أثناء توجهي للبرلمان، وجدت مجموعة من الشباب يسدون شارع قصر العيني، اعترضوني، عرفت منهم أنهم من الحاصلين علي الماجستير. ويبحثون عن فرصة عمل. وكل ما يطلبونه أن أمكّنهم من مقابلة الدكتور علي عبد العال، رئيس البرلمان، لكي يتصل بالمهندس شريف إسماعيل، رئيس مجلس الوزراء. فيأمر بتعيينهم فوراً. وتحل مشكلتهم.
استغربت موقفهم. فهم إن كانوا أصحاب حق، فيجب أن يحصلوا عليه دون وساطة. لكنهم يبحثون عن هذه الوساطة. اكتشفت مدي قسوة حكمي عليهم. تعلموا وحصلوا علي الماجستير ولم يجدوا فرصة العمل. ومن حقهم طرق الأبواب والبحث عن الوسائل المتاحة في زمانهم حتي لو كانت هذه الوسيلة المتاحة وساطة.
سألتهم عن المذكرة التي يحملونها معهم قبل أن يفكروا في الوقوف في هذا المكان. اكتشفت أن كلا منهم يحمل دوسيهاً فيه شهاداته العلمية وأوراقه الخاصة التي قد تُطلب في حالة تعيينهم. عُدت أسألهم: لماذا لم يعدوا مذكرة تعرض حالتهم وتحدد حجم المشكلة والمطلوب لهم؟.
نظروا لبعضهم البعض كأنهم يستمعون هذا الكلام لأول مرة. وأنا استغربت موقفهم ووجدت نفسي فجأة أمام أحد مآزق الشخصية المصرية الآن. لا أريد أن أكتب كلاماً يوجع القلب أكثر مما هو موجوع. ولكن حامل الماجستير متخرج من الجامعة ومعه مؤهل عالٍ ولم يبق له سوي الدكتوراه حتي يشار له بالبنان. فكيف يفكرون بهذا المنطق البدائي الذي ربما لا نجده إلا عند من لم يحصل علي أي حظ من التعليم؟.
ولأن الوقفة تربك المرور وتعطل الناس. كنت أريد أن أنتهي بأسرع وقت ممكن من الكلام معهم. كنت حزيناً أن وصلنا في مصر إلي أن يحصل علي الماجستير شاب أو شابة لا يستطيع أن يفكر بطريقة منطقية تربط المسببات بالنتائج. وتحدد العلاقة بين المقدمات والنهايات. وتعرف المطلوب قبل أن يتجهوا إلي البرلمان من أجل عمل وقفة احتجاجية يطالبون فيها بحقوقهم.
يخيل إليَّ أن إحساسهم بأنهم أصحاب حق وأصحاب قضية قد أعفاهم من التفكير الجدي في الطريقة السليمة لعرض مشكلاتهم قبل أن يفكروا في الحضور إلي البرلمان والوقوف علي شكل مظاهرة تطالب بحقوقهم.
قبل يومين كان هناك عدد من الشباب المعممين يرفعون لافتات تقول إنهم يعملون خطباء في مساجد وزارة الأوقاف. يحصلون علي مرتبات تبدأ من 150 جنيهاً شهرياً وتنتهي عند 500 جنيه. كانت اللافتات مكتوبة بخط عريض تسهل قراءته. وكانوا يقفون منتظمين. ولم يكن لدي رجال الأمن في الشارع رغبة في تفريقهم أو منعهم من الوقوف. ويومها لم أتوقف لأسألهم. وهم لم يسعوا إليَّ بأي كلام.
لكنه منظر مألوف ومتكرر. وعلي الرغم من أن المسافة التي تفصل مجلس النواب عن مجلس الوزراء شارع، يطلق عليه منذ سبعينيات القرن الماضي، شارع مجلس الشعب. وأن الأولي بهم أن يقفوا أمام مجلس الوزراء. فهو السلطة التنفيذية التي يمكن أن تستجيب لمطالبهم. لكني لم أعرف سبب وقوفهم أمام البرلمان؟ هل يمنعهم رجال الأمن من الوقوف أمام مجلس الوزراء؟ أم أنهم يفضلون الوقوف أمام مجلس النواب؟.
لكن أخطر ما في هذه الظاهرة هو انسداد الطرق أمام أصحاب الحاجات ولجوؤهم إلي مثل هذه المحاولات للتعبير عن آرائهم. مع أنه من المفترض في مجتمع معمر وقديم مثل المجتمع المصري أن تكون هناك وسائل للتواصل بين فئات المجتمع عبر طرق متفق عليها.
ولأن الشيء بالشيء يذكر. وهذه الوقفات استدعت إلي ذاكرتي التظاهر باعتباره الحالة التالية لمثل هذه الوقفة. إن لم تأت الوقفة بالنتائج المرجوة. فلا يصبح أمام من يقفون سوي التفكير في التظاهر.
أعرف أن الدولة بعد توجيه من الرئيس السيسي قررت تطوير قانون التظاهر. وهي خطوة مهمة. وبعض رموز الدولة الذين تحدثوا عن أن القانون المصري معتدل. كانت هناك حالة دفاع غير عادية عن قانون التظاهر الحالي رغم عيوبه. ورغم العوار الذي يعتريه. لكن بمجرد أن شعر من يمثلون الحكومة بأن الرئيس ليس لديه مانع من إعادة النظر في قانون التظاهر حتي تسابق الجميع بسرعة نحو تغييره.
والتظاهر إما أن ننظر إليه علي أنه حق ينظمه القانون ونُشرِّع القوانين التي تنظم هذا الحق. أو أن نظل ننظر إليه علي أنه خروج علي العرف والتقاليد. بل ربما يصل في نظر البعض إلي حدود الجريمة. وهذا موقف خاطئ. فالتظاهر السلمي الذي يحافظ علي ما يمتلكه الشعب المصري ويعبر عما يريد التعبير عنه في إطار من القانون أمر يجب أن نوفره للجميع. لأن مجرد النظر للتظاهر باعتباره جريمة موقف له توابعه الكثيرة جداً. خاصة بين شبابنا الذين كنا نقول عنهم في الستينيات: نصف الحاضر وكل المستقبل.