لافتة كبيرة تطل على الطريق.

لافتة كبيرة تتوسط الطريق الأسفلتي مكتوب عليها "أهلا بك في إقليم الخاروب"، قصدنا الطريق المؤدي للمخيم، طريق ليس ممهدا.. الأتربة وبقايا المواد الأسمنتية في كل مكان، نتجه إلى الأعلى حيث بدأت بعض الأشجار تلوح في الأفق، ومن خلفها سلاسل جبلية يغلب عليها اللون الداكن ووسطها خيم تبدو كحبات القمح المتناثرة في الجبل لصغر حجمها.

"أهلا وسهلا"، هكذا استقبلنا شابا لبنانيا في منتصف الثلاثينات يبدو من هيئته انه المشرف أو المسؤول عن هذا المخيم، نزلنا من السيارة وبدأت في تجهيز أدواتي حيث بدأت المهمة في تسجيل لحظة من لحظات الزمن وهو يعصف بمجموعة من البشر في ابتلاء ما بعده ابتلاء.

قادنا الشاب اللبناني للدخول إلى المخيم.. "مخيم كترمايا للاجئين السوريين"، من الوهلة الأولى بدأت تتجسد فصول معاناة أكثر من 1000 سوري يقطنون داخل المخيم.. الشمس الحارقة تتعامد فوق رءوسنا.. الخيم تنتشر بطول وعرض المخيم.. فتحات صغيرة تتصدر هذه الخيم للدخول إليها والخروج منها.. نساء يجلسن أمام الخيم ويضعن أيديهن على وجوههن في انتظار غائب لا يأتي.. في انتظار معونة لا يعلم أحد موعد وصولها.. في انتظار ابن ضاع في سوريا وسط القذائف والطلقات.. في انتظار زوج انضم إلى قوات المعارضة ضد نظام بشار.. في انتظار مسجون داخل سجون الأسد ظلما وبهتانا.

العيون شاردة.. الأجسام نحيفة.. الابتسامة غائبة.. هكذا بدت الملامح مرسومة على وجوه القاطنين داخل المخيم.. ابتسامة خفيفة تسيطر على بعضهم بمجرد رؤية شخص غريب يدخل إلى المخيم اعتقادا منهم أن فاعل خير جاء بمساعدات إليهم، وسرعات ما تزول الابتسامة إذا كان الشخص ليس بفاعلا للخير أو أتيا بمساعدة مادية أو غذائية أو دوائية.

في بداية المخيم بدأت تزكم انفي رائحة كريهة لا اعلم مصدرها.. شعر الشاب اللبناني بما اشعر به وسرعان ما قطع فضولي وقال إنها رائحة دورات المياه!.. فالمياه هنا "مقطوعة" ولا تأتي إلا عدة أيام، وإذا جاءت تستمر لبضع ساعات ثم تعود إلى سيرتها في الانقطاع شبه الدائم، وبالطبع تنتشر هذه الروائح الكريهة التي تفوح بها تلك الدورات في الوقت الذي لا يوجد به أي صرف صحي يخدم المخيم، فالفضلات يتم إلقائها في مكان قريب من المخيم ليصدر منه تلك الروائح وتعشش داخل كافة أركان المخيم.

الروائح التي تنبعث من المخيم ليس مصدرها فقط عدم تواجد صرف صحي، ولكن عيناك تقع سريعا على شخص يقوم بإشعال النيران في إحدى جوانب المخيم، حيث يجمع هذا الشخص القمامة من كافة أنحاء المخيم ويحرقها للتخلص من القمامة حيث لا يوجد من يأتي لجمعها.

كلما تقترب من النيران تزداد اختناقا مع صغر حجم المخيم ومع تصاعد الأدخنة إلى أعلى، في الوقت ذاته كان هناك مجموعة من الأطفال يلهون بجوار تلك الأدخنة ويساعدون الرجل في حرق القمامة دون أي اهتمام لما يضر بصحتهم بعض استنشاق تلك الأدخنة.. يبدو أنهم تعودوا من قبل على استنشاق أدخنة قذائف الأسد فلا يبالون بهذه الأدخنة الخفيفة!.

كلاب ضالة تنتشر بطول المخيم كأنها تعيش وتقطن مع قاطني المخيم ..حشرات زاحفة منتشرة بالمكان بعض الأطفال يصرخون عند رؤيتها ويبتعدون عنها والبعض الآخر يلهو بها ..ذباب لا يتركك وكأنه يقدم واجب الاستقبال لدى وصولك إلى المخيم ..قطط يبدو عليها النحافة، بالطبع تأثرت بما تأثر به سكان مخيم كترماية من قلة الغذاء.

يبدو أن المخيم مقتصرا فقط على كبار السن والنساء والأرامل والمطلقات والأطفال ولا تواجد للشباب؟ أين الشباب السوري من الجنسين؟.. هنا تدخل الشاب اللبناني الذي تبرع بأرضه لإقامة هذا المخيم والذي يصطحبنا بداخله وقال إن هذا المخيم تم إنشاؤه لكبار السن والنساء والأطفال فقط ولا يسمح بدخول الشباب من الجنسين منعا للمشاكل او حدوث الاضطرابات، "فالطين لا ينقصه بلة".

