قد تبدو خيمة من الخشب يترصص بجوارها مجموعة من الخيم المحاطة بطبقة من "أكياس النايلون"، ولكن بداخل هذه الخيمة حكايات وحكايات.. قصص تجسد مآسي ومعاناة بأشكال مختلفة وأماكن شتى داخل سوريا الحبيبة.. كل قصة تصلح لفيلم سينمائي داخل هوليود يشخص ما شاهده صاحبه بالعين المجردة من دمار وخراب لحق به وبعائلته.

داخل مخيم كترمايا جنوب لبنان سوريون ذاقوا الموت.. تنفسوا غبار الأسلحة الكيماوية.. تهدمت منازلهم ..اسُتشهد أولادهم.. تعرضوا للتعذيب على أيدي البلطجية والشبيحة.. فقدوا أموالهم بل وعرضهم.. فداخل المخيم سوريات تعرضن لخلع ملابسهن في سوريا للاعتراف عن أماكن اختباء أزواجهن وأولادهن العُزل.. مآسي ومآسي تقشعر لها الأبدان وتشيب لها الرءوس، كل هذا وضمير الإنسانية في غفلة من الزمن، كل هذا ومنظمات حقوق الإنسان تقف عاجزة مشلولة عن تقديم شيء للسوريين، كل هذا والأمم المتحدة لا تملك إلا أن تدين وتشجب، لكم أن تتخيلوا لو أن هؤلاء السوريون أشخاص أمريكيين أو إنجليزيين وتعرضوا لما تعرض له هؤلاء السوريين لقامت الدنيا ولم "تقعد "

"الأخبار" رصدت حكايات تسير فوق أقدام داخل مخيم كترمايا ستبقى شاهدة أبد العصر على جرائم نظام سوري بأكمله على "عتبة" إحدى الخيم تجلس شاردة الذهن "أميرة موسى فياض" من قرية الدبابية بالريف السوري، تنظر إلى الطريق المؤدي إلى المخيم كأنها تنتظر شيئا ولم يأت بعد؟ أميرة عندما تتحدث معها صوتها منخفض للغاية، يبدو على وجهها أثار انكسار لا يصلحه عقود من الزمن.

تكتشف من حديثها أن الجرح عميق لو اجتمع أطباء العالم على تدميله فلن يستطيعوا.

تعيش أميرة مع أطفالها الأربعة داخل هذه الخيمة الصغيرة، والتي تحتوي على سرير واحد طوله متر وعرضه متر، يرقد فوق هذه الأسرة طفلان، أما هي وطفلتيها فيلجأن للنوم طرحي الأرض، فالمقومات الأساسية للحياة داخل المخيم منعدمة، فلا تواجد للمياه أو الكهرباء، فضلا عن تواجد مروحة يتيمة تعمل عدة ساعات في الخيمة لمقاومة الحر الشديد.. تلجأ صاحبة الخيمة إلى حنفيات عمومية مصدرها الفناطيس المنتشرة بالمنطقة لقضاء احتياجاتها من المياه، وبالطبع تذهب هي وأسرتها للحمامات المشتركة لقضاء الحاجة.

بصوت متقطع قالت أميرة إنها نزحت إلى المخيم بعد سقوط قذائف الطائرات على القرية التي تقطن بداخلها، فقتل من قتل وجرح من جرح، واستطاعت هي وصغارها أن تصل إلى الحدود السورية اللبنانية، ومن هنا دخلت إلى الأراضي اللبنانية واختارت مخيم كترمايا للعيش بداخله.

"الحياة هنا أشبه بالحياة داخل المدافن"، هكذا تصف أميرة عيشتها داخل المخيم.. تلوح بيديها يمينا وشمالا.. انظر إلى هذا الكلاب الضالة التي تعيش معنا.. انظر إلى هؤلاء الأطفال الصغار يموتون يوميا لعدم توافر ادوية في حال مرضهم.. انظر إلى هؤلاء الكبار في السن يتجرعون الذل بحثا عن عمل رغم كبر سنهم واحتياجهم للرعاية ..أين زوجي؟ تأخذ أميرة أنفاسها، وتعاود سرد حكايتها لتقول تركت زوجي في سوريا، ولا اعلم أين مكانه الآن؟، تركته وكانت آخر كلماتي لي "خدي بالك من العيال"، سنلتقي يوما ما، سنلتقي في سوريا أو نلتقي في الجنة".

