يشغلنى حاضر ومستقبل الإسكندرية ككل أبنائها وعشاقها من المصريين والزائرين، فالإسكندرية ليست مجرد مدينة ساحلية أو مصيف جميل، الإسكندرية تاريخ وثقافة وحضارة ومفهوم للحياة والطبيعة والذات مختلف، وهى قادرة على أن تطبع أبناءها بخصائص وسجايا تبقى فى تكوينهم وسلوكهم وتشكل رؤيتهم. السكندريون فيهم من طبائع البحر الكثير، وهم جوادون بالشهامة والمروءة، لهم حس خاص بالمخلص والبسيط والمدعى، قادرون على الفرز عبر تاريخهم، فكم تقدموا الصفوف وقادوا البلاد والثورة وكانوا على مر عصورهم بنائين لا يقبلون الظلم وتعاف نفوسهم كل رخيص أو خسيس. البحر عالم كبير كون على ضفتيه ثقافة السكندريين فى غناها وتنوعها لتصبح المدينة «الكوزموبوليتان» بجالياتها المختلفة وتفاعلاتها ومواريثها الحضارية وسحرها الأخاذ وجمالها المعهود. لذلك انتفضوا وثاروا عندما رأوا «عروس البحر المتوسط»، تستحيل إلى»أرملة البحر الحزين»، إذ انحسر عنها ثوب الجمال وعانت تدنى مستوى الخدمات والتكدس المرورى والضوضاء وسوء التخطيط وعشوائية الإدارة وتراكم المخلفات وأكوام وتلال القمامة وسوء حالة الخدمات الصحية والتعليمية وتعنت البيروقراطية فى المصالح الحكومية والمحليات وانتشار المناطق العشوائية والبناء المخالف والتعليات خارج القانون بكل ما تعنيه من موت مجانى جراء الذمم الخربة وفساد الأحياء وتواطؤ المنحرفين فى مواقع السلطة، ورفضوا أن يوكل أمرها لمن لا يعرفون قدرها ولا تاريخها وأهميتها الاستراتيجية عاصمة للفكر والفن والعلم والثقافة والصناعة والتبادل التجارى والتعاون الدولى. ولعل الإنصاف يقتضينا أن نشير إلى أن إهمال الإسكندرية لم يكن ظاهرة تتعلق بالمدينة نفسها، إنما هى سمة عصور وعهود مختلفة من الإهمال والارتجال وسوء الإدارة وعدم الكفاءة ضربت موجاتها المتتالية كل محافظاتنا ومعظم المدن فى بلادنا المحروسة.
ولعل الإسكندرية اليوم فى حال أفضل مما كانت عليه فى نوفمبر الماضى حين غرقت ومعها الحكومة فى نوة الأمطار وثار السكندريون وتدخل رئيس الجمهورية لإنقاذ الإسكندرية بمخصصات عاجلة ومساعدة قواتنا المسلحة وتغيير المحافظ هانى المسيرى الذى لم يتقبله شعب الإسكندرية، فلم يقدم لهم شيئاً يذكر إلا الاستفزاز بتصرفاته غير المسئولة وتعاليه المرفوض، ولعل الأمر يختلف مع المحافظ الحالى فهو منسوب للإسكندرية ومن أبناء جامعتها، ولا يهتم بحمام الشمس «التان» و»التاتو»، لكن عليه أن يهتم أكثر بشعب الإسكندرية ويعيد مذاكرة تاريخها ويعرف رموزها وقدرها.
حين دعانى المثقف الكبير جمال الشاعر فى برنامجه الناجح «بصراحة» على الفضائية المصرية مع اللواء طارق المهدى محافظ الإسكندرية الأسبق فى حلقتين عن الإسكندرية 6، 13 نوفمبر 2015، قدم جمال الشاعر رؤية متماسكة أصر ألا تكون محاكمة لمحافظ سابق أو لاحق، وراح يعلق الجرس فى رقبة مثقفى الإسكندرية وعلمائها وجماهيرها ومؤسساتها العريقة الذين سكتوا جميعاً على سياسات تجميل الكورنيش مع إهمال صيانة وتجديد البنية التحتية لمناطق وأحياء الإسكندرية، ولم يقدموا رؤية مغايرة تدفع بالمحافظين السابقين إلى الاهتمام بالمناطق الشعبية المظلومة وتعمل على تلافى المشكلات قبل وقوعها، مما أوصل الإسكندرية إلى ما صارت عليه، وكان رأيى ولايزال أن المشكلة أكبر من شخص المحافظ أو طبيعة عمله، وأبعد من دور المثقفين ورموز المدينة، القضية تكمن فى الرؤية السياسية الحاكمة ومنظومة الإدارة المحلية القاصرة، وهى لا تحل بالغوص فى تفاصيل عربيات الشفط والكسح وأكوام القمامة و»شنايش» تصريف المطر ومحطات الصرف والتعليات المجرمة وخطوط التنظيم والقانون وحدها، وإلا ستظل المشكلة قائمة سواء كان المحافظ عبد السلام المحجوب أو عادل لبيب أو طارق المهدى أو محمد عبد الظاهر، فأى محافظ سيظل رهناً لقانون