وسط المخيم تتواجد بضعة فناطيس كبيرة تستقبل المياه القادمة من خارج المخيم على سبيل المساعدات والاغاثات، أمام إحدى هذه الفناطيس وجدنا امرأة عجوز تجلس "القرفصاء" وبيدها "جركن صغير".. سألتها عن سر جلستها فأجابت بان الفناطيس بلا مياه منذ أكثر من أسبوع وتأتي كل يوم لتمر على جميع الفناطيس لعل وعسى امتلأت بالمياه القادمة من أهل الخير.

تركنا المرأة العجوز تنتظر حضور الماء الذي لا يأتي بعد ، هنا تذكرت ولا اعلم لما تذكرت كيف نحن المصريين نهدر المياه؟!، عاود ذهني مرة أخرى إلى المخيم وشرعت في الدخول إلى إحدى الطرقات التي يتواجد بها أكثر من خيمة حيث طريق ممتد طوله عدة أمتار وعرضه متر ونصف المتر هو المؤدى لتك الخيم تنتشر به "ازيرة الماء" للشرب في حال انقطاع المياه ،ويجلس في جنباته نساء يتشحن بالسواد وتسيطر علامات البؤس والمعاناة على وجوههن، فلا يظهر منهن إلا وجنتين ومقلتين صغيرتين ووجه شاحب.

على باب خيمة، وجدنا امرأة تجلس وتنظر ألينا بكل اهتمام.. اقتربنا منها وسألت عن هويتنا.. وطلبنا منها الدخول إلى خيمتها لرصد الصورة العامة.. سمحت لنا بالدخول حيث باب خشبي طوله متر وعرضه كذلك، فتضطر إلى الانحناء حتى تستطيع الدخول إلى الخيمة، خيمة مساحتها مترين في مترين يتواجد بها "كنبة واحدة" للنوم و"وابور" للطهي وبعض الأدوات لتناول الطعام.

داخل هذه الخيمة قد يعيش أكثر من 6 أو 7 أفراد ينامون في صفوف متوازية على الأرض الإسمنتية غير المستوية ، وتنام الأم الأكبر سنا أو الأب فوق الأريكة التي تتوسط الخيمة والتي يتواجد بها نافذة واحدة تغطي بأسلاك تشبه أسلاك الحدود بين الدول.

درجة الحرارة داخل الخيمة مرتفعة للغاية نظرا لسوء التهوية والانقطاع الدائم للكهرباء في دولة لبنان وهو ما يعاني من نتيجته السوريون سكان المخيم، وبعض الخيم قد يكون حالها أفضل من تلك المجاورة بسبب وجود مروحة.

الخيمة مصنوعة من الفايبر الأقرب إلى البلاستيك محاط بطبقة من أكياس النايلون للحماية من لهيب الصيف وبرد الشتاء، سطح الخيمة يتكون من عدة خشيبات مغطاة ببعض "البطاطين" المهلهلة لمنع اختراق أشعة الشمس رءوس قاطني تلك الخيم.

تحتوي كل خيمة على صندوق خشبي كبير يشبه الصندوق الذي كانت تحتفظ به جدتي في قريتنا بالمنوفية حتى وقت قريب لوضع الأوراق الهامة بداخله والنقود، وفوق هذا الصندوق توجد بعض "البطاطين" الأفضل حالا جاءت عبر المساعدات لإنقاذ أهالي المخيمات من البرد القارص في الشتاء حيث معروف أن الشتاء في دولة لبنان وخاصة تلك المساكن التي تتواجد على جبل لبنان تصبح عرضة للثلوج، فما ظنك بالمخيمات المصنوعة من الفايبر وأسقفها من الأخشاب.

سرعان ما تخرج من الخيمة التي دخلتها بسبب ارتفاع درجة الحرارة والظلام الدامس لانقطاع الكهرباء وسوء التهوية، لتنتقل إلى العجب العجاب داخل مخيم كترماية لشؤون اللاجئين السورين.

مدرستان داخل المخيم !!..نعم مدرستين داخل المخيم.. مدرسة للأطفال دون سن 6 سنوات وأخرى فوق 6 سنوات.. اختار بعض قاطني المخيم ،والذين كانوا يمتهنون مهنة الدراسة في سوريا قبل التهجير بفعل جرائم بشار الأسد ، خيمتين لإنشاء المدرستين، داخل الخيمة الأولى وجدنا مدرسا يشرح للأطفال الصغار دون سن السادسة قواعد اللغة العربية ويعلمهم القراءة والكتابة ويحفظهم القران الكريم وينظم مسابقة بين التلاميذ ويأتي ببعض قطع الحلوى للمتميزين، وبين الحين والأخر يقوم المدرس بإجراء امتحانات شفوية وتحريرية للوقوف على مستوى التلاميذ.

