أسعد في كل رمضان، بحضور حفل الإفطار السنوي للقوات المسلحة.
فيه أري وجوها لرجال عظام من خيرة رجالات مصر، لا أقابلهم إلا في هذه المناسبة. منهم من قاد الجيوش والتشكيلات في معركة النصر، ومنهم من قاتل وحرر الأرض، ومنهم من حافظ علي التراب بعد التحرير وسلم الراية من جيل إلي جيل.
رأيت هذا العام، اللواء أركان حرب أحمد وهدان رئيس هيئة عمليات القوات المسلحة الأسبق، لم يجمعني به لقاء منذ أكثر من ربع قرن، ولم يسعدني الحظ في حفلات إفطار الأعوام الماضية بأن أقابله وسط حشود الحضور.
خط الزمن علاماته علي وجه الرجل، لكنه لم ينل من عزيمته، ولا من صلابته أو روحه المرحة، تعانقنا وقبلت رأسه، ووجدته يتفرس في وجهي وهو يبتسم وأدركت أنه يطالع أفاعيل الأيام في وجه الشاب الذي كان يعرفه!
تبادلنا أرقام الهواتف، وودعته وأنا أتذكر أول يوم لقاء جمعنا.
< < <
كان ذلك منذ ٢٨ عاماً مضت.
يومها كان اللواء أركان حرب أحمد وهدان يتسلم قيادة الجيش الثاني الميداني من اللواء أركان حرب حسين طنطاوي الذي عين قائداً للحرس الجمهوري.
كان حفل التسليم والتسلم هو الأول الذي أشهده كمحرر عسكري لجريدة «الأخبار» وظلت تفاصيله حية في ذاكرتي، رغم عشرات الاحتفالات المماثلة التي حضرتها في الجيشين الميدانيين والمناطق العسكرية طيلة الأعوام الماضية.
تسليم وتسلم القيادة هو واحد من أكثر التقاليد رسوخاً واحتراماً في العسكرية المصرية العريقة.
في العادة.. هناك نشرتان في شهري يناير ويوليو من كل عام، تعلن تفاصيلهما قبل موعد التنفيذ بأكثر من شهر، وإذا تضمنت إسناد منصب جديد إلي قائد تشكيل أو رئيس هيئة أو مدير إدارة أو خروجه إلي التقاعد، وتعيين قادة جدد خلفاً لهم في مناصبهم، يقوم القائد القديم بتجهيز ملفات مفصلة وشاملة عن الخطط والمشروعات الجاري تنفيذها، ويسلمها إلي القائد الجديد، ليواصل مهمته دون انقطاع عندما يحين وقت تسلمه منصبه، وهو علي دراية كاملة بأدق التفاصيل. ثم تتم مراسم الاحتفال بتسليم وتسلم القيادة بين القائدين أمام الرجال من مرءوسيهم في احتفال مهيب يحضره القادة السابقون، في مشهد يؤكد علي تواصل الأجيال في الجيش المصري العظيم.
< < <
هذا التقليد الرائع غائب للأسف عن معظم - ولا أقول كل - مؤسساتنا المدنية.
في أحيان كثيرة، يأتي وزير جديد أو مسئول كبير إلي منصبه، ويبدأ عمله بالطعن في قرارات سلفه، ويعاونه علي ذلك كتيبة المنافقين من بعض المرءوسين، بينما يبتلع الوزير أو المسئول السابق مرارته من خروجه المفاجئ أو غير الكريم من منصبه، ثم ينفثها بعد حين تشكيكا في أهلية الوزير أو المسئول الجديد لمنصبه، وذماً في خططه وقراراته!
في الأغلب الأعم، يودع المسئول مكتبه ويحمل معه ملفات الخطط موضع الدراسة، عملاً بسياسة «الأرض المحروقة»، ويدخل المسئول الجديد المكتب، وقد يبدأ في وضع نفس الخطط وينفق عليها شهوراً، وهو لا يعلم أنه قد سبق دراستها بالتفصيل وتحويلها إلي برامج عمل، وأن ملفاتها إما موجودة في أضابير ودهاليز الوزارة أو الهيئة التي أسندت إليه، أو أنها في معية المسئول السابق!
سمعت أموراً في هذا الشأن، من قبيل المضحكات المبكيات. فمسئول كبير ذهب بملفات دراسات حيوية إلي جهة مهمة يطلب الشروع في تنفيذها، بينما هي قيد التنفيذ منذ عهد سلفه!
