كانت شاهندة مَقْلَد وستظل أسطورة بكل المقاييس..وتكاد تكون الفلاحة الوحيدة في العالم التي شاركت في قيادة ثورة منظمة ضد إقطاع متوحش يحظي بتأييد وحماية جهات نافذة في السلطة.. ولو قُدِرَ لشاهندة أن تُولَد وتعيش في بلد يُقدِس الأرض والحرية ويحترم المدافعين عنهما، لكان لهذه الفلاحة الاستثنائية شأن آخر.. ثارت ضد القهر والسُخْرَة مع زوجها الشهيد صلاح حسين ثم أكملت المسيرة بعد تصفيته علي يد قاتل مأجور من عملاء الإقطاع.. والسؤال الذي مازال يبحث عن إجابات شافية.. هو «كيف استطاعت امرأة قروية مطلع الستينيات من القرن المنصرم تثوير وقيادة مجتمع ريفي مكبل بميراث ثقيل من التقاليد البالية التي كانت ومازالت تقمع المرأة وتعاملها بدونية واحتقار»؟.. ويزيد من إلحاح السؤال أن كمشيش كانت معقلاً لجماعة الإخوان المسلمين المعروفة بنظرتها الرَجعية للمرأة ومواقفها التاريخية المعادية لأي ثورة.. ناهيك عن أن الجماعة كانت تتعايش مع ظلم وعسف عائلات الإقطاع ولا تري فيهما ما يتعارض مع مفهومها «البراجماتي» أو النفعي للدين.. وهنا تتبدي المعجزة الكُبري التي حققتها ثورة كمشيش بقيادة صلاح وشاهندة.. فقد حوَّلا الفلاحين الميالين بطبيعتهم للإستكانة والرضا بالأمر الواقع حتي لو كان قاسياً، إلي وقود لثورة يسارية الطابع والفكر.. والأكثر من ذلك أن الثوار نجحوا ليس فقط في توعية الفلاحين بحقوقهم المُهدرة ولكن أيضاً في تعليم الأميين منهم.. فعندما قرر أنور السادات المتواطيء مع الإقطاع نفي الفلاحين الأميين البسطاء من كمشيش عقاباً لهم علي رفضهم الرضوخ لإرادة وتسلط الإقطاعيين، جندت قيادة الثورة مدرسين لتعليمهم القراءة والكتابة في المنفي.. وكان من هؤلاء الأميين المرحوم عبد المجيد الخولي، الفلاح الفصيح الذي سحر الناس ببلاغته وعمق وعيه بهموم الزراعة والزراعيين حتي رشحه بعض الثوار وزيراً للزراعة بعد ثورة 25 يناير.. أي أن شاهنده نجحت مع صلاح، ومع ثوار كمشيش من بعده، في لعب دور «المثقف العضوي» كما وصفه المفكر والفيلسوف الشيوعي الإيطالي انطونيو جرامشي.. أي المثقف الذي يرفض الأبراج العاجية ويلتحم بالجماهير ويعيش آلامهم وآمالهم.. وتلك معادلة صعبة فشلت في تحقيقها معظم النُخَب السياسية وخاصة قوي اليسار.. ولكن إنجاز شاهندة لم يتوقف عند تثوير وتحرير الفلاحين بل تجاوزه إلي تحرير المرأة من ميراث القهر والتخلف.. وكسر الصورة النمطية «للأنثي» المنكسرة والعاجزة.. وضربت المثل بنفسها برفضها الإرتباط بزوج مفروض عليها.. وعندما قُتل زوجها لم تنهزم أو تستسلم بل أعلنت أن صلاح لم يَمُتْ وأنه حيٌ في كل أبناء كمشيش وواصلت تحدي السلطات ورءوس الإقطاع .. كما تجاوزت أسطورة ومنجزات شاهندة حدود كمشيش.. إذ شاركت في الحياة السياسية ودافعت عن حقوق البسطاء والمهمشين في كل مكان ودخلت سجون السادات أكثر من مرة.. كذلك انخرطت في مظاهرات كفاية وثورة يناير والجمعية الوطنية للتغيير.. وربما كان مشهد محاولة كتم صوتها والإعتداء عليها عند قصر الإتحادية مِن قِبَل بلطجي معروف من قيادات الإخوان الحدث الأبرز في انتفاضة الشعب ضد حكم الجماعة.. ويمكن القول إن ما أنجزته هذه الفلاحة المصرية العظيمة يفوق في مردوده وتأثيره ما حققته كل المجالس والمنظمات والجمعيات النسائية التي أدمنت نضال الصالونات ولم تغير من الواقع شيئاً.. وأري أن من حق «الخالة شاهندة» علينا إبقاء أسطورتها حية وتدريس تجربة نضالها للأجيال.. وتخليد اسمها بإطلاقه علي المدارس والشوارع والميادين في المنوفية وكل أرجاء الوطن.. كما أرجو أن تعيد «دار ميريت» طبع كتاب «أوراق شاهندة» الذي حررته الدكتورة شيرين أبو النجا.. وأن تتحول حكاية نضالها إلي أفلام ومسلسلات ليعرف الجميع لماذا استحقت ابنة كمشيش عن جدارة لقب «أم المصريين»..