في وطن يلملم شتات نفسه، ويعيد ترميم جدرانه، يصبح التفريط في حق المجتمع، وإهدار الملايين من أموال الشعب في إعلانات استفزازية ساذجة جريمة تستحق العقاب، وعندما تلغي الدولة الدعم علي الكهرباء والبنزين، وتدعم أصحاب القنوات التليفزيونية الخاصة بحملات إعلانية، لا تغني ولا تسمن من جوع، يصبح السكوت عن تلك المؤامرة جريمة أكبر!!
وحينما يظن مسئول عبقري أنه يستطيع محاربة الفساد الحكومي، والقضاء عليه من خلال حملة ساذجة تنزع مسئولية الحكومة عن الفساد! وحين يعتقد مسئول آخر أن حل الأزمة الاقتصادية، يكمن في إعلان مصطنع يروي تاريخ «حلق» الحاجة زينب الذي توارثته عبر الأجيال، ليستجدي ملاليم الناس الغلابة، ويتسول أموال المعدومين أمثالها، ويتخيل أن تبرعهم بكل ما يملكون من حطام الدنيا، هو السبيل لسد عجز الموازنة، وإنعاش صندوق تحيا مصر، فلابد أن يحاكم هذا وذاك المسئول بتهمة الغباء السياسي !!
وعندما يصل السفه والاستفزاز والاستهتار بمشاعر الناس إلي هذا الحد المزري من البذخ الدعائي والإنفاق الإعلاني، ونجد إعلانا لاحدي شركات المحمول يتكلف 60 مليون جنيه، لزوم الأبهة والفخفخة والنجومية! ونكتشف أن تلك الحملة الدعائية التي تطل علينا طوال ساعات النهار والليل عبر شاشة رمضان، ميزانيتها تتعدي النصف مليار جنيه!! فلابد من وقفة نطالب فيها المسئولين بإعادة النظر في قانون الضرائب علي الأرباح التجارية والصناعية، ذلك القانون «الأعور» الذي يمنح أصحاب المليارات إعفاءات ضريبية غير مشروطة، وبلا حدود علي هذا البذخ الإعلاني والسفة الدعائي، ويحرم المجتمع من حقه في تلك الأموال المهدرة التي حصدتها الشركة من جيوب المواطنين!!
والغريب حقا أن يحدث هذا في الوقت الذي نشهد فيه الدولة تستجدي مشاركة رجال الأعمال في كل مناسبة للمساهمة في إعادة بناء الوطن وتضميد جراحه وأوجاعه، ولا حياة لمن ينادي !!
ولكن ما رأيكم يا سادة.. إذا علمتم أن هذا القانون «الأعور» الذي يعفي أصحاب المليارات من الضرائب علي الأموال التي تنفقها في تلك الإعلانات الفجة والمستفزة، ويعتبرها مصروفات تخصم من أرباحهم دون قيد أو شرط، هو نفسه القانون الذي يشترط علي تلك الشركات التجارية والصناعية، ألا تزيد الأموال التي تنفق في الأعمال الخيرية والتبرعات والإعانات علي 10 % من صافي ربحها السنوي كحد أقصي للحصول علي إعفاء ضريبي عن تلك الأموال!!
لذا يصبح من العبث حقا أن نتساءل. لماذا لم تخصص شركة المحمول إياها هذه المبالغ لتجهيز مستشفي أو التبرع ببناء مدرسة، أو إعانة قرية فقيرة علي مد شبكات المياه والصرف الصحي، أو أي مشاركة مجتمعية أخري تدخل تحت بند الأعمال الخيرية؟!! كما يصير من السذاجة أن نتساءل عن الأسباب التي دعت الشركة لتقديم إعلان ضخم ومبهر، يجمع كل هذا العدد من النجوم، وأن تمنح كل نجم من هؤلاء النجوم 5 ملايين جنيه مقابل الدقائق القليلة التي يظهر فيها علي الشاشة، فالمثل الشعبي يقول « زغردي ياللي منتش غرمانة» ؟!!
المدهش أن الدنيا قامت ولم تقعد من أجل «سجادة التشريفات الرئاسية الحمراء» التي لم يزد ثمنها عن بضعة آلاف من الجنيهات، لكننا لم نجد أي غضاضة من تلك الليلة الحمراء التي تكلفت 60 مليون جنيه !!
لقد صارت دراما رمضان في ظل هذا المشهد العبثي الساخر مجرد أوعية، أو أطباق لتقديم كل ما لذ وطاب من صنوف الدعاية والإعلان علي مائدة الشهر الفضيل، وصار هذا الفن الرفيع مجرد «سبوبة» تحقق من ورائها الوكالات المتحكمة في سوق الإعلان بالوطن العربي أرباحا طائلة، وتنعش جيوب أصحاب القنوات التليفزيونية، ولا عزاء للنجوم الذين أضحوا مجرد «جوكي» تراهن عليه الوكالات في السباق الدرامي الرمضاني !!
وتبقي كلمة.. قد أقنع بأن السير مجدي يعقوب أستاذ جراحة القلب العالمي يصفق لعرض باليه بحيرة البجعة لفرقة البولشوي، أو السيمفونية التاسعة لبيتهوفن من عزف أوركسترا أوبرا فيينا، أو عرض علي خشبة المسرح في برودواي، لكن يستحيل التصديق أن البروفيسور يعقوب يصفق بتلك الحرارة لهذا الاستعراض المتواضع الرديء.. أقول تلك الرسالة لمخرج إعلان مركز القلب بأسوان !!