في الخيمة المجاورة وجدنا تلاميذ اكبر سنا وفوق سنة السادسة وهؤلاء يقسمون إلى صفوف بدءا من الصف الأول إلى الصف الخامس، ووجدنا مدرسة تقوم بشرح اللغة الانجليزية اليهم وتقوم بنفس الأمر معهم من امتحانات تقويم ومكافأة المتميز وهناك امتحانات للعبور من الصف الأول إلى الثاني وللثالث والرابع والخامس.

داخل الفصل أو الخيمة توجد بعض المقاعد الخشبية التي تم صناعتها من شجر الصنوبر المنتشر بالمخيم وتم تسويته لجلوس التلاميذ عليه، واتى القائمون على المدرستين ببعض الأقلام والكراريس والكشاكيل والكتب الدراسية، ومع بدء الحصة يتم توزيع هذه الأدوات على التلاميذ ومع انتهائها يتم تجميعها مرة أخرى، فضيق ذات اليد لا يسمح بشراء أدوات أخرى في حال بقائها مع التلاميذ وضياعها.

صدق من قال.. إن الحاجة أم الاختراع.. وأن المحن تولد منها المنح، فما هو الهدف الذي يجبر هؤلاء الأطفال على التعليم، وما هو المستقبل الذي ينتظرهم؟ وما هي الجامعات التي سيدخلونها؟ وهل هي ستكون في لبنان أم في أراضيهم بسوريا؟ أسئلة تطل بعقلك بمجرد دخول المدرستين أو الفصلين أو الخيمتين إن صح الوصف أو التعبير.. أي تحدي هذا للظروف والمعطيات.. أي قدرة هذه على مواجهة الصعاب.. طلبت من إحدى التلميذات أن تأخذ علبة الألوان وتشرع في الرسم.. ترى عزيزي القارئ ماذا رسمت؟.. تلك التلميذة التي لم يتخط سنوات عمرها أصابع يدها.. رسمت علم سوريا، نعم رسمت علم سوريا، كأنها تؤمن بأن الوطن باق مهما بعدت المسافات ومهما سيطر عليها الشبيحة والبلطجية ومهما كان الثمن هي غربة، داخل مخيم، وعلى ديسك مهلهل لتناول قسط من التعليم.

بطول المخيم وأنت تسير على قدميك تسمع دعاء واحد ينطلق من داخل الخيم.. دعاء واحد يتجه نحو شخص واحد.. حسبي الله ونعم الوكيل فيك يا بشار.. مع كل أذان ينطلق في المخيم تسمع هذا الدعاء.. أذان الظهر جاء موعده ومعه تزايدت الأدعية على الرجل الظالم المسمى ببشار.. شرعنا في الصلاة ولكن كيف نتوضأ والمياه مقطوعة؟.. شرعت في التيمم وإذا بطفلة سورية وجهها شديد الاحمرار وشعرها متناثر على وجهها والتراب يعلو رأسها وملابسها البالية تحضر تدلني على زير لمياه الشرب.. وبالفعل توضأت وصلينا الظهر داخل خيمة خصصت لأداء الصلاة وهذه الخيمة هي مسجد المخيم ككل، مسجد مفروش بالحصير وسقفه من الخشب وأرضيته غير مستوية، تشعر بأنك في بدايات الفتح الإسلامي عندما كانت المساجد بسيطة للغاية ولم يطولها بعد أنامل الزخرفة والنقاشة في العصرين الأموي والعباسي وأجهزة التكييف في الألفية الثالثة.

انتهينا من صلاة الظهر، وشرعنا مرة أخرى للسير داخل المخيم، وقعت أعيننا على امرأة تقوم بغسيل ملابسها وملابس عائلتها، إناء من البلاستيك معه قطع من الصابون وبعض المياه تستخدمه تلك المرأة لغسل الملابس ثم تتجه إلى مكان تتواجد به أشعة الشمس حيث "أحبال غسيل" بين شجرتين لتقوم بتعليق تلك الملابس البالية عليها ثم تأتي في أخر اليوم لجمعها.

عفوا ليست بمخيمات.. وليست بمساكن إيواء ولكنها مدافن، مقابر جماعية نزح إليها هؤلاء السوريون من جحيم بشار الأسد إلى جحيم انقطاع المياه والكهرباء والعيشة داخل خيمة مساحتها مترين في مترين، حتى الدواء لا تستطيع الحصول عليه عند المرض.

لا تواجد لأطباء أو مستشفيات أو وحدات صحية، إذا مرضت داخل المخيم تذهب إلى اقرب مستشفي إقليم الخاروب وعندها يتم التفاوض على ثمنك، فالمستشفيات اللبنانية ترفض استقبالك إلا بعد وضع مبلغ مالي تحت الحساب، وإذا كنت لا تمتلك فأنت من المطرودين خارج المستشفى، حكايات وحكايات تسمعها عن المرض داخل المخيم سواء الربو أو حساسية الأطفال، وكيف انتهى بموت صاحبه لعدم توافر العلاج أو المستشفى.