منذ هذه اللحظة وأنا انتظره، انتظره منذ عدة سنوات ولكنه الغائب الذي لا يأتي، لا اعرف إذا كان حيا أو ميتا، إذا كان مسجونا أو معتقلا، إذا كان مريضا أو مجروحا، ولكني انتظره في طليعة كل شمس وفي نور كل صبح على أمل ان يأتي إلى أولاده.

بدأت الدموع تذرف من عين أميرة على عكس بداية حديثها والتى كانت تبدو فيه متماسكة قوية ، ولكن عندما جاء الحديث عن المفقود هنا تحرك قلبها وتذكرت العشرة والحماية من الزوج ورق القلب وذرفت عيناها بالدموع الجبل يهتز بجوار خيمة أميرة.

تقطن "ميادة محمد دمران"، فتاة في مقتبل العشرينات من عمرها، تحمل طفلة ابنة عشرين يوما على كتفيها، ويمسك بجلبابها الأسود طفل آخر في الثالثة من عمره، لا تتكلم ولا تتحدث، تنظر إلى الأشخاص المتواجدة والدموع تسير على وجهها لا تتوقف، حاولت تهدئتها، وانصاعت إلينا وبدأت تتحدث.

قالت ميادة: "قوات النظام السوري وهي قوات بشار الأسد قتلت 11 من عائلتي بالكلاشينكوف والدبابات خلال مظاهراتهم السلمية، وقبضت على البعض منهم وعذبتهم لدرجة الموت، تعذيب بلا هوادة لا رحمة فيه ولا شفقة، وبعد القتل بدأت قوات النظام في تعقب العائلة، واضطرت مع زوجي للهرب وجئنا إلى مخيم كترمايا دون أن اعرف أين تم دفن أشقائي وإخوتي؟ جئنا إلى نوع آخر من الموت.. هكذا تكمل ميادة قائلة: "ابنتي حديثة الولادة تعرضت للمرض فور ولادتها وأصيبت بالصفرا وانتقلت بها إلى المستشفي اللبنانية القريبة من المخيم ، ولكن الإدارة رفضت استقبال حالة ابنتي إلا بد دفع مبلغ 1500 دولار تحت الحساب"، فاضطرت إلى "الحصول على سلفة" من المشرف على المخيم وهو من أهل الخير في لبنان، ولولا ذلك كانت ابنتي في الضياع والتحقت بالموت.

تصف ميادة الحياة داخل المخيم بأنها الطريق إلى الآخرة، فلا توجد كهرباء داخل المخيم، وتواجد مولد واحد يعمل لبضعة ساعات فقط، ونأكل وجبة واحدة في اليوم بسبب قلة المساعدات التي تأتي إلينا، فالمساعدات في البداية كانت جيدة، ولكنها قلت بعد ذلك ولا نعرف السبب، فأين الدول العربية من قضايا اللاجئين وأين الدول المانحة، وماذا عن الأموال التي نسمع عنها في شاشات التليفزيون عن توجيهها للاجئين السوريين".

"نفسي ألعب" محمد صبري فطين،طفل وجدناه يمشي متوكئا داخل المخيم، اقتربنا منه وعلامات الخوف تسيطر على ملامحه، شعر بالاطمئنان عندما بدأنا حديثنا معها "بألف سلامة عليك"، الطفل ذات العشرة أعوام تشعر وأنت جالس معه بأنه يمتلك خبرة محارب، بدأ لنا بوصف ما تعرض له منزله بمدينة حمص من قصف، قائلا كنت ألعب مع زملائي أمام بيتي وفجأة قصف الطيران السوري المنازل في حمص وتوجهت مسرعا إلى بيتي ولكني وجدته "كوم" تراب، لا اعرف أين ذهب أبي وأمي حتى الآن ولكني شاهدت جثث أشقائي الأربعة بعد أن حفر الشباب السوري تحت الأنقاض وأخرجوا جثامينهم، وأثناء عمليات إخراج الجثث هب الطيران مرة أخرى وأطلق قذائفه علينا وهنا أصبت بالعديد من الشظايا داخل قدمي، لذلك امشي متكئا ولا استطيع أن العب مع أقراني داخل المخيم كرة القدم مثلما كنت افعل في سوريا بسبب إصابتي.

