في الحديث عن النهضة، تأتي أهمية "مصادر المياه" في المقدمة .. والحضارة المصرية أبلغ دليل على ذلك، لقيامها على ضفاف نهر النيل.
ولكن، ماذا عن مدن حققت النهضة حديثا، دون وجود مصادر للمياه، وفي مقدمتها مدينة دبي؟ .. من أين جاءت بمصادر المياه، التي صنعت نهضتها؟
الإجابة تكمن في "الطاقة"، والتي يؤدي امتلاكها إلى علاج كثير من المشكلات، ومن بينها ندرة مصادر المياه، وهذا ما حدث في دبي، ويسعى باحثون مصريون إلى تحقيقه في بقعة غالية من أرض مصر، وهي منطقة مثلث حلايب، عبر استغلال شمسها الساطعة في ثلاث مشروعات لتحلية المياه والزراعة وخدمة الصيادين.
ويتم تنفيذ المشروعات الثلاثة في إطار خطة أكاديمية البحث العلمي لتنمية المناطق الحدودية، وخصص لها مبلغ 10 مليون جنيه، وتهدف إلى توطين البدو بتوفير مصدر للمياه والزراعة وتحسين ظروف الصيد.
أولى هذه المشروعات، هي عبارة عن وحدة لتحليه مياه الآبار باستخدام الطاقة الشمسية، قام بتصميمها د.وائل عبد المعز، المدير التنفيذي لمركز تطوير المشروعات وتكنولوجيا الأبحاث العلمية.
وهذه التكنولوجيا، ليست بالجديدة، ولكن د.عبد المعز ، أجرى تعديلات عليها بما يجعلها تلائم بيئة منطقة حلايب المصرية.
وفي منطقة تصل فيها درجات الحرارة في بعض الأوقات من العام إلى 50 درجة مئوية، وتسطع فيها الشمس لفترات طويلة، يقول المدير التنفيذي لمركز تطوير المشروعات وتكنولوجيا الأبحاث العلمية د.وائل عبد المعز:" استفدنا من هذه الميزة، بالاستغناء عن البطاريات التي تستخدم في تخزين الطاقة الشمسية ".
وبمزيد من التفصيل، يشرح عبد المعز فكرته، موضحا:" في الأنظمة المعتادة، تتكون وحدات التحلية من ألواح ومحول وبطاريات، ووظيفة البطاريات هي تخزين الطاقة، بحيث تستطيع التحكم في الطاقة الصادرة من الوحدة، لتقوم بالتشغيل ليلا ونهارا، ولكن الأنظمة التي أنتجناها تخلت عن هذه البطاريات، في مقابل زيادة سعة المحطة ".
وتعمل محطة التحلية، وفق هذا التعديل، على الاستفادة من سطوع الشمس لفترات طويلة، بحيث تنتقل الطاقة من الألواح الشمسية إليها مباشرة دون الحاجة إلى بطارية، وذلك بعد تصميم نظام "سوفت وير"، يجعلها تعمل عندما تصلها كمية الطاقة الملائمة، وتتوقف عندما لا تصلها الكمية المناسبة.
وأضاف: " زيادة سعة المحطة سيعوضنا خسارة عدم التشغيل ليلا، وهو ما يعني أننا ضحينا بزيادة بسيطة في تكلفة التشغيل «تأسيس محطة بسعة أكبر»، في مقابل الحصول على تكلفة تشغيل أقل -الاستغناء عن البطاريات-".
ويبلغ العمر الافتراضي للبطاريات في الأنظمة المعتادة من عام إلى عامين، وتتنافس الشركات في الارتفاع بعمر البطارية، فضلا عن أن سعرها مرتفع جدا، وهي الإشكالية التي تجنبتها الوحدة المنتجة محليا، بحسب الباحث.
فلاتر محلية
وليس ذلك فحسب، فالوحدة شهدت، كما يقول الباحث، تعظيما في استخدام المكون المحلي في تصنيعها، فتم استبدال الفلاتر الأمريكية المستخدمة في الوحدات المعتادة، والمصنعة من "الفيبر"، بفلاتر تم إنتاجها محليا من الحديد المقاوم للصدأ، بحيث يكون ملائما للبيئة المحلية.
ودخل المكون المحلي –أيضا- في تصنيع لوحة التحكم الخاصة بالوحدة، ويوضح الباحث، أن ثمن المستوردة منها، والذي تستخدمه الأنظمة المعتادة، يعادل ألف دولار، بينما لا تتعدى قيمة المصنعة محليا ألفي جنيه.
ولا يوجد حتى الآن بمصر تكنولوجيا تصنيع الخلايا الشمسية، التي تمكن الباحث من إجراء تعديلات لمواجهة رياح السموم، التي تهب على حلايب، وهي رياح شديدة محملة بالأتربة والعواصف، ولكنه يقول : " توجد أنواع كثيرة للخلايا، تختلف قيمتها، باختلاق قدرتها على تحمل الظروف المناخية الصعبة، ووجدنا أن الخلايا التي تتحمل حتى 80 درجة مئوية، هي الأفضل في هذا الاتجاه".
سمك وخضروات
وتعد وحدات التحلية هي الأساس الذي يعتمد عليه نشاطان آخران تم تنفيذهما ضمن نفس المشروع، وهما الاستزراع السمكي وزراعة بعض الخضروات والفواكه، إضافة إلى زراعات الملحية.