وآخر كان يتحدث في اجتماع عن مشروع جديد محل دراسة، دون أن يعلم أن الدراسات التفصيلية للمشروع اكتملت قبل أن يأتي إلي منصبه!
< < <
الفرق بين تقليد «التسليم والتسلم» في العسكرية المصرية، وبين نهج «نقطة الصفر» في بعض القطاعات المدنية، مرجعه اختلاف ثقافة المنصب وفقه المسئولية.
في الجيش المصري المنصب تكليف مؤقت والمسئولية واجب وطني.
وفي بعض المؤسسات المدنية المنصب جاه، والمسئولية حق شخصي.
في الجيش المصري، يعامل القائد السابق بنفس الاحترام عندما ينتقل إلي موقع آخر، ويعامل باحترام أكبر حين يتقاعد.
بينما في القطاعات المدنية، ينظر إلي المسئول السابق علي أنه مغضوب عليه، ومطرود من جنة المسئولية ونعيم المنصب.
للإنصاف، أعرف مسئولين ووزراء يستعينون بخبرة أسلافهم، ويستنيرون بآرائهم، ولا يجدون في هذا ما يقلل من شأنهم أو يقدح في كفاءتهم، لكن هذه الحالات تبقي استثناء وسط قاعدة عريضة مستشرية!
< < <
نحن لا نملك ترف انتظار تغيير تلك الثقافة بفعل التراكم ومضي الزمن.
وأحسب أن الأمر قد يقتضي توجيهاً مستديماً من الرئيس عبدالفتاح السيسي للوزراء وكبار المسئولين، بتسليم وتسلم المهام والملفات والدراسات، بين من يغادر منصبه ومن يسند إليه المنصب، حتي لا نهدر وقتاً في إعادة بحث ما جري بحثه والبدء في أمور مهمة من المربع رقم واحد.
أطلب شيئاً أشبه بـ«إخلاء الطرف التنفيذي»، أو «تسليم العهدة السياسية».
وأظن أن من ألقي نظرة سريعة علي المائدة الرئيسية لحفل إفطار رمضان أو شاهد الصور التي نُشرت لها، لابد أن يدرك إيمان الرئيس السيسي بمسألة تواصل المسئولية ونقل الراية المصرية، واحترامه لكل مسئول كبير سابق أعطي بلده بإخلاص وتجرد.
بجوار الرئيس السيسي علي المائدة الرئيسية كان يجلس المشير حسين طنطاوي رئيس المجلس الأعلي السابق للقوات المسلحة الذي تحمل مسئولية إدارة البلاد في مرحلة عصيبة بشرف وتفان، والمستشار عدلي منصور الرئيس المؤقت السابق الذي حمل الأمانة في مرحلة عصيبة أيضا باقتدار، والدكتور كمال الجنزوري رئيس الوزراء الأسبق وأحد أبرز رجالات الدولة المصرية، والمهندس إبراهيم محلب رئيس الوزراء السابق والرجل المخلص الدءوب ومعهم علي المائدة المهندس شريف إسماعيل رئيس مجلس الوزراء وبالطبع الفريق أول صدقي صبحي والفريق محمود حجازي وقادة الأفرع الرئيسية.
< < <
ليس تفضلاً بل هو واجب، أن يبدأ الوزير الجديد عمله باستقبال الوزير السابق، والتداول معه وتسلم الملفات.
وليس عيباً بل هو التزام، أن يختتم الوزير السابق مهمته، بلقاء الوزير الجديد لتهنئته وإطلاعه علي خطط الوزارة ومشروعاتها الراهنة والمستقبلية.
ثم أليس من المفيد لأي وزير أو مسئول، وأليس من صالح هذا البلد، أن يدعو المسئول أسلافه إلي لقاء دوري كل ٣ أشهر مثلاً لتبادل الرأي، والاستنارة بخبراتهم، عند اتخاذ قرارات مهمة تتعلق بالوزارة أو الهيئة أو الجهة التي يتولاها؟!
أظن أن نقطة البداية في إدخال ثقافة التسليم والتسلم بمؤسسات الدولة المدنية، هي إقامة حفل تكريم للوزراء والمسئولين السابقين عند إجراء تعديلات وزارية يجمعهم بزملائهم الجدد.
ولنتذكر أن الرئيس المنتخب عبدالفتاح السيسي تسلم منصبه في احتفال رسمي، استن فيه تقليداً جديداً هو التوقيع علي وثيقة تسليم وتسلم السلطة بينه وبين الرئيس منصور.