لا يمكن لأحد أن ينكر أن محور المشاكل التي نعاني منها اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا يتركز بشكل أساسي في توفير الحياة الكريمة لجموع أبناء هذا الوطن. لابد وأن يوضع في الاعتبار من أجل توفير العمل الشريف لهؤلاء المواطنين التزايد المطرد وغير المنضبط لأعدادهم والذي بلغ في الستين عاما الماضية ما يقرب من ٧٠ مليون نسمة.
مهمة ايجاد العمل للملايين التي تدخل هذا السوق كل عام تتطلب ثورة في الفكر والسلوك الذي يمكن أن يستوعب أهمية تسهيل الاستثمار وإقامة المشروعات التي تتيح ما هو مطلوب من حرص عملي. الفكر السائد الذي تأسس بغشومية وسوء تقدير بعد ثورة ٢٣ يوليو كان محصلة تأثير مظالم الطبقية وسيطرة طبقة الأثرياء علي مقدرات الحياة. ما صدر من قرارات وما اتخذ من إجراءات لم يضع في الاعتبار الاحتياجات اللازمة لتوفير فرص العمل وأهمية الإنتاج. كان أحد هذه القرارات تأميم وتقزيم دور القطاع الخاص وهو الأمر الذي جعل مسئولية تشغيل وتوظيف البشر علي عاتق الحكومة وأجهزتها.
إذا كانت دولة ما بعد ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢ قد استطاعت الاضطلاع بهذه المهمة لعدة سنوات بعد اندلاعها.. فإن النتيجة تمثلت في الوصول بالعاملين في الجهاز الاداري للدولة حاليا الي ما يقرب من سبعة ملايين موظف. حدث ذلك في الوقت الذي اجمع فيه الخبراء علي ان كل ما نحتاجه لا يتجاوز مليون موظف فقط. إذن فإنه ليس من سبيل لمواجهة هذه الكارثة سوي أن تتضافر كل الجهود من أجل تقديم التسهيلات وكل أنواع الحوافز للقطاع الخاص المصري والخارجي لإقامة المشروعات الإنتاجية القادرة علي إتاحة فرصة العمل المنتجة.
هذه الحقيقة التي تؤمن بأهميتها وفاعليتها القيادات الواعية والفاهمة في هذه الدولة تواجه وللأسف حربا وصراعا من جانب مافيا الفساد التي أصبحت تعشش في كل أجهزة الدولة بصورة فاضحة وجلية في بعض محافظات الصعيد التي تحتاج إلي رؤية وتقدير أشمل لأهمية تشجيع المشروعات كثيفة العمالة.
في هذا الشأن تلقيت شكوي من أصحاب مصانع الطوب الطفلي في منطقة عرب أبوساعد مركز الصف محافظة الجيزة والتي يعمل بها عشرات الألوف من العمالة سواء المؤهلة دراسيا أو غير المؤهلة. ما يجمع بين هذه الآلاف الذين يعولون أسراً تضم الملايين هو لقمة العيش التي يحصلون عليها من الأجور التي يتقاضونها من أصحاب هذه المشروعات. إنهم يشكون من المغالاة في أسعار الغاز الذي يستعملونه لتشغيل مصانعهم ومن عمليات الابتزاز والجباية والرشاوي التي يتعرضون لها من العاملين في الأجهزة الحكومية بالمحليات ومن جماعات الأعراب المنتشرة في هذه المناطق.
كان من الطبيعي أن تنعكس تداعيات هذه المشاكل التي يعيشونها علي إنتاجهم الذي تحتاجه مشروعات التعمير. لا يقتصر الأمر علي تراجع هذا الإنتاج ولكنه يشمل أيضا اضطرارهم إلي رفع الأسعار للمنتجات. بناء علي هذا فإنه ليس هناك بد من أن تطول آثاره تكلفة عمليات البناء مما يزيد من أعباء المواطن المصري في النهاية.
الغريب والمدهش أنه لا أحد في هذه الدولة يهتم بشكاوي أو صراع هذه الصناعة وهو ما يمكن أن يعطي إحساسا بأن الدولة كلها متورطة في هذا الفساد. ليس من أمل في التحرك لإنقاذ ما يمكن إنقاذه لصالح أمن واستقرار هذه الدولة سوي تدخل القيادة السياسية العليا لإصلاح هذا الوضع الذي تفوح منه رائحة الفساد.