ويقول د.عبد المعز: " مع كل 3 لتر مياه من الآبار، يتم تمريرها على وحدات التحلية، نحصل على متر مكعب مياه محلاه، بينما يكون هناك 2 متر مكعب مياه نسبة الأملاح بها عالية، وهذه المياه يتم توجيهها لاستزراع سمكي وزراعات ملحية".
وتقول الباحث بقسم تلوث المياه بالمركز القومي للبحوث، وأحد الباحثين المشاركين في هذين النشاطين د.فجر عبد الجواد: " ناتج محطات التحلية من المياه غير الصالحة للشرب، يتم ادخال جزء منها على وحدة معالجة تم تصميمها باستخدام مواد نانوميترية وأخرى مغناطيسية، حيث تكون المياه بعد الخروج منها صالحة للاستزراع السمكي وزراعة الخضروات والفواكه، بينما يدخل الجزء الآخر في الزراعات الملحية، والتي يكون ناتجها محاصيل رعوية، تصلح لتغذية الماشية".
وتضيف د.فجر: " هذه الوحدات تم تصنيعها باستخدام مكونات أغلبها منتج محليا، مثلها مثل وحدات تحليه مياه الآبار".
مراكب الصيد
وتفيد المشروعات الثلاثة "التحلية – الاستزراع السمكي – زراعة الخضروات" في توطين البدو بمنطقة حلايب المصرية، بتوفير المياه والطعام، وهذا ملائم لطبيعة نشاط السكان في تلك المنطقة.
ولكن النشاط في منطقة شلاتين، حيث صيد الأسماك، كان يحتاج لأفكار مختلفة، ونجح المشروع في علاج واحدة من أكبر المشاكل التي يعاني منها الصياديون وهو نفاد الثلج اللازم لتخزين الأسماك خلال رحلات الصيد الطويلة.
تقول الأستاذ بقسم الطاقة الشمسية بالمركز القومي للبحوث، والمسئول عن هذا النشاط ، د.نجوى خطاب: " نجحنا في إنتاج ثلاجات صغيرة تعمل بالطاقة الشمسية، وتمكن الصيادون من صناعة الثلج باستخدام مياه البحر"..ولا توجد في السوق المحلي مثل هذه الثلاجات، بينما الثلاجات التي توجد بالخارج، مصممة لتلائم مراكب الصيد الكبيرة، ويعد إنتاج ثلاجات صغيرة، نجاح كبير لهذا المشروع، بحسب د.نجوى.
وتوضح الباحثة، أن إنتاج الثلج وفق هذه الثلاجات يعتمد على استخدام وحدات تبريد تم تصميمها لتبدأ في التبريد عند درجة حرارة -18، لأن هذه هي الدرجة المطلوبة حتى يمكن تبريد المياه المالحة، وتحصل هذه الثلاجات على الطاقة من الشمس، وذلك عبر خلايا شمسية، تم تصميمها خصيصا لهذا الغرض.
وتضيف: " استخدمنا عدد قليل جدا من الخلايا، تم وضعها في المراكب على مساحة 10 متر مربع - 2 متر * 5 متر- ".
أمن قومي
ويثني رئيس محطة بحوث معهد بحوث الصحراء بحلايب وشلاتين د.أحمد خريشي على هذه المشروعات، التي بدأت تترك أثرا ملموسا في حياة البدو.
ويقول خريشي: " كان البدو يقطعون مسافة تقدر بـ 30 كيلو للحصول على المياه من المدينة، والعودة مره أخرى إلى الوديان، وساعدت محطة تحليه مياه الآبار على علاج تلك المشكلة".
وليس ذلك فحسب، بل أن البدو الذين كانت أقصى أمانيهم الحصول على المياه، أصبح بإمكانهم الآن، الحصول أيضا على خضروات وفواكه يتم زراعتها باستخدام المياه، وكذلك على أسماك، نتاج مزرعتين لاستزراع الأسماك تم تأسيسهما، بحسب خريشي.
ويضيف: " ننتظر إنتاج مزارع الأسماك من سمكة البلطي، وسيكون ذلك خلال أيام من الآن، وبدأ إنتاج الخضروات والفواكه من الخوخ والطماطم والخيار والبامية يظهر، ويفيد المجتمع المحلي".
ويتمنى د.خريشي أن يكون لدى أكاديمية البحث العلمي خطة لاستدامة هذه المشروعات، بحيث لا تتوقف حال تعرض أي وحدة من الوحدات لعطل، وذلك بعد أن بدأ البدو يتعودون على الاستفادة من مخرجاتها.
ويقول: " المساعدة على توطين هؤلاء البدو في الوديان، ليس ترفا، لكنه أمن قومي، بحيث لا تكون تلك المناطق مطمعا لأي جهة".
خطة للاستدامة
ما يتمناه خريشي ، قال رئيس أكاديمية البحث العلمي، د.محمود صقر، أنه ضمن خطة تنفيذ هذه المشروعات.
وأوضح صقر، أن هناك خطة لتدريب المجتمع المحلي بإشراف مجلس مدينة شلاتين على إدارة هذه المشروعات، على أن تشرف محطة بحوث الصحراء بحلايب وشلاتين على التشغيل والصيانة ، مضيفا: "ستنتقل المشروعات وإدارتها في مرحلة لاحقة إلى المحليات بعد ضمان التدريب".