تركنا محمد ينظر إلى أقرانه ولسان حاله هل سيأتي اليوم الذي أتلقي فيه العلاج وأشاركهم اللعب والجري؟.

وانتقلنا إلى خيمة بشيرة عبد الهادي البرعي.. امرأة سوريا ذات 50 ربيعا.. قد تصفها امرأة ولكنها في الحياة بألف رجل.. تحملت الكثير والكثير ولازالت تمتلك الأمل في العودة إلى سوريا يوم ما.. تمتلك الأمل في أن تجتمع بأصدقائها بقريتها في مدينة قرما السورية.. قالت إنها جاءت إلى مخيم كترماية منذ عام ونصف بعد أن قضت 3 سنوات في السجون السورية بعد أن قبض عليها نظام الأسد وأودعها السجن بسبب ابنها الذي يقبع أسيرا حتى الآن في السجون السورية.

وأكدت أن قوات النظام ألقت القبض عليها حتى تعترف على مكان ابنها ولكنها رفضت وتعقبت قوات النظام فلذة كبدها واستطاعت أن تلقي القبض عليه، وتستكمل حديثها قائلة: "ابني الآخر لا يزال محاصرا في سوريا مع والده وزوجته وأولاده في منطقة "القلمون" لا يستطيع الخروج منها، ودائما مهدد بقذائف النظام وأسلحته الفتاكة، وحاول أكثر من مرة الهرب ولكن في كل مرة يتم إلقاء القبض عليه من قوات النظام وتحبسه فترة ثم تعاود الإفراج.

وأشارت إلى أن قوات النظام تطوق منطقة القلمون لذلك الخروج منها شبه مستحيل، وكل فترة يقوم ابني بالاتصال بي للاطمئنان على صحتي ويشكو من نقص الطعام والشراب والدواء في سوريا، فهو وزوجته وأولاده يعيشون على التهريب، فقوات النظام تضيق الخناق على أهل سوريا وتمنع وصول حتى" الأكل والشراب" إليهم، ليس هذا فحسب بل لا يزال هناك الكثير عن الصابرة "بشيرة".

وتستطرد وتقول وتتحدث بكل قوة: "ابنتي وزوجها وأولادها لا يزالون هم الآخرون هناك محاصرون في سوريا، فهم يعيشون في منطقة "جرمانة"، وهناك النظام يحكم بالحديد والنار ولا يسمح لأي شخص أن يدخل أو يخرج، وإما سيكون جزائه الموت مذبوحا أو مشنوقا أو برصاص الشبيحة ، كما أن ابنتي وزوجها يقومون بدفع رشاوي لقوات بشار حتى يسمحوا لهم بدخول المياه والطعام، وهناك نجح بعض الشباب السوري في حفر أنفاق بالمنطقة لتهريب المعونات الغذائية والمساعدات.

والمفاجأة التي كشفت عنها الحاجة بشيرة وهنا زال التماسك وبدأت الدموع تنهمر، حيث أكدت بشيرة أن علاقتها انقطعت بأختها منذ 3 أعوام ولا تعرف مكانها حتى الآن، ولا تعرف هل ماتت هي وزوجها وأولاده الثلاثة على يد الشبيحة أم لازالت على قيد الحياة تعيش بعيدة عن أعين النظام.

تصف الحاجة بشيرة الحياة داخل المخيم، بالموت البطء: قائلة: "نعيش عيشة الأموات"، فأنا امرأة مُسنة واحتاج إلى أدوية الضغط والسكر، ولكنني لا أجدها، كما أنني لا أجد الغذاء في بعض الأوقات نظرا لقلة المعونات القادمة للمخيم، فضلا عن اختفاء عامل الأمان داخل المخيم، فالمخيم مكشوف ووسط الجبل ومعرض لأي شيء في أي توقيت الخنساء تركنا بشيرة ودموعها على وجنتيها، وذهبنا إلى البؤس بعينه، معاناة ليس بعدها معاناة.. إنها" إيمان إبراهيم كنو" البالغة من العمر 63 عاما.