لا يفوضه الصلاحيات الكاملة فى محافظته، ويجعله مرهوناً لقرارات وخطط واستثمارات الوزراء المعنيين فى الحكومة المركزية الذين يتحكمون فى موازنة المحليات، فلا يمكنه أن يرتب أولويات محافظته واحتياجاتها المالية ومشروعاتها التنموية إلا بموافقة واستجابة الوزير المسئول، وهذه أخطر عيوب قانون الإدارة المحلية الذى يحول المحافظ إلى مجرد منسق عام أو مندوب للحكومة فى محافظته، ناهيك أنه ليس من صلاحيات المحافظ تعيين رؤساء الأحياء أو إعفاؤهم من مناصبهم إلا من خلال وزير التنمية المحلية ومجلس الوزراء، بذلك يتجلى لنا خلل القواعد التنظيمية والإدارية الحاكمة لعمل المحافظ ومدى مسئولياته. من هنا نطرح ضرورة فكرة التحول من الإدارة المحلية إلى فكرة الحكم المحلى، أو الحكومة المحلية التى يكون فيها المحافظ هو ممثل رئيس الجمهورية فى محافظته، ليس فقط سياسياً وإنما إدارى وتنظيمى، تقدم له الحكومة موازنة محافظته كاملة بالتنسيق مع وزارات التخطيط والمالية والتنمية المحلية، الأمر الذى يحتاج تشريعاً جديداً يتصف بالحداثة والجدية والمسئولية الواقعية، ساعتها نستطيع محاسبة المحافظ إذا قصر وتعلق على كاهله كافة مسئوليات ومتطلبات تنمية محافظته وحسن أداء مسئولياته. هذا يحتاج تشريعاً كما اقترحت، تسأل عنه الحكومة ومجلس النواب وليس المحافظ، الذى يسأل فقط عما لديه من صلاحيات وما يتخذه من قرارات.
ولقد أدهشنى ما طالعت عن قرار المهندس محمد عبد الظاهر بشأن تطوير منطقة الكورنيش فى «بئر مسعود» لتعظيم قيمتها الأثرية والتاريخية وجعلها بمثابة مركز ثقافى مفتوح لتقديم عروض الفنون المختلفة لتنمية المستوى الذوقى والثقافى للمواطنين. وهنا أختلف مع سيادته وأنبه إلى أننا قاطنو هذه المنطقة سبق أن تضررنا من الضوضاء المستمرة ليل نهار دون انقطاع مما يستحيل معه العيش فى المكان الذى تحول مرتعاً للباعة الجائلين والسريحة، والمراجيح والموتوسيكلات بأصواتها المزعجة والرحلات بالطبل والزمر والأغانى طوال الليل، فهل هذا ما يقصده المحافظ بتنمية التذوق الفنى والثقافى؟ ومتى يقتنع المحافظون بالمشاركة المجتمعية فى التخطيط لحياة المواطنين؟ ولماذا الإصرار على القرارات الفوقية رغم ثبات فشلها من قبل؟ إذ بناء على شكاوانا للمحافظين السابقين قامت المحافظة بهدم المظلات وإخلاء المكان، ثم يفاجئنا المهندس عبد الظاهر بإعادة المنطقة إلى سابق عشوائيتها تحت شعار تقديم عروض ثقافية، وهل الثقافة والعروض الفنية مكانها الكورنيش والشارع المفتوح على منطقة ذات كثافة سكانية عالية؟ أم هذا مكانه قصور الثقافة ومسارح المدينة؟. الأولى بالسيد المحافظ أن يراعى شروط البيئة والتنمية المستدامة ويقاوم التلوث السمعى والبصرى فى بير مسعود ويحفظ حقوق السكان فى حياة هادئة ولا يحولها مسرحاً عشوائياً يقض مضاجع الناس ويحيل حياتهم عذاباً. نتمنى من الأخ المحافظ أن يجد حلاً لذلك الارتجال وأن يعيد النظر فى هذه المنطقة التى تقام فيها العمارات بالعشرين طابقاً فى شوارع أقصى عرض لها ثمانية أمتار، الأوفق أن ينصرف جهد المحافظ لإعادة تخطيط هذه المنطقة ومعالجة عشوائياتها والبناء المخالف وتجاوزات الأحياء والمقاولين للتنظيم والتراخيص والشروط الهندسية وتهديد حياة الناس واستقرارهم.
يا سيادة المحافظ رجاء لا تسمح بتحويل منطقتنا لمرتع للبلطجية والجائلين والخارجين على القانون والمتجاوزين بالتعليات الخطيرة التى تهدد البنية التحتية للمنطقة وتضغط عليها كما تهدد حياة الناس وتحيل سكناهم إلى سامر شعبى تستحيل معه الحياة، وباسم من طالبونى بالكتابة إليك من أبناء الإسكندرية ورموزها أدعوك لزيارة المنطقة لتشاهد معنا على الطبيعة ما نعانيه من مشكلات. الإسكندرية ليست الكورنيش وحده يا سيادة المحافظ، واسأل المحجوب الذى عملت معه من قبل.