استشهد أولادها الثلاثة محمد وأنس وشذا، محمد توفي أثر قذيفة سقطت على منزله، وانس مات أثناء الاشتباكات مع قوات النظام، وشذا ماتت نتيجة قذيفة أصابت السيارة التي تستقلها.. يلقبونها داخل المخيم بخنساء حلب، فهي بنت مدينة حلب السورية.

تقول إيمان إن التاريخ تم تدميره في مدينة حلب، فلا وجود لمدينة حلب الأثرية التي يعود تاريخها إلى 300 عاما، البيوت القديمة تهدمت، والشوارع والحارات انهارت.. كل شيء اختفى بسبب القذائف والطلقات والرشاشات.

استطردت إيمان وقالت: "تعرضت للحبس 17 يوما، وقامت قوات النظام آنذاك بضربي وتعذيبي لدرجة أنهم "عروني من ملابسي"، ووجهوا إلي تهمة الإرهاب، ثم هربت مع مجموعة من السوريين من الجحيم وأتينا إلى لبنان، وقمنا بالنوم في الشوارع والطرقات، ولجأت إلى السكن في بيروت ولم أستطع دفع الإيجار فاضطرت إلى الذهاب لمخيم كترمايا.

انتقلنا إلى "أبو بدوه" كما يقال له وهو عم أحمد بدوي، البالغ من العمر 48 عاما، يروي عم احمد قصته بداية من معاناته في سوريا وصولا إلى المخيم في لبنان، قائلا: "أنا من منطقة بابا عمرو في سوريا، وهي المنطقة التي شهدت انطلاقة لثورة سوريا، فقد خرجنا للمطالبة بإجراء إصلاحات وتغيير الحكومة وإلغاء قانون الطوارئ، ففوجئنا برد النظام السوري بالقتل والذبح، ثم طالبنا بإسقاط النظام الدموي، ثم أصبحنا محاصرين في منطقة بابا عمرو لمدة 3 أشهر، وأثناء فترة الحصار استشهدت صحفية فرنسية، وكان القصف متواصل بدءا من الساعة الخامسة صباحا وحتى السابعة مساءا، وكان النظام السوري يستخدم صواريخ جراد لم أراها إلا أثناء خدمتي العسكرية، كما استخدم طلقات الكلاشينكوف وصواريخ ارض أرض.

وتابع: "خلال هذه الفترة والغازات المنبعثة من الغارات أدت إلى سقوط شعري وأصبت بحالة نفسية، حيث كان الجو ملئ بروائح تشبه روائح الكبريت وبطاريات السيارات.

يستكمل ابو بردة قائلا: "كنت من المطلوبين لدى النظام السوري، وابني أيضا كان جنديا في الجيش السوري وانشق عنه بعدما شاهد دماء أهله وأصدقائه وأقاربه تسال على مرأى ومسمع من العالم، وانضم إلى الجيش الحر، وقد كان شديد التفوق أثناء دراسته، ولكن لقي حتفه واستشهد أثناء إحدى المعارك مع قوات النظام الغاشم".

ويستطرد قائلا: "دخلنا على الحدود منذ 3 سنوات ونصف إلى مخيم كترمايا ولكن لا توجد أي خدمات ولا يتواجد أي فرصة عمل، كما أن اللبنانيين متعاطفين معنا، ولكن إمكانياتهم محدودة ولا يمتلكون أن يقدمون لنا شيئا سوا استضافتنا على أراضيهم.

علي طفش مسؤول المخيم وعضو مجلس بلدية كترمايا، قال: "تبرعت بالأرض لإنشاء المخيم لأن معظم الأسر والعائلات السورية التي تتواجد هنا تعرضت للظلم والعدوان وأصبحت لا تمتلك شيئا بعد أن افقدها النظام السوري كل شيء، وحاولت إنشاء هذا المخيم لتقديم أي وسيلة مساعدة لهم، وفي بادئ الأمر كنت نتلقى مساعدات ولكنها قلت بكثير، ونحن نحاول بكل ما أوتينا من قوة تقديم أي مساعدة لهؤلاء ضحية الأسد